ورثنا من زمن الدكتاتورية خطأ منهجيا في التحليل لا يزال يفسد علينا الرؤية الصواب أو ما يجب أن يكون صوابا وقد تحررنا (إلى حد) من ربقة الدكتاتورية. هذا الخطأ هو التسليم بأن كل معارض للسلطة يفعل الصواب ويخطط للخير وبالتالي فهو منزه عن كل غرض فاسد ويجب الوقوف معه بلا أدنى مساءلة عن دوافعه وعن نواياه وعن بدائله للسلطة التي يعارضها. لقد كشفت لنا فسحة الحرية أن معارضي السلطة لا يقلون عنها فسادا أخلاقيا وأن بدائلهم ليست بالضرورة أفضل من فعل السلطة التي جرونا إلى معارضتها. لقد آن للتحليل أن يخرج من المسلمة البلهاء أن معارضي السلطة أفضل منها. دون أن يقع المرء بالضرورة في تمجيد السلطة لكن نزع القداسة عن المعارضة صار ضرورة منهجية لفهم ما يجري وما قد يكون.
النقابة التونسية أفسد من كل الحكومات
في تونس حظيت النقابة (الاتحاد العام التونسي للشغل) بمكانة مقدسة في نفوس كل من عارض السلطة خاصة بعد العام سبعين والتحول إلى نمط اقتصادي ليبرالي هجين. لقد صنعت النقابة لنفسها صورة حامي الفقراء والمهمشين. وروجت لخطاب ثوري وصار كل نقابي زعيما شعبيا. وقد أفلحت النقابة في بناء متخيل خاص يستند إلى أن النقابة قادت معركة تحرر وطني ضد الاستعمار المباشر. واستثمرت في حادثة اغتيال النقابي المؤسس فرحات حشاد فوضعته كشخص زعيم فوق كل النقد أو المراجعة.
في مرحلة اشتداد الدكتاتورية وانعدام فرص معارضة مدنية صريحة (كمنع تكوين الأحزاب) وجد كل سياسي مدني في النقابة ستارا يتخفى داخله ليعارض السلطة وكان يجري تقاسم المواقع داخل النقابة بنظام المحاصصة الحزبية وتوزع مقاعد التنفيذي قبل عقد المؤتمرات. ومن هنا جاءت تسمية الخيمة (التي تظل كل مضطهد وكل معارض وطني لسلطة عميلة تابعة. دون أي سؤال عن مشروعية ذلك من وجهة نظر ديمقراطية). هذه السلطة وهذا الدور حولا النقابة إلى بؤرة دكتاتورية لا تختلف بل ربما أسوأ من السلطة وقد كانت لها دوما ميليشيا لضرب المخالفين. وقد كان النقابيون يغلقون بابها ضد كل دخيل خاصة من الإسلاميين وفي ردهات كثيرة عملت النقابة كذراع للسلطة في معركتها ضد الإسلاميين.
انكشفت النقابة بعد الثورة كجزء من منظومة الحكم الفاسدة وقد واصلت دورها بعد الثورة في خدمة السلطة الساقطة فخربت كل خطوة قطعت في اتجاه تجسيد مطالب الثورة. وهي تقف الآن بلا مواربة مع الانقلاب وتحميه من كل احتجاج شعبي محتمل على غلاء المعيشة وتأخر الرواتب. وتروج في الأثناء أنها خيمة كل تونسي مضطهد. إن السلطة لم تبلغ في مستويات الكذب السياسي ما بلغته النقابة. ولن يتسع المجال لسرد الفظاعات النقابية وآخرها العبث بقانونها الداخلي لتظل قيادتها في مواقعها.
الأحزاب بؤر فساد سياسي
ولدت الأحزاب في المعارضة زمن الدكتاتورية. وأثبتت أن الحزب الواحد الجامع باسم الوحدة القومية كان جريمة سياسية صنعها الزعيم بورقيبة فالتعددية واقع فعلي قبل الاستقلال وبعده. وفي زمن الدكتاتورية كان مجرد تأليف حزيب سياسي يحول قيادته إلى أبطال شعبيين. كيف وقد تجرؤوا على معارضة السلطة. لكن لا أحد كان ينفذ إلى داخل الأحزاب ليرى طرق تسييرها الداخلي والتزامها بالديمقراطية في هياكلها. وكانت معارضة الدكتاتورية مبررا للتغافل عن الأمر فالعمل الحزبي يجري في السرية والديمقراطية مؤجلة. بعد الثورة انكشفت أن الإرجاء الديمقراطي فعل من صميم الفساد الحزبي. فالزعامات (ولا نستثني أحدا) حولت جمهورها الحزبي إلى قطعان تسمع وتطيع. وكان هذا أحد أهم أسباب فشلها في التطور الداخلي والانسجام مع شروط الديمقراطية. حتى أن الحزيبات التي ظهرت بعد الثورة أعادت إنتاج نفس الأخطاء السياسية أي تحويل الأنصار إلى قطيع وراء الزعيم الفذ. لقد كانت أحزابا على نفس منوال حزب السلطة أو نسخا رديئة منه. والحزيبات التي لم تفلح في توليف قطيع انتهت تجتر خيباتها في المقاهي. أما الزعامات السياسية المعارضة فلم تكن أكثر من نسخ رديئة من الزعيم الميت.
انكشاف الهالات المزيفة
مزية الثورة أنها أزالت الكثير من الغشاوة وفضحت النقابة والأحزاب فهي ليست أفضل من حزب السلطة. لقد أفقدتها التعاطف القديم بصفتها كتلا من الفرسان الشجعان تقف في وجه السلطة الغاشمة (لقد كانت تلك صورة مزيفة بنتها النقابة والأحزاب حولها وسلمنا لها بها ربما تخففا من كلفة النضال). والذين تحرروا من الغشاوة ابتعدوا عن الأحزاب والنقابة ولكنهم عجزوا عن تأليف كيانات أخرى وذلك أيضا راجع في تقديرنا للسمعة السيئة التي التصقت بالعمل الحزبي والنقابي جراء ممارسات هؤلاء الذين لا يتطورون ولا يسمحون للساحة بأن تتطور. ومن دلائل الفشل الحزبي أن يحكم البلد شخص لم ينخرط في حزب ولا نقابة ولم يناضل نضالا كان يبدو من الخارج نبيلا ولكنه يحسن تمويه فساده باسم المعارضة الشجاعة. لقد استثمر المنقلب في رداءة المشهد الحزبي القديم الجديد وأفلح.
وإننا نعاين مرة أخرى محاولة الأحزاب الاستيلاء على التيار المعارض للانقلاب وتجييره لمصالحها الحزبية دون سؤال أخلاقي عن مشروعية ذلك وهو السؤال الذي كان يقتضي سؤالا أول عن تقييم الأحزاب والنقابات لأدوارها وممارساتها ومدى إسهامها في تخريب الساحة السياسية.
لقد تطلبت الساحة السياسية المفتوحة لتيار شبابي واسع وغير متحزب قبل الثورة قيادات سياسية جديدة وعملا حزبيا ديمقراطيا. لكن القيادات التاريخية التي استفادت من التقديس القديم ظلت متمسكة بالواجهة وبطرقها السابقة على الثورة واعتبرت كل نقد لها هو طعن في شرعيتها التاريخية. وصادرت بذلك كل أمل في تغيير النخب. وهذا سبب كبير في جنوح غير المتحزبين إلى رئيس بلا حزب فهو انتقام لهم من المتحزبين ومن القيادات الحزبية الواقفة حاجزا ضد التغيير.
هنا يحين أوان نزع الهالة التقديسية عن هذه القيادات النقابية والحزبية وتفكيك وهم قداستها. بل إننا نعاين سقوط هذه القداسة من النفوس قبل أن نكتب عن ضرورتها. لقد تجاوز الناس العاديون الأحزاب والنقابة وخلصوا إلى أن اللا انتماء إليها أفضل من البقاء تحت سقف شيوخ السياسة الذين كلما حاورهم المرء في ضرورة الديمقراطية دمغوه بالشرعية التاريخية.
هل دافعنا عمن في السلطة؟ لا لم نفعل لقد حررنا أنفسنا من تعاطف مرضي مع كل من يزعم المعارضة وهو أقل كفاءة ممن يحكم. لم نتحدث هنا عن أن كل من كان في معارضة الدكتاتورية وأتاحت له الثورة فرصة مشاركة في الحكم لم يفعل سوى أن أعاد إنتاج سياسات السلطة التي أسقطتها الثورة. ولهذا حديث آخر قريبا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: