"حكومة خلاص وطني" في تونس جملة وافدة من الشرق العربي، فبعد أن استوردنا الانقلاب (لفظا وفعلا) ها نحن نلقي في الساحة بلفظ الخلاص الوطني. لقد كنا نتمنى الخلاص فقط للنفساء حتى يخلص وحلها (أي تلد)، وها قد وصلنا إلى تمني خلاص وحل البلدة عساها تلد ديمقراطية لا ينقلب عليها كل طائش وكل مغامر.
ألقت المعارضة الجملة بعد طول تدبر. المنتظر أو المؤمل أن تكون حكومة خلاص وطني لا تأتي بها دبابة لتسيطر على الحكم من دبابة سبقتها، لكن هل ستمتلك هذه الحكومة أسباب بقاء ونجاح؟ نناقش إمكانيات بقاء حكومة مدنية تحاول إنقاذ بلد من انقلاب مسلح بأدوات الدولة العنيفة، وهي سابقة في تاريخ الحكومات والانقلابات.
الإعلان يتجاوز المنقلب وردود فعله
عندما عقد البرلمان جلسته الافتراضية وأصدر القانون عدد واحد لسنة 2022 وأسقط به مراسيم الانقلاب، أظهر المنقلب ردا عنيفا وحرك آلة القضاء المطيعة له ليتهم النواب بجرم يؤدي إلى المشنقة، ولا تزال التحقيقات جارية. ونعتقد أن إعلان حكومة خلاص (أو إنقاذ) ستكون بمثابة إعلان حرب على المنقلب وحكومته التي عينها بنفسه.
نتوقع أنه ستكون مطاردة قضائية لأعضاء الحكومة، وستكون محاكمات تجمع (الوزراء) مع محاكمة النواب، بحيث ستكون قيادة المعارضة كلها أمام المحاكم، فهل يملك المنقلب قوة كافية لمواجهة معارضة نظمت نفسها ووضعت خطتها لتجاوزه؟
سؤالي عن قوة المنقلب ناتج عن آخر سبر للآراء من مؤسسات لا تجامل الرئيس فتعطيه أقل من 20 في المائة كنسبة رضا شعبي عن حكمه. المنقلب بعد شهور تسعة من الفشل المتكرر في إدارة البلد مختلف عن وضعه يوم 25 تموز/ يوليو، فحتى الإعلام الذي روج لحركته ووصفها بالتصحيحية تراجع عن ذلك وبدأ يعلن موقفا خائفا على بنيان الدولة والجمهورية التي أُنفق في بنائها الكثير من الجهد والأمل.
المنقلب يتراجع والمعارضة تتقدم في المجالات السياسية التي حاول إغلاقها، ولذلك فإن ردود الفعل ستكون عدوانية وسيزيد في عدوانيتها أن الأجهزة التي سايرته وحمت انقلابه سترى نفسها في وارد السقوط معه، لذلك ستدفعه إلى المزيد من القمع لأن ذلك هو منفذها الوحيد من محاسبة قاسية. هل ستكون حكومة شهداء؟ هي مغامرة نعم، لكن هناك محاذير تخفض سقف التوقعات.
حركة أخيرة لا تسمح بخطأ آخر
إعلان حكومة خلاص سيكون من وجهة نظر علوم السياسة حركة مدنية تنهي انقلابا وتشكل سابقة في تاريخ النضال السياسي المدني، ومن وجهة نظر الشارع المعارض خطوة كبيرة إلى الأمام، إنها حركة تجاوز نحو إنهاء الانقلاب لذلك لن يكون مسموحا لهذه الحكومة بأي خطأ ينقض غزلها.
إعلان الحكومة حركة حاسمة ضد الانقلاب ليس بعدها تراجع أو اعتذار أو فتح حوارات جانبية أو تفاوض، إنها حكومة قطيعة ولها ثمن باهظ كما سلف، حكومة لا حق لها في الخطأ.
من الأخطاء الخطيرة بناء الحكومة على توليفة حزبية أو محاصصة تنشغل بإرضاء جميع فصائل المعارضة المتجمعة الآن تحت عناوين متوافقة تقريبا على إسقاط الانقلاب، لكن نواياها تجاه بعضها البعض غير جلية (معاينتنا لواقع المعارضة يخفف من درجة تفاؤلنا بتوافق نضالي صادق، فنحن إزاء إخوة أعداء داخل غلاف ديمقراطي). لقد فشلت حكومات الثورة لأنها حرصت على إرضاء الجميع فلم تُرض أحدا، وقد خربت حكومات من داخلها لأن الشركاء كانوا يرغبون في أدوار أكبر من أحجامهم على الأرض.
من الأخطاء المحتملة إعلان حكومة دون إعلان برنامج إنقاذ اقتصادي واجتماعي. لقد خلق الإعلام المعادي للثورة وللديمقراطية حالة نفور من الطبقة السياسية التي حكمت بعد الثورة، وكثير من وجوه هذه المرحلة لا تزال فاعلة في المشهد المعارض بل منها تنبثق فكرة حكومة الخلاص، ولذلك فإن الاستقبال الشعبي لها لن يكون بالورود. ولهذا فهي مجبرة على إبراز برنامج إنقاذ حقيقي لا يقف عند السياسي، بل يتعداه وجوبا إلى إنقاذ اقتصادي سريع يطلق حركة نمو وتنمية اجتماعية تشغل الناس بما هو مهم، وتخرجهم من حالة البؤس التي دفعهم إليها الإعلام وأغرقهم فيها الانقلاب حتى أفقدهم كل أمل من السياسة.
إننا نرى إعلان البرنامج أكثر أهمية من إعلان الحكومة، وحوله يمكن تجميع عدد كبير من الناس ممن يرجون الخلاص الاقتصادي قبل الخلاص السياسي، بحيث تكون الحكومة أداة تنفيذ برنامج مقبول شعبيا بعد أن يخضع لتداول شعبي على نطاق واسع. وسيكون من المفيد لنجاح الحكومة (ولو بقيت حكومة افتراضية لمرحلة معينة) أن يسبقها إعلان خطة إنقاذ اقتصادي.
حوار الصراحة أو الصمت
الجهة التي أعلنت عن حكومة الخلاص الوطني قالت إن حوارا سيجري بين مكونات المعارضة الديمقراطية وفيه يعلن البرنامج ومنه تنبثق الحكومة. وهذه خطة سليمة (ولو أن الانقلاب سيمنع كل حركة تؤدي إلى الحوار). لذلك فإننا نكتب منبهين إلى أهمية خطة الإنقاذ الاقتصادي لتكون عنصر جذب لفئات واسعة تنتظر اتضاح الرؤية لما بعد الانقلاب.
هل يكون حوار الصراحة والصدق لتجاوز كل المخاتلة والنفاق الذي طبع تفاهمات كثيرة أفضت إلى فشل الحكم بعد الثورة؟ نتابع على سبيل المثال مناورات كثيرة لتقديم السيد نجيب الشابي بصورة المنقذ، لكن لم نتلق من السيد الشابي أية تطمينات على أن يسير فعلا في خطة إنقاذ وطني، وليس فقط ترتيب خروج سياسي مريح يرضي غروره ويفخر به تاريخ أسرته.
هل يصارح شركاء النهضة حزب النهضة وجمهوره المنظم بأن لا يتخذوه مطية إلى مواقع سلطة ولو بعد حين؟ فالسوابق كثيرة ولا تحفز على التقدم وراء معارضة تضمر احتقارا كبيرا للعنصر النهضوي وتعامله ككائن غبي.
هل يصارح حزب النهضة شركاءه بنواياه السياسية بعد سقوط الانقلاب ويكشف كل لعبته في التمكين السياسي؟
إذا كشف الحوار الوطني هذه النوايا فإن التقدم على طريق الديمقراطية يكون قد انطلق، وما الانقلاب إلا قوس يغلق بقليل من الصبر سيكون لحكومة الخلاص الوطني جمهورها وبرنامجها وخطتها النضالية.
حتى ذلك الحوار نحن في وضع المراقب الحذر، فقد سبق للنخب أن خدعتنا بطيبتنا وقد أخسرتنا الكثير، وكثير من خسارتنا يحملها السيد الشابي على كاهله.
نكتب في ليلة القدر ربي يخلص وحل تونس.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: