لا يغير مقتل خليفة تنظيم الدولة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي على يد قوات أمريكية خاصة من صورة المشهد الجهادي العالمي، فقد قتل زعيم وبقي التنظيم، وسرعان ما سيتم تعيين خليفة آخر. وكان تنظيم الدولة قد بعث برسالة واضحة تؤشر على حياته وازدهاره من خلال الهجوم الكبير على سجن يديره الأكراد في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، إذ لا يعدو مقتل "الهاشمي" عن كونه نجاحاً تكتيكياً ورمزياً. فتنظيم الدولة لن يتأثر على الصعيد العملياتي والاستراتيجي، وقد أصبح قتل قادة الجهادية العالمية ذوي القيمة العالية عن طريق قوات خاصة أمريكية تقليد رئاسي أمريكي، لاستعراض القوة والاستثمار السياسي في زمن الحرب على الإرهاب.
منذ انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب على الإرهاب عقب الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ادعى كافة الرؤساء الأمريكيين أن عمليات القتل المستهدفة لقادة التنظيمات المدرجة على قوائم الإرهاب الأمريكية وإرسال قوات لمحاربة الإرهاب؛ سوف تحلب الأمن لأمريكا والعالم وتخفض من حجم التهديد الإرهابي، لكن نظرة خاطفة على حصيلة حرب الإرهاب بعد أكثر من عشرين عاماً، تكشف بصورة جلية أن الاستراتيجية العسكرية التي ما تزال الولايات المتحدة تنتهجها لخفض تهديد الإرهاب لم تفشل وحسب؛ بل إنها جعلت الأمور أسوأ على الأرجح.
فالولايات المتحدة لم تحرز تقدماً يُذكر نحو ضمان سلامة أمريكا على المدى الطويل من الإرهاب العالمي، فقد وجدت أمريكا نفسها تعود مرة أخرى إلى نقطة البداية مع عودة سيطرة طالبان على أفغانستان وتوفير ملاذ آمن للقاعدة، وأدت حرب الإرهاب الأمريكية إلى بروز نهج جهادي عالمي أكثر خطورة مع تنظيم الدولة، وأصبحت الجهادية العالمية شبكة عالمية ممتدة وأكثر خطورة؛ ليس من أولوياتها النكاية ومهاجمة أمريكا على غرار 11 أيلول/ سبتمبر، وإنما باتت أولوياتها تتمثل بالسيطرة المكانية والتمكين وإقامة خلافة محلية.
رغم تعاظم الأصوات الأمريكية بضرورة وضع حد للحرب الأبدية على الإرهاب التي أدت إلى تنامي مخاطر الإرهاب، والتفرغ للأولويات الاستراتيجية التي تشكل تحدياً للهيمنة الأمريكية، لا زالت الولايات المتحدة منخرطة في حرب لا نهاية لها، وهو ما يكشف أن حرب الإرهاب كانت أداة للهيمنة.
وفي معظم الحالات فإن ما يسمى الإرهاب هو حالة عنف سياسي محلي، فالمشكلة المركزية بالنسبة للجماعات الجهادية تكمن في تواجد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لا في وجودها كأمة في حد ذاته، حسب إريك غيوبنر وتريفور ثرول. وبدلاً عن ذلك، عمدت الولايات المتحدة إلى تبني استراتيجية عدوانية مركزة على التدخل العسكري، وقامت بغزو بلدين وأطاحت بثلاثة أنظمة حكم، ونفذت عمليات عسكرية في ثماني دول.
وكانت الخطة تقضي "بتدمير التنظيمات الإرهابية التي تتوافر على وصول عالمي"، وفقاً لكلمات استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش. ومع أن الرئيسين بوش وأوباما تحدثا عن الحاجة إلى إعادة بناء أفغانستان والعراق وتغيير الظروف التي أفضت إلى نشوء الإرهاب في المقام الأول، فقد ركزت الاستراتيجية الأمريكية من الناحية العملية على قتل أكبر عدد ممكن من المقاتلين الجهاديين. في الحقيقة، لم تخفض الجهود الأمريكية مادياً تهديد الإرهاب في الشرق الأوسط، وقد تكون زادته.
في حقيقة الأمر تجد الولايات المتحدة نفسها منخرطة في ما تطلق عليه الحرب على الإرهاب رغم الحديث عن تبدل الأولويات، إذ تشكل الحرب على الإرهاب قمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وهي سياسة ثابتة منذ نهاية الحرب الباردة عموماً، وبعد هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر خصوصاً.
فقد شدد بايدن على الاستمرار بمحاربة القاعدة وداعش، شأن أسلافه، لكن مقاربة بايدن العسكرية التي يصفها بالذكية تستند إلى التقليل من استخدام القوة والاعتماد على الدبلوماسية والحلفاء، فهو يقول في ورقة نشرها في مجلة "فورين أفيرز" في نيسان/ أبريل 2020، بعنوان: "لماذا يجب أن تقود أمريكا مرة أخرى: إنقاذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد ترامب": "يجب إعادة معظم قواتنا من أفغانستان والشرق الأوسط وإعادة تعريف مهمتنا هناك وبشكل أضيق لتكون دحر القاعدة وداعش.. بإمكاننا أن نكون أقوياء وأذكياء في ذات الوقت. هناك فرق كبير بين إرسال وحشد قوات عسكرية كبيرة ولمدى مفتوح، وبين استخدام بضع مئات من القوات الخاصة والاستخبارات لدعم شركائنا المحليين ضد عدونا المشترك". ولا تبدو سياسة بايدن في هذا السياق مختلفة عن سلفه ترامب.
إن تركيز الولايات المتحدة طوال تاريخها ينصب في الأغلب على تهديد الإرهاب الأيديولوجي. وكانت مكافحة الإرهاب حتى في ظل هذه الظروف تحدياً دائماً، حسب الخبيرين بروس هوفمان وجاكوب وير، لكن هذه التهديدات باتت اليوم أكثر انتشاراً وتنوعاً وتعقيداً، وتتراوح من الدول المنافسة إلى الدول المارقة، ومن الحرب التقليدية إلى مكافحة الانتشار النووي، وتعزيز مكافحة التغير المناخي، والجائحة العالمية والهجمات الإلكترونية اليومية التي تطمس الفروق بين الدول والعصابات الإجرامية.
وقد شكل عام 2021 نقطة تحول في كل من الإرهاب المحلي والدولي، حيث شهد الهجوم المميت على مبنى الكابيتول الأمريكي والنهاية الفوضوية لأطول حرب أمريكية، إذ نادراً ما تعرضت حملة مكافحة الإرهاب في تاريخ الولايات المتحدة لضربة مزدوجة مدمرة في عام واحد. وكلا الحدثين يشيران إلى أن الولايات المتحدة تتجه إلى مستقبل أكثر قتامة وأكثر غموضا في مجال مكافحة الإرهاب.
إن مقتل زعيم تنظيم الدولة أبو إبراهيم الهاشمي لا يعدو عن كونه نصراً معنوياً رمزياً، فسرعان ما سيخلفه قائد جديد، وهو ما يؤكد فشل تكتيكات "قطع الرؤوس". فالمنظمات التي تتمتع بهياكل بيروقراطية راسخة، وأيديولوجية جاذبة، وتمويلات كافية، وتتمتع بالمرونة قادرة على التكيّف، وسوف يواصل القائد الجديد لتنظيم "الدولة" نهجه على خطى أسلافه.
تشير الحقائق التاريخية إلى أن تنظيم الدولة من أكثر التنظيمات الجهادية تطوراً على صعيد تماسك الهيكلية التنظيمية والصلابة الأيديولوجية، فقد شكّل التنظيم طفرة في تطور نشاط الجماعات "الجهادية" العالمية، وبدت هيكليته وأيديولوجيته مبتكرة في العديد من خصائصها واستراتيجياتها. فرغم طرد تنظيم الدولة من مناطق سيطرته الحضرية المدينية في العراق وسوريا، فإن التنظيم لا يزال يتمتع بقدرات قتالية وتمويلية وإعلامية كبيرة.
فقد كشفت الوقائع الميدانية عن سرعة تكيّف التنظيم مع التطورت الميدانية، وتمتعه بمرونة شديدة بالتحول من نهج المركزية إلى حالة اللا مركزية، حيث تمكن من إجراء إعادة هيكلة تنظيمية على الصعيد العسكري والأمني والإداري والشرعي والإعلامي. فمع نهاية المشروع السياسي للتنظيم كدولة "خلافة"، عاد إلى حالة "المنظمة"، ورجع إلى الاعتماد على تكتيكاته القتالية التقليدية بالاعتماد على نهج الاستنزاف وحرب العصابات.
إن نظرة خاطفة على مسارات تشكل تنظيم الدولة، تؤكد على وجود منظمة بيروقراطية شديدة التعقيد ومتماسكة ومرنة، وتتمتع بقدرة كبيرة على التطور والتكيّف. وتشير سرعة عملية الانتقال الأخيرة لقيادة جديدة إلى أحد مناحي التطور، فعندما قُتل الزرقاوي (أحمد فضيل الخلايلة) في 6 حزيران/ يونيو 2006، ترك لخلفائه منظمة متماسكة وقوية ونافذة. وقد تولى أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي)، وهو ضابط سابق في الجيش العراقي المنحل تأسيس "دولة العراق الإسلامية" في 15 تشرين الثاني/ أكتوبر 2006، وفي عهده تحول التنظيم إلى منظمة بيروقراطية أكثر مركزية. وعندما أعلن عن مقتل أبو عمر البغدادي في 19 أبريل/ نيسان 2010، إلى جانب أبي حمزه المهاجر، بادر تنظيم "دولة العراق الإسلامية" في 16 أيار/ مايو 2010، إلى بيعة أبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد البدري السامرائي)، وعقب مقتل أبي بكر البغدادي في 26 تشرين أول/ أكتوبر 2019، سارع التنظيم إلى تعيين أبي إبراهيم الهاشمي القرشي (أمير محمد سعيد عبد الرحمن مولى). وبصرف النظر عن هوية القائد الجديد فإن التنظيم سيبقى.
في سياق الحرب على الإرهاب بات الإعلان عن قتل قائد جهادي عالي القيمة متلازمة رئاسية أمريكية، فقد أعلن جورج بوش عن قتل أبي مصعب الزرقاوي، واحتفى باراك اوباما بقتل أسامة بن لادن، واحتفل دونالد ترامب بقتل أبي بكر البغدادي، وجاء الدور على جو بايدن للتبشير بمقتل أبي إبراهيم الهاشمي القرشي. ولا تختلف بيانات الرئاسة في مضمونها بأن العالم أصبح أكثر آمناً، والتأكيد على ديمومة الحرب على الإرهاب، لكن الحقيقة أن ما يطلق عليه "الإرهاب" يتنامى ويصبح أكثر خطورة وأوسع انتشاراً.
لم يكن ثمة فحص حقيقي لكيفية استخدام مصطلح الإرهاب وللظروف الحالية التي سمحت للولايات المتحدة بتولي الدور الفريد والمفرد لمحكَّم الإرهاب، حسب محمد رضا بهنام، حيث تحدد الولايات المتحدة مَن وما الذي يشكل تهديداً للعالم. كما لم يكن هناك الكثير من التفكير في الكيفية التي تسببت بها السياسات الأمريكية في إحداث غضب وألم هائلين في الشرق الأوسط، فقد بنى الرئيس جورج دبليو بوش حربه على الإرهاب على أكاذيب لم يتم تفكيكها بعد، وقد استخدم هو وآخرون في مؤسسة السياسة الخارجية لواشنطن كلمة "الإرهاب" لإذكاء الخوف والإسكات، وإخفاء السياسات الفاشلة. وما تزال رواية بوش الخيالية عن تعرض الولايات المتحدة للهجوم في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر لأنهم "يكرهون حرياتنا" قائمة، لأن التشكيك في هذا الفكرة السخيفة أصبح معادلاً للنقص في الوطنية.
خلاصة القول أن مقتل زعيم تنظيم الدولة أبي إبراهيم الهاشمي يذكر بالفشل الاستراتيجي للحرب الأمريكية على الإرهاب، فالجهادية العالمية أصبحت أكثر خطورة وأوسع انتشاراً، إذ لم تسفر عمليات "قطع الرؤوس" والقتل المستهدف عن تقويض تنظيم الدولة وهزيمته واجتثاثه. ومنذ أكثر من عقدين، حاولت الولايات المتحدة حل مشكلة ما تطلق عليه الإرهاب من خلال القوة العسكرية، لكنها بدلاً من ذلك ولّدت المزيد من الإرهابيين المفترضين. وبدلاً من البحث في الأسباب الجذرية للإرهاب، تواصل الولايات المتحدة النظر بعيداً عن أصول الظاهرة، لكن مكر التاريخ في الانتظار. ففي خضم الانشغال بحرب الإرهاب (الإسلامي) صعدت قوى خارجية منافسة جامحة، وتنامت قوى داخلية إرهابية متمردة، حيث تجد الولايات المتحدة اليوم نفسها حائرة ومتعثرة ومشتتة بين حروب شتى.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: