تقول فرنسا إنها تعتمد نظامًا علمانيًا تامًا ضاربًا في القدم، وهو جزء من إرث الثورة الفرنسية وفلاسفتها التنويريين، نظام يكفل حرية المعتقد لجميع المواطنين، إلا أن المتمعن لما يحدث هناك يرى ازدواجية تامة في التعامل مع الأديان، فالإسلام عند العديد من السياسيين "جسم غريب" والمسلمون "ضيوف مؤقتون"، وفي كثير من الأحيان منبوذون وجب محاربتهم والتصدي لهم.
يظهر الخطاب المعادي للمسلمين، في العديد من المحطات - خاصة الانتخابية - وهو ما لاحظناه مؤخرًا، فمع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقرر إجراؤها الربيع المقبل، يتسابق العديد من السياسيين في فرنسا - الراغبين في الوصول لقصر الإليزيه - في إظهار مدى كرههم ورفضهم للمسلمين والمهاجرين.
حتى إنهم أغفلوا قضايا الفرنسيين المهمة والأساسية، وأصبحوا يستثمرون علانية في معاداة الإسلام والهجرة، رغبة منهم في الحصول على أصوات اليمين المتطرف التي يمكن أن ترجح أحدهم في السباق الانتخابي المرتقب.
إريك زمور.. الشعبوي الصاعد
في أول تجمع له في منطقة باريس، تعهد المرشح اليميني المتطرف للانتخابات الرئاسية الفرنسية إيريك زمور أمام أنصاره بالمضي نحو استرداد فرنسا، ودعاهم إلى تغيير مجرى التاريخ، وتابع زمور قائلًا: "الرهان هائل، في حال فزت سيكون ذلك بداية استرداد أجمل بلدان العالم"، وأضاف "الشعب الفرنسي يعيش هنا منذ ألف عام ويريد أن يظل سيدًا في بلده".
في خطابه، وعد زمور بإنهاء الهجرة وإلغاء حق لم شمل الأسر واللجوء إلى طرد المهاجرين غير النظاميين وإلغاء المساعدات الاجتماعية والطبية للأجانب غير الأوروبيين، وهي تعهدات ألهبت حماسة الجمهور الحاضر.
هذا الخطاب لم يكن الهدف منه بث الحماس لدى الجماهير الحاضرة ولم يكن مجرد كلمات عابرة تنتهي بانتهاء الجمع، فهو خطاب يأتي في سياق تصور كامل يطمح إيريك زمور أن يقوده إلى قصر الإليزيه لخلافة إيمانويل ماكرون في كرسي الرئاسة.
إيريك زمور ابن لعائلة جزائرية يهودية (والداه حاصلان على الجنسية الفرنسية) قدمت من الجزائر إلى فرنسا خلال حرب التحرير الجزائرية، ويقدم نفسه على أنه فرنسي يهودي بدرجة أولى ثم يهودي من أصل بربري، عند الحديث عن منحدر عائلته.
بنى زمور - الذي أدين مرتين بالتحريض على الكراهية والعنصرية - خطابه منذ شهور على رفض الإسلام والهجرة، وعُرف برفضه وانزعاجه من المظاهر الثقافية التي يتمسك بها أبناء الجاليات المسلمة في فرنسا، بدءًا بالطقوس الدينية وصولا لًأسمائهم ولغتهم.
وصل به الأمر إلى قول إنه إذا أصبح رئيسًا لفرنسا فسيمنع تسمية المواليد محمد، وأضاف أنه سيفعل ما فعله نابليون بونابرت مع اليهود في أثناء الثورة الفرنسية"، وكان بونابرت قد أطلق حينها القانون 1803 الذي يمنع منح المولودين في فرنسا أسماء غير فرنسية، وظل القانون ساريًا حتى سنة 1993.
يعد زمور الذي اختار لحملته شعار "المستحيل ليس فرنسيًا" - وهي عبارة منسوبة إلى نابليون - أن الإسلام نقيض لمبادئ الجمهورية وخطر عليها، ويقول هذا منذ سنوات كثيرة، وأكد في أكثر من مرة أنه سيغلق المساجد حال وصوله إلى كرسي الرئاسة.
يرى زمور أن الإسلام دين لن يجد له مكانًا داخل فرنسا التي تقوم على نظام سياسي علماني ذي أصول مسيحية ويهودية، لذا يؤكد أن مشروعه يستند إلى فرض ممارسة "مسيحية للإسلام"، يُفرَغ من خلالها الإسلام من مضامينه الثقافية والعقدية والسياسية والاقتصادية، بحيث يقتصر على الممارسات الشعبية في مناسبات معينة.
عرفه الكثير من الجمهور من خلال دوره كمقدم تليفزيوني صريح ومعلق لقناة "سي نيوز" الفرنسية اليمينية، وقد استغل مهنته الصحفية للترويج لأفكاره المعادية للمسلمين والمهاجرين، ويراه العديد من الفرنسيين شبيهًا لدونالد ترامب وأيضًا لبوريس جونسون، فالثلاثة شعوبيون.
مارين لوبان.. عنصرية متأصلة
إلى جانب إيريك زمور، نجد اليمينية المتطرفة مارين لوبن التي تخوض غمار الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة، وترجح عمليات سبر الآراء زعيمة "الجبهة الوطنية الفرنسية" لمنافسة الرئيس إيمانويل ماكرون في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المقبلة.
تعمل مارين لوبن - بعد فوزها بولاية رابعة على رأس حزبها "التجمع الوطني" - إلى تعبئة قواعد وأنصار حزبها، خاصة بعد الخسارة التي تلقاها الحزب في الانتخابات المحلية الأخيرة التي اتصفت بنسب امتناع مرتفعة.
وتعتمد لوبان منذ وصولها إلى رأس الحزب عام 2011، خطابًا مناهضًا للمسلمين والمهاجرين، وتتخذ من العنصرية والفاشية خطًا لها، ومن كراهية الأجانب الملونين، من مسلمين وغيرهم، رأس مالها الثابت الذي لا يتغير رغم مرور السنين.
تحلم لوبان بفرنسا بيضاء مسيحية لا مكان فيها للأجانب بصفة عامة، وللمسلمين على وجه الخصوص، وتحيط زعيمة اليمين المتطرف نفسها بعدد من الهوياتيين الذي يعتبرون الإسلام العدو الأول للأمة الفرنسية.
لسنوات طويلة، شنت مارين لوبان هجومًا كبيرًا على الجالية الإسلامية في فرنسا دفاعًا عن علمانية الدولة، مطلع السنة الحاليّة، كشفت لوبان عن مقترح قانون لمنع ما أسمته "الفكر المتطرف"، بما في ذلك توسيع حظر الحجاب ليشمل الفضاء العام في البلاد، كما تحدثت عن حرب عالمية يشنها هذا الفكر، وخطة للقضاء عليه، حسب تعبيرها.
وتهدف لوبان وحزبها إلى حظر اللباس الإسلامي - وعلى رأسه الحجاب - في الفضاء العام، ويُمنع حاليًّا في فرنسا ارتداء الحجاب وكل الرموز الدينية الظاهرة في المدارس، ويجب على موظفي الدولة التزام مبدأ "الحياد" إزاء الأديان.
بيكريس مرشحة "الجمهوريون"
أول أمس السبت، فازت رئيسة منطقة "إيل دو فرانس" التي تشمل باريس، فاليري بيكريس بالدورة الثانية للانتخابات التمهيدية داخل حزب الجمهوريون اليميني للانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمع إجراؤها في أبريل/نيسان 2022، وبذلك تكون بيكريس أول امرأة تمثل اليمين في انتخابات رئاسية في فرنسا.
وتشير استطلاعات الرأي حاليًّا إلى أن وزيرة المالية السابقة فاليري بيكريس، ستحصل على 10% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية، مقارنة بـ24 % لماكرون و19% لمارين لوبان و14% لليميني المتطرف إريك زمور، وفقًا للاستطلاعات التي أجراها بوليتيكو.
لم تفوت بيكريس الفرصة كي تتعهد في حال انتخابها لرئاسة فرنسا بأن تكون أكثر تشددًا بشأن الهجرة، ما يعكس تأثير اليمين المتطرف على الأحزاب الرئيسية، وتقترح مرشحة الجمهوريين ترحيل الأجانب الذين يمثلون تهديدًا للأمن العام خصوصًا من الذين يتبنون خطابًا إسلاميًا متشددًا"، وفق قولها، كما تريد بيكريس تشديد شروط لم الشمل العائلي.
حصول بيكريس صاحبة النهج الليبرالي والخط المتشدد في القضايا المتصلة بالهجرة، على 60.95% من الأصوات، مقابل 39.05% لسيوتي، النائب عن منطقة ألب ماريتيم (جنوب)، يؤكد أن حزب الجمهوريين الذي ورث "الحركة الديغولية" يسعى لاستقطاب أنصار اليمين المتطرف.
وسبق أن قالت فاليري بيكريس إن فرنسا تحتاج إلى استعادة سلطتها، واتهمت ماكرون بالتغاضي عن "الإسلاموية، بل وكذلك الهجرة غير الخاضعة للرقابة، وزيادة انعدام الأمن، ومسألة العلمانية في البلاد"، وتابعت قائلة: "إنه لا يراها، أو لا يريد أن يراها".
ماكرون ومساعي التقرب للمتطرفين
راهن ماكرون طيلة حملته الانتخابية سنة 2017 على رفض العنصرية والفاشية، مستفيدًا من أصوات مناوئين لليمين المتطرف وعلى رأسهم الجالية العربية والإسلامية المليونية، للفوز في الانتخابات وكان له ذلك، غير أن الرئيس الفرنسي سرعان ما غير سياسته بعد أن توصل إلى قناعة راسخة بأن الفوز في الانتخابات الرئاسية لسنة 2022، لن يتم إلا في حال فاز بثقة شريحة المُصوِتين اليمينيين.
اختار ماكرون هذا الطريق مستفيدًا من رفقة وزراء انتقاهم بعناية من ذوي التوجهات اليمينية والعنصرية المتطرفة، مثل وزير الداخلية جيرارد دارمنان ووزيرة المواطنة مارلين شيابا ووزير التعليم جون ميشيل بلانكير.
نتيجة ذلك تنامت مظاهر معاداة المسلمين والمهاجرين في عهده، إذ شهدت فرنسا في السنوات الأخيرة حملة شرسة على الدين الإسلامي والمؤسسات والجمعيات الإسلامية وحالات خطيرة من عنف الشرطة ضد المسلمين من وادي رويا جنوب شرق فرنسا، إلى ساحل المانش شمال البلاد، حتى إن أعمال العنف والمضايقات من الشرطة باتت روتينًا شبه يومي.
وسجلت فرنسا زيادة مطردة في الأعمال المعادية للمسلمين، وقد وصل عدد هذه الهجمات إلى ما يقرب من 800 عام 2019، وفقًا لإحصاءات جمعيات مناهضة للإسلاموفوبيا، وذلك بزيادة قدرها 77% في غضون عامين.
عرفت فرنسا أيضًا غلق العديد من المساجد بحجة أنها ضد القيم العلمانية الراسخة في فرنسا، كما حاربت المنتجات الحلال رغم ما تدره من أموال طائلة لاقتصاد فرنسا، وشجعت السلطة على كراهية الإسلام والشعبوية المعادية للمسلمين في هذا البلد الأوروبي.
كما أقرت فرنسا مشروع قانون لمحاربة ما تسمى "الانعزالية"، الذي يقدم رؤية ضيقة للعلمانية ويستهدف المسلمين وحرياتهم الدينية، وشنت حملة اعتقالات في عدة مدن فرنسية، استهدفت عددًا من تلاميذ المدارس، بتهمة تبرير الإرهاب، في أعقاب مقتل أستاذ التاريخ صمويل باتي منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
يثبت هذا الأمر أن مرشحي الرئاسة الفرنسية يسارعون الخطى لكسب ود اليمين المتطرف قبل الانتخابات، ذلك أن المتطرفين لهم قاعدة انتخابية كبرى يمكن لها أن تحدد اسم رئيس فرنسا المقبل، ما يعني أن المجتمع الفرنسي حاد بعض الشيء عن مبادئ العلمانية التي يتغنى بها.
-------------
وقع التصرف في العنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: