قد يكون من الموضوعي أيضا إطراء الانقلاب وذكر محاسنه لأنه لم يكن شرّا مطلقا في تونس فكل الظواهر الاجتماعية والسياسية لها وجهها الإيجابي مهما كان ضئيلا. صحيح أنّ الانقلاب يمثل تهديدا خطيرا للمسار الديمقراطي المتعثر الذي عرفته البلاد طوال أكثر من عشر سنوات من الإنجاز الثوري.
وصحيح أيضا أنّ الانقلاب على الدستور والبرلمان جريمة في حق الوطن والثورة وباب أبواب الاستبداد لكنّه يحتاج أيضا إلى تفكيك الشروط التي جعلته ممكنا حتى يتسنى للأجيال الجديدة منع تجدده. إنّ حدوث أي انقلاب يعني أنّ ظروفا معيّنة داخلية وخارجية هي التي سمحت بحدوثه أو بتعبير آخر فإنه يعني أنّ شروطا أخرى لم تكن موجودة لمنع حدوثه.
في تونس كان الانقلاب متوقّعا بل كانت درجات احتماله عالية جدا لأسباب كثيرة تتوزع على مستويات مختلفة أدت إلى تعفين المشهد العام وضرب الاقتصاد وتأزيم الوضع السياسي والاجتماعي. داخل هذا المشهد العام لعبت النخب المحلية دورا مركزيا في بلوغ المشهد المنحدَر الذي وقع فيه بعد أن شاركت بقوّة في ضرب المسار الانتقالي وفي التمكين للانقلاب.
هل توجد نخب تونسية؟
لن يكون الجواب صادما إن نحن أقررنا بأن تونس لم تنتج نخب فعلٍ حقيقية قادرة على ترسيخ المُنجز الثوري الذي حققته الجماهير الغاضبة، بل إننا لا نجانب الصواب إن نحن أقررنا بأنها ساهمت في ترذيل المشهد السياسي وفي التمكين لشروط الانتكاس نحو مربع الاستبداد.
لا يعني هذا القول غياب شخصيات شاركت في التأسيس للفعل الحضاري والسياسي المقاوم طيلة قرن من الزمن منذ مرحلة الاحتلال الفرنسي وصولا إلى تأسيس الدولة وبناء المجتمع. لكن هاته الفواعل الفردية لم تنجح في تكوين طبقة مثقفة قادرة على تجاوز خلافاتها الأيديولوجية ومطامعها الشخصية ونحت أرضية مشتركة تجعل من الاختلاف الفكري أساسا لمشروع نهضة حقيقية يمنع تجدد شروط الاستبداد.
لقد تأسس النخب التونسية في أغلبها على فردانية الفعل والإنجاز والتصوّر ولم تكن فاعلا جماعيا إلا في سياقات محددة غلب عليها الطابع الأيديولوجي المستورد في شكله العروبي القومي أو اليساري الماركسي أو حتى الاسلامي المحافظ. ارتهنت هذه المجموعات فكريا إلى الخارج ولم تنتج نموذجها الفكري الخاص بها والنابع من سياقها المحلي فاستوردت مع المحمول الفكري للنظريات الوافدة المشاكلَ الكامنة فيها وغرستها في التربة التونسية.
نجم عن هذه الخيارات ارتهان المشهد التونسي للتجاذبات الإقليمية والدولية خاصة بعد فشل هذه المجموعات في توطين المحمول الفكري الخارجي وتطويعه للنسق المحلي بخصوصياته الحضارية والتاريخية والديمغرافية. لا يشك أحد في أن الفكرة القومية أو الفكرة اليسارية مثلا اجتهاد انساني يخطئ ويصيب حسب السياقات التي يطبق فيها وحسب الأهداف المرسومة له لكنّه في الحالة التونسية كان إسقاطا قسريا يستهدف أساسا منع ظهور البدائل الوطنية التي وأن تشبثت بتربتها المحلية فإنها لا تنفصل عن امتدادها العربي والإسلامي بل تتكامل معه فتغذي روافده.
الثورة وبيان عقم النخبة
كانت الثورة الغطاء الأخير الذي رُفع عن نخب تونس الأكاديمية والإعلامية والفكرية والفنية لا لأنها كانت جزءا من الاستبداد داعما له حارسا لوجوده مدافعا عنه فهذه فصيلة أخرى بل لأنها أثبتت بالتجربة الحية أنها عدوّ الشعارات التي كانت تدافع عنها وتتبنّاها.
لم تكن الثورة منجزا نخبويا بل كانت فعلا شعبيا قاعديا تجاوز شعارات النخب وحقق في وقت قياسي ما كانت هي تعِد به طيلة عقود من تاريخها. كان سرّ نجاح الجماهير " غير المفكّرة " كامنا في وعيها بالقدرة على إسقاط النظام وبزيف مشاريع نخبها التي كانت جزءا من النظام نفسه بما في ذلك تلك التي تدّعى معارضته.
لكن الخطأ القاتل الذي وقعت فيه الثورة هو أنها لم تراعِ تحوّل الجيل والنقلة التي حدثت بين جيلين وهي النقلة التي كانت سببا في نجاح الثورة. فحين تسلّم الجيل القديم مقاليد السلطة حمل معه تناقضاته القديمة وصراعاته التاريخية وجلب إلى السلطة نخبا لا علاقة لها بالمُنجز الثوري وهو الأمر الذي مكّن لنخب الاستبداد من الاندساس داخل البناء السياسي الجديد مستفيدة من وجود خصومها التاريخيين.
هكذا عادت الصراعات القديمة إلى السطح فسقط الاسلاميون سريعا أو أُسقطوا في صراع الهوية بدل فرض صراع البدائل الاقتصادية وتصفية إرث الاستبداد السياسي والإعلامي. من جهتهم حافظ القوميون على مواقعهم الداعم لترذيل المشهد السياسي عبر مواقعهم الحزبية والنقابية بضرب الاقتصاد وفرض صراع الهوية وإعلان الحرب على الإسلاميين في تحالف لا يخفى مع غرف الثورة المضادة في مصر وسوريا ودول الخليج. ثم دعمت الفصائل القومية الانقلاب على الدستور وعلى البرلمان وسعت إلى استنساخ صورة الزعيم الذي لا تعيش إلا تحت جناحه. أما شراذم اليسار أو ما بقي منهم فقد عادوا إلى مواقعهم في صدارة المشهد وخاصة في الإعلام والفضاء الرمزي من أجل هدف وحيد وهو شيطنة الثورة ورفع شماعة الإرهاب دون القدرة على تقديم أية بدائل اقتصادية أو تنموية.
داخل هذه المشهد الجديد لم تجد الدولة العميقة أي نواة النظام السابق صعوبة تذكر في التسلل وتصدّر المشهد ثم إزاحة الجميع خلال العملية الانقلابية الأخيرة. إن الانقلاب الذي عرفته تونس ليس إلا عنوانا لفشل النخب المحلية وتتويجا لمسارات فشلها وفي كونها قد أخطأت اللحظة التاريخية في زمان لم يكن زمانها ودور لم يكن دورها.
اليوم لم يبق لهذه النخب إلا الانسحاب من المشهد وترك الجيل الجديد يصارع إرثها الثقيل بآلياته الخاصة علّه يتمكّن من إعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح. لن تستطيع نخب تونس التكفير عن خطاياها إلا إن هي نجحت في تسليم المشعل للجيل الجديد المنفصل عن صراعات الايديولوجيا والسليم من أمراض الماضي. هذا الجيل الجديد هو الجيل الذي يملك من الأدوات ومن العزائم ما يستطيع به القطع مع إرث الاستبداد سلطةً ومعارضة ووضع شروط التحرر من الاستعمار ووكلائه ونخبه جميعا.
---------
وقع تغيير العنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: