من ركائز خطاب الثورة المضادة وأبواق الانقلاب في تونس أن العشرية الماضية أي عشرية الثورة كانت عشرية سوداء لم تجلب غير الخراب والدمار ولم تُعقّب غير الإفلاس وصولا إلى الجوع والانهيار. يمثل هذا القول الذي رسخ في ذهن كثير من العوام وحتى النخب منطلقا هاما لقراءة هذه السردية المركزية التي توصّف حقا أريد به باطل وتكشف القناع عن واحدة من أكبر أكاذيب الثورة المضادة وأساطيرها في تونس وفي كل مجال الثورات العربية.
لم تكن تصفية الثورات ممكنة ولم يكن الانقلاب عليها لينجح لو لم ينجح القصف الإعلامي المركّز في ترسيخ صورة قاتمة عن الثورات وعن تغيير الأنظمة. إن تدمير حصون الوعي الجمعي للجماهير المنتشية بسكرة الثورة وإسقاط النظام ما كان ليكون دون خوض حرب على جبهتين أساسيتين: جبهة الواقع الاجتماعي والاقتصادي للشعوب وجبهة الخطاب المنطلق من تزييف أسباب هذا الواقع وجذوره لإقناع الناس بوصفٍ مزيّف لحقيقة لا تقبل الدحض.
شيطنة الثورات
شيطنة الثورات استراتيجية دوليةٌ محكمةُ التأسيس والبناء والتنفيذ نهضت بها أطراف إقليمية يومَ كانت القوى العالمية والنظام الرسمي العربي أعجز من مواجهة الملايين الزاحفة في الساحات والميادين. كانت هذه الاستراتيجية تقوم على الاستفادة من عامل أساسي وهو عامل الزمن حتى تتآكل المسارات من الداخل ويسهل هدمها.
لن نخوض هنا في ما حدث على الأرض من مذابح ومجازر وجرائم تقشعر لها الأبدان في كل الدول التي تجرأت على إسقاط نظام الوكالة الاستعماري الحاكم منذ 2011. لن نخوض أيضا فيما قوبلت به من صمت دولي رسمي ومدني يتنزّل منزل المتواطئ مع الجريمة رغم كل ما تلحف به من أقنعة حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها. قامت قوى السلطة العسكرية والأمنية القائمة في مصر وليبيا وسوريا واليمن وتونس بارتكاب أبشع المحارق من اغتيالات وحرق للناس في الشوارع وقصف بالبراميل والقنابل وصولا إلى الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا. ليس هذا مدار الحديث هنا رغم كونه كفيل بتعرية حقيقة هذه الأنظمة وكشف جوهرها بما هي أبشع فعلا من كل الغزاة والمحتلين وجيوشهم.
مدار الحديث هنا عن الخطاب الذي صاحب هذه الجرائم وكيف نجحت قوى الثورة المضادة بأذرعها المحلية وروافدها الإقليمية ومراكزها الدولية في تصفية الثورات في ذهن الجماهير قبل تصفيتها على أرض الواقع. أي أنّ الحرب الإعلامية والنفسية كانت مقدمّة ضرورية وشرطا حتميا للبدء في ذبح الثورات وتدمير مساراتها.
لا يُلغي هذا القولُ المسؤولية التاريخية لمختلف القوى التي تصدّرت المشهد بعد سقوط الأنظمة مباشرة وعلى رأسها الإسلاميون ومجموع القوى الثورية التي حكمت أو كانت جزءا من مشهد الحكم. فهي تتحمل أكبر جزء من المسؤولية لأنها أثبتت عجزها عن تحصين الثورات سواء كان ذلك عن قصد أو عن غفلة وهو ما لا يعفيها من المساءلة ومن المحاسبة التاريخية.
كان المناخ العام أيام الثورات وبعدها بأشهر مناخا حماسيا ثوريا بامتياز فلا صوت يعلو فوق صوت الثورة والجماهير المطالبة بالحرية والعدالة وبإسقاط النظام كل النظام. أصاب هذا المشهد المفاجئ أركان النظام القديم وأبواقه بالصدمة والذهول وكانوا يتوقعون أن تنصب المحاكم الشعبية وأنّ لا أحد سينجو من المحاسبة والقصاص على عظيم الجرائم التي ارتكبت طوال عقود من عمر الاستبداد.
لكنّ الأيادي المرتعشة التي تسلمت السلطة بعد الثورة خيّرت المصالحة والتعايش مع الأفاعي التي سرعان ما استعادت عافيتها وأمنت العقاب فعادت أشرس مما كانت. لم تُدرك القوى التي أدارت مشهد ما بعد الثورات أن الصراع مع قوى الدولة العميقة وأذرعها في الداخل هو صراع وجود لا حياة فيه إلا لأحد الفريقين وأنّ التعايش مع الاستبداد والصفح عن أعوانه هو انتحار جماعي لا شك فيه.
أدوات الشيطنة
بعد امتصاص الصدمة الأولى وبعد أن أدركت الدول العميقة مبكرا أنّ الثورة بلا أنياب وأنها لا تملك الوعي الكافي للتعامل مع أذرع الاستبداد المتغلغلة في كل مفاصل الدولة انطلقت عملية الشيطنة والتشويه. كانت السلطة العربية قبل الثورات تملك أذرعا شديدة الامتداد والتمكّن داخل الكيانات السياسية من أحزاب وكتل وبرلمانات لكنها كانت توجّه كذلك أذرعا غير سياسية مثل المؤسسات الإعلامية والنقابات العمالية والمؤسسات الدينية ومنظمات رجال الأعمال وطبقات الفنانين والكتاب والمثقفين والجامعيين...
كان النظام العربي بعقله الشمولي يمنع أن تُفلت أية نقطة من الفضاء الرمزي أو المادي من سيطرته ونفوذه سواء كانت سياسية أو مدنية حكومية أو خاصة. فالنظام هو الدولة وهو الشعب والمجتمع والاقتصاد والفن والثقافة والتعليم والدين وهو الهواء الذي يتنفسه المواطن. إنه السلطة والمعارضة في جسد واحد.
سياسيا نجحت الأحزاب التي تصدّرت المشهد بعد الثورة في رفع شعاراتها القديمة والجديدة متأقلمة بيُسر وسلاسة مع الواقع الجديد. عاد القوميون إلى شعارات الحرية والوحدة والدفاع عن الشعب باسم التقدمية وخاصة باسم محاربة الرجعية وهو أخطر شعاراتها. أما أحزاب اليسار فقد استعادت خطابها القديم في الدفاع عن حقوق العمال والطبقات الفقيرة ومواجهة الرأسمالية والبورجوازية المتوحشة على حدّ تعبيرها لكنها هي أيضا رفعت شعار محاربة الرجعية والظلامية وهو أخطر شعاراتها. أما الأحزاب الديمقراطية اللبرالية فقد تبنت شعار الدولة المدنية الذي يتضمن حتما محاربة الدولة الدينية تحت يافطة التحرر والانفتاح وحقوق الإنسان. كانت كل هذه الدكاكين الحزبية من أذرع الثورة المضادة تستعيد في الحقيقة مشروع الاستبداد الذي يتخفى وراء قناع محاربة الرجعية والظلامية وإعلاء قيم الدولة المدنية.
كان هذا المشروع يهدف إلى محاربة كل إمكانات التحرر من الاستبداد والتمكّن من شروط الحرية والتمكين لدولة العدالة الاجتماعية تحت شعار محاربة " الإسلام السياسي " الذي يتضمّن محمول الرجعية والظلامية والدولة الدينية المتطرفة حسب رأيهم.
سياسيا حمل مشروع الأحزاب الوظيفية لواء محاربة الرجعية والظلامية والدولة الدينية فلعب دورا مركزيا بين أدوات التشويه والترذيل باعتبار كل مشروع سياسي جديد هو مشروع إخواني ظلامي يهدف إلى تدمير أسس الدولة الوطنية التي لم يكن لها وجود أصلا. أما على الجبهة الدينية فكانت تهمة الإرهاب والتطرف والعنف أبرز الأدوات التي استعملت في تشويه الثورات بعد أن نجح النظام الرسمي في صناعة الجماعات المقاتلة ونشرها في مجال الثورات لتخريب كل المسارات الانتقالية وتبرير قمعها نسجا على منوال السلطات الجزائرية في التسعينات.
أما على المستوى المدني فقد نشطت المنظمات العمالية كما هو الحال في تونس في تنظيم آلاف الإضرابات العشوائية والإعتصامات المطلبية في سياق حساس وهو الأمر الذي دمّر الكفاءة الاقتصادية للدولة وضاعف من معاناة الطبقات الفقيرة والمتوسطة بعد الارتفاع الكبير في الأسعار وندرة السلع.
لم تخرج جوقة الثقافة والمثقفين من إعلاميين وفنانين وأكادميين وباحثين وخاصة من "جامعيّي 7 نوفمبر" عن النسق التخريبي العام بوصف الثورة مؤامرة أطلسية صهيونية وأنّ الربيع العربي خريف إسلامي وأنّ الحرية بذخ أوروبي لا نستحقه. شكّل هؤلاء أخطر الأحزمة التي عصفت بالمسار الثوري بسبب قدراتهم التواصلية وقربهم من الجماهير وبفضل المنابر والأدوات التي وفرتها لهم الدولة العميقة.
وفّر الناطقون باسم الثورة وعلى رأسهم الإسلاميون كل أسباب نجاح الشيطنة عبر تحالفهم المشبوه مع أذرع الدولة العميقة ورفضهم محاسبة الإرث الاستبدادي وجلادي النظام السابق. إذ لم يكتف هؤلاء بالعفو عن أذرع السلطة بل تحالفوا معهم في أكثر من مناسبة ومكّنوهم من مناصب هامة في البناء السياسي الجديد.
عشرية الحرية والكرامة الوطنية
كانت عشرية الثورات أعظم الأطوار الحضارية في تاريخ الأمة قدرةً وفعلا ومسارا. فقد نجحت الشعوب في إسقاط مجموعة من أبشع الأنظمة الاستبدادية عبر العالم وسفّهت مقولات عجز الأمة وموتها وبرهنت بحق أنها أمة واحدة حيّة فاعلة. هكذا تمكنت من تكريس مسار ديمقراطي مدني عبر مناسبات انتخابية تعددية نزيهة جرت في كنف السلمية واحترام الآخر قبل أن تنقلب عليها الأنظمة العسكرية.
لقد فنّدت المسارات الانتقالية نظرية العنف المتأصلة في الكيانات العربية حيث لم تنهج الثورات إلى الانتقام أو التشفي من جلاّدي الأمس على بشاعة جرائمهم وجنحت إلى السلم بين مكونات المجتمع الواحد. لم ترفع الجماهير شعارات القصاص والثأر بل انخرطت في مسارات سلمية خاصة في تونس ومصر مؤكدة على شرطي الحرية والعدالة الاجتماعية. ولم يظهر العنف في مسارات الثورات إلا عندما سلحّت الأنظمة مليشياتها وكتائبها وشبيحتها وأطلقت الرصاص الحي على المتظاهرين السلمييين لتتحول ثورة ليبيا وسوريا إلى مسارات مسلحة.
أمّا أخطر ما أنجزته الثورات فيتمثل في قدرتها السريعة على كشف بشاعة المشهد العربي وتبيين وهم الاستقلال وأكذوبة الدولة الوطنية وزيف شعارات النضال والمقاومة التي تلحفت بها نخب كثيرة. لقد نجحت الثورات في كشف دور كل الفواعل في المشهد وأبانت بوضوح أن النظام لم يكن غير رأس جبل الجليد وأن الدولة العميقة أعمق مما كنّا نتصوّر وأبشع.
أظهرت الثورة كذلك تهافت النخب العربية المحسوبة على التيار الثوري بقياداتها التاريخية التي ساهمت عن قصد أو عن غفلة في إحياء الاستبداد بعد أن استعادت صراعاتها البائسة القديمة ولم تدرك أن التاريخ قد تغيّر وأن سياق اليوم غير سياق الأمس.
إن قدرة الدولة العميقة على شيطنة الثورات يؤكد أنها كانت قابلة للشيطنة وأنها لم تُطوّر خلايا المناعة القادرة على تحصينها من السقوط والانكسار. هذه القابلية تتجلى في تحوّل الوعي الشعبي العام من الحماسة الثورية إلى اليأس من قدرتها على التغيير وهو ما سيتطلّب جيلا أو أكثر لمراكمة وعي ثوري جديد غير قابل للشيطنة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: