يتحدث جزء واسع من الطبقة السياسية بشكل علني وصريح عن كيفية إبعاد الرئيس قيس سعيد عن السلطة. لم يعد الأمر سرا أو همسا، بقدر ما تحول إلى مسألة أساسية مطروحة على جدول أعمال هؤلاء الغاضبين على رئيس الجمهورية، ويريدون التخلص منه في أقرب وقت ممكن. ومن المحتمل أن تتناول الجلسة الافتراضية لأعضاء البرلمان التي قد تعقد قريبا مقترح سحب الثقة من الرئيس، فماذا يعني ذلك؟ وهل خصوم الرئيس قادرون على تحقيق رغبتهم؟ وما هي الوسائل والسيناريوهات التي يقترحونها للوصول إلى هدفهم؟
يمكن القول بأن الرئيس سعيد قد استحوذ كليا على الدولة، وهرب بها نحو طريق لم يعد يحظى بتأييد أي حزب أو منظمة يُعتد بها في تونس. هو الذي يقرر، وهو الذي يشرع، وهو الذي يعاقب، وهو وحده الذي يصنع مستقبل البلاد والعباد. لم يعد هذا الأمر فرضية متخيلة، وإنما أصبحت واقعا معاشا ترسخه إيقاعات الحياة اليومية والقرارات المتتالية التي تنحت مشهدا أحاديا محددا.
المعارضون للرئيس مختلفون حول أشياء كثيرة، وهو الذي جعلهم يلعنون بعضهم بعضا، لكنهم بدأوا يتيقنون بأن نهاية المشوار مع قيس سعيد ستكون إخراجهم من التاريخ ودفنهم جميعا في عالم النسيان. فالخطر الذي يهددهم أصبح بمرور الأسابيع والأشهر خطرا وجوديا يتعلق ببقائهم أو زوالهم. هو يريد أن يستبدلهم جميعا وبدون استثناء، ويأتي بآخرين يشبهونه ويلتزمون بمشروعه. إنه يعمل من أجل إزاحة نخبة بكاملها، وليس فقط حزبا أو جماعة، من هنا وجد الجميع أنفسهم يفكرون في كيفية وضع حد للمسار الرئاسي.
بالنسبة لمؤيدي ما حدث يوم 25 تموز/ يوليو ورأوا فيه عملا ضروريا وحدثا تصحيحيا، يعملون حاليا على تذكير الرئيس سعيد بأنه ليس الوحيد الصانع لهذا الحدث، ولا يحق له الانفراد به والانحراف به نحو هدف آخر لم يشاورهم فيه ولم يشركهم في تحديد ملامحه، حتى إن بعضهم يلوح بسحب المبادرة منه وإجباره على العودة إلى المسار "الصحيح"، كيف؟ لا يجيبون على ذلك لأن الموازين ليست لصالحهم، وأن أوزانهم لا تضاهي شعبته التي لا تزال عالية حتى الآن.
أما الذين يعتبرون ما حصل انقلابا يجب التصدي إليه، فاختلفوا فيما بينهم حول كيفية المواجهة، إضافة إلى انعدام الثقة فيما بينهم، لكن رهانهم منذ بداية السنة الجارية، هو النزول إلى الشارع في محاولة منهم زعزعة رئاسة الجمهورية وتأليب الرأي العام. بعد ثلاثة أشهر من التحركات الميدانية داخل تونس وخارجها، بدا جليا أن ذلك لم يؤثر قيد أنملة على قرارات الرئيس أو على شخصه، فبقي واقفا كالعمود لا يعبأ بما يجري حوله أو ضده.
ظن البعض أن الضغط الخارجي سلاح فعال من شأنه أن يثني الرئيس عن مساره. توالت التصريحات والزيارات والبيانات دون جدوى، وتجلى ذلك بالخصوص في الامتعاض الأمريكي مما يحدث في تونس، كما تم التلويح في أكثر من مناسبة بالعقوبات الاقتصادية، خاصة مع الحاجة المتزايدة للحكومة للحصول على قرض عاجل من صندوق النقد الدولي، مع ذلك بقي موقف سعيد ثابتا لم يتغير.
إن المراهنة على التدخل الخارجي يشكل في حد ذاته، حرجا أخلاقيا وسياسيا لكل من يستعين بدولة أجنبية من أجل مساعدته على التخلص من خصمه في الداخل. لكن الكثير من المعارضات في العالم اضطرت في تجارب عديدة لاستعمال هذا السلاح ذي الحدين عندما انسدت الأبواب في وجهها، ورفضت الأنظمة الحوار أو تعديل سياساتها. مع ذلك، لا توجد مؤشرات يمكن الاستناد عليها للقول بوجود خطة خارجية تهدف عمليا وحاليا نحو إزاحة قيس عن الحكم.
في الفترة الأخيرة عاد الحديث عن دور الجيش في إمكانية إنجاز هذه المهمة، لكن لا أحد يعلم بأن هناك داخل المؤسسة العسكرية من يفكر في مثل هذا السيناريو، رغم الدور الحاسم الذي قام به العسكر في نجاح عملية 25 تموز/ يوليو، وتثبيت قيس سعيد كرئيس مطلق اليد والصلاحيات.
وهناك من دعا إلى الاستفادة من الصيغة السودانية، حين تحالف الجيش مع القوى المدنية والسياسية لإزاحة عمر البشير. هذا السيناريو خطير جدا، إنه بمثابة اللعب بالنار؛ فالقيام بانقلاب ضد انقلاب مدني قد يدفع بالبلد نحو المجهول، ويمكن أن تترتب عنه نتائج لا يستطيع التونسيون تحمل نتائجها لسنوات طويلة من شأنها أن تغير من طبيعة السلطة وعقلية النخب، وبذلك يمكن أن تخسر تونس نهائيا فرصة التحول إلى دولة ديمقراطية.
ما العمل للخروج من هذا المأزق الحاد؟ سؤال لا يجوز التسرع في الإجابة عنه. المؤكد أن الأحوال في تونس تسوء يوما بعد يوم مقابل الرئيس سعيد الذي يعتمد على سياسة الأرض المحروقة، غير عابئ بالجميع. وبما أن الأوضاع لا تزال متواصلة على ما هي عليه، فذلك يعني أن البلاد لم تصل بعد إلى نقطة الانهيار الكبير. والأهم من ذلك أن خصوم الرئيس لم يشرعوا حتى الآن في القيام بنقدهم الذاتي، أو يحددوا بشكل موضوعي مسؤوليتهم الشخصية في الأزمة الراهنة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: