ما الذي يحدث خلف أسوار وزارة الداخلية التونسية؟ تبدو الاجابة عن هذا السؤال المحوري صعبة خلال الفترة الأخيرة، بعد أن شاهدَ التونسيون والعالم بأسره صورًا مفزعة يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2022، تُظهر قمعًا غير مسبوق قامت به القوات الأمنية تجاه عدد من المتظاهرين العزّل، ممّن أرادوا إحياء الذكرى الـ 11 للثورة التونسية.
قمع بوليسي غير مسبوق، راحَ ضحيّته متظاهر وطالَ الجميع بلا استثناء، مدنيين وسياسيين وناشطي مجتمع مدني وصحفيين ومحامين، بل طالَ عددًا من الأمنيين المندسّين وسط المتظاهرين كما تظهر ذلك فيديوهات التقطتها عدسات وسائل الإعلام، وهو ما يعكس التخبُّط الكبير الذي كانت تعيشه القيادات الأمنية على الأرض.
أحداث القمع غير المشهودة في تاريخ تونس بعد الثورة، والتي طالَت سياسيين بارزين من أمثال عصام الشابي ونبيل حجي، وغيرهما ممّن ناضلوا ضد دكتاتورية نظام زين العابدين بن علي خلال سنوات الجمر، ورفعوا أصواتهم عاليًا في معارضة حكومات ما بعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011، تمّت بموافقة وأوامر مباشرة من وزير الداخلية الحالي توفيق شرف الدين، الصديق الشخصي لقيس سعيّد، ومدير حملته الانتخابية في محافظة سوسة.
هذا القمع البوليسي والانتهاكات الخطيرة، إلى جانب قرارات الإقامة الجبرية ضد عدد من معارضي قيس سعيّد، وأبرزهم وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري، حدثت كلّها في عهد توفيق شرف الدين، المحامي التونسي الذي سبقَ له ترؤّس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية مطلع شهر أبريل/ نيسان الماضي، بمقتضى أمر رئاسي من قيس سعيّد، بعد إقالته من حكومة رئيس الوزراء السابق هشام المشيشي.
توفيق شرف الدين، هذا الاسم الذي اقتحمَ الساحة السياسية في سبتمبر/ أيلول 2020، بترشيح من سعيّد من خلال تعيينه وزيرًا للداخلية، ليس أكثر من حصان طروادة، أرادَ من خلاله سعيّد التحكُّم بدواليب الوزارة والاطِّلاع على ما يحدث في البلاد بواسطة إمكانات البناية الرمادية، قبل أن يتحوّل الأمر إلى محاولة جدّية للسيطرة على الأجهزة الحساسة داخل هذه الوزارة، بواسطة تعيينات مشبوهة في مناصب أمنية واستخبارية عليا، سرعان ما تفطّنَ إليها رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي، الذي سارعَ بإقالة شرف الدين وإلغاء تلك التعيينات.
منذ تلك الإقالة، صارت القطيعة بين قصرَي الحكومة وقرطاج في تونس ظاهرة للعيان، ليعود توفيق شرف الدين مرّة أخرى إلى وزارة الداخلية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لكن هذه المرّة لتنفيذ المشروع الذي أوقفه هشام المشيشي في لحظاته الأخيرة، حيث قامَ الوزير بإحالة عدد من القيادات الأمنية التي سبق لها مباركة الانقلاب للتقاعد الوجوبي، وتعيين آخرين في مناصب عليا وحسّاسة، في خطوة تهدفُ إلى إحكام قبضة سعيّد الحديدية على هذه الوزارة الحسّاسة.
ليس هذا فحسب، حيث تؤكّد مصادر متطابقة أن خلافات كبيرة جمعت بين وزير الداخلية توفيق شرف الدين ونادية عكاشة مديرة ديوان قيس سعيّد السابقة، حول طريقة إدارة الأوّل لبعض الملفّات الأمنية إلى جانب بعض التعيينات والإعفاءات صلب وزارة الداخلية، والتي لم ترُق لعكاشة، وهي تعيينات محسوبة على جهات دون أخرى، سرعان ما أسفرت عن تقديم عكاشة لاستقالتها من منصبها، وهي المرأة التي يصفها البعض بالصندوق الأسود لقصر قرطاج وحاملة أسرار الرئيس سعيّد.
مصادر وتقارير إعلامية عديدة تحدّثت عن دور هذه السيدة فيما كان يحدث خلف الكواليس في تونس، فهي المسؤولة الوحيدة التي لا تكاد تفارق سعيّد في كلّ اجتماعاته ورحلاته الداخلية والخارجية، حتى إن استدعى الأمر خرق البروتوكولات في أكثر من مناسبة، كما أنها المرأة التي كانت تحظى بنفوذ كبير داخل وزارة الداخلية التونسية.
أرجعت عكاشة سبب استقالتها الرئيسي لوجود اختلافات جوهرية في وجهات النظر المتعلقة بالمصلحة العليا للوطن، كما كتبت ذلك على صفحتها الرسمية على فيسبوك، ورغم أنّها لم تقدّم تفاصيل حول ذلك، إلّا أن مقرّبين منها أكّدوا أن الإعفاءات الأخيرة التي صدرت بحقّ قيادات أمنية عليا في جهازَي الشرطة والحرس وإحالتهم إلى التقاعد الوجوبي، ساهمت في إنجاح انقلاب 25 يوليو/ تموز، على غرار كمال القيزاني وزهيّر الصدّيق ومحمد علي بن خالد وغيرهم؛ كانت القطرة التي أفاضت الكأس.
تقول المصادر ذاتها إن هذه الأسماء كانت من بين أبرز القيادات الأمنية العليا التي ساهمت في إقناع مسؤولين أمنيين بارزين آخرين صلب وزارة الداخلية، بمساندة الانقلاب على رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي، وتجميد عمل البرلمان التونسي.
أكثر من ذلك، تؤكّد مصادر متقاطعة أن وزير الداخلية الأسبق لطفي براهم، المحسوب على رجل الأعمال المعروف كمال اللطيّف، يُعتبَر الساعد الأيمن والمستشار الأوّل لوزير الداخلية الحالي توفيق شرف الدين، حيث أن التعيينات والإعفاءات الأخيرة تحمل بين طيّاتها بصمة المسؤول الأمني الأسبق، الذي عُرفت فترة تولّيه الوزارة فبركة إحدى العمليات الإرهابية وإقحام جهاز الاستخبارات التابع للداخلية، في تتبُّع السياسيين والتنصُّت على مكالماتهم ومكالمات الصحفيين دون أذون قضائية.
وبحسب المصادر ذاتها، فإن براهم الذي سبق وأن تمّت إقالته في يونيو/ حزيران 2018، من طرف رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد بسبب خلافات جوهريّة بين الرجلَين، بات المتحكِّم الرئيسي في الوزارة السيادية بواسطة وزير الداخلية الحالي شرف الدين، حيث أن الأوّل أكثر علم وتجربة من الثاني فيما يتعلّق بطريقة عمل وتسيير الوزارة.
لا أحد منّا يعلم ما ستحمله الأيام القادمة من تطورات في المشهد السياسي في تونس، لكنَّ الجميع صارَ مقتنعًا أكثر من أيّ وقت مضى بأن الاحتقان الشعبي والظروف الاجتماعية والاقتصاديّة الصعبة التي تعيشها البلاد اليوم، ستكون التحدّي الأبرز الذي يواجهه الرئيس قيس سعيّد، الذي يبدو مقتنعًا أكثر من أي وقت مضى بأن ثورة البطون لن يستطيع أحد إيقافها، سواء كان وزير داخليته توفيق شرف الدين ومن خلفه من داعمين، أو الأصدقاء الإقليميين الذين باعوا له الوهم ودفعوه دفعًا إلى الهاوية، بتنفيذ انقلابه على الديمقراطية التونسية الناشئة يوم 25 يوليو/ تموز 2021، ذلك اليوم المشؤوم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: