يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لا جدال بين الخبراء والباحثين المختصين في أن ما حدث في تونس والسودان ومن قبل في مصر؛ هي انقلابات مكتملة الأركان، لكن الولايات المتحدة الأمريكية لا تصف ما حدث في هذه البلدان بالانقلاب، إذ يمكن تعريف الانقلاب في العرف الأمريكي بأنه كل ما يقف ضد تحقيق الهيمنة الإمبريالية ويهدد المصالح الحيوية للإمبراطورية. فالاستثنائية الأمريكية تقوم على نهج ازدواجية المعايير، فقد دأبت منذ تدخلاتها في المنطقة على دعم الأنظمة الاستبدادية التي تدور في فلكها؛ وعلى الإطاحة بالأنظمة الديمقراطية المناهضة لسياساتها.
شكل الانقلاب على رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام 1953 أول عملية انقلاب للمخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط. وحسب كتاب "كل رجال الشاه" لستيفن كينزر، سجلت هذه العملية بداية التدخل الأمريكي السافر في تقرير مصائر شعوب المنطقة والتحكم في القرارات السياسية فيها منذ الحرب العالمية الثانية.
وطوال حقبة الحرب الباردة دعمت الولايات المتحدة والعديد من الحكومات الغربية، أو دبرت انقلابات عسكرية ضد النظم الوطنية الاشتراكية. وقد حدد صموئيل هنتنجتون بداية ستينات القرن الماضي، في كتابه "النظام السياسي لمجتمعات متغيرة"، موقف الولايات المتحدة من الانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث، مفضلاً الاستقرار على الديمقراطية، ودافع بقوة عن دور الجيش في صناعة الاستقرار وتأمين المصالح الأمريكية.
لا تعدو قيم "الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان" عن كونها أداة أيديولوجية تستخدمها الولايات المتحدة لفرض هيمنتها العالمية وتبرير تدخلاتها غي شؤون الدول المناهضة لسياساتها. فحسب المفكر الأمريكي ويليام بلوم في كتابه "الديمقراطية أشد الصادرات الأمريكية فتكا"، فإنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سعت الولايات المتحدة للإطاحة بأكثر من 50 حكومة أجنبية، معظمها منتخبة ديمقراطيا، وتدخلت بشكل صارخ في انتخابات ديمقراطية لـ30 دولة على الأقل، وحاولت اغتيال أكثر من 50 من القادة الأجانب.
في تعليقه أمام مجلس الأمن الدولي على الوضع بالسودان، ذهب أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى الدعوة لضرورة إيجاد "رادع فعال لوباء الانقلابات" التي تشهدها القارة الأفريقية على وجه الخصوص، لكن الولايات المتحدة الأمريكية عقب الانقلابات في تونس والسودان ومصر امتنعت عن وصف الأحداث بالانقلاب، ذلك أنها على دراية بها وتساهم في خدمة مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة. فما جرى في هذه البلدان هو استكمال لعمل محور"الثورة المضادة"، والذي يقوده حلفاء أمريكا في المنطقة وخصوصا السعودية والامارات ومصر، وهي أنظمة لا تخفي مناهضتها للديمقراطيات الناشئة في العالم العربي وتدعم القوى العسكرية والشعبوية المناهضة للديمقراطية، وتتشارك مع أمريكا والغرب في كراهية حركات الإسلام السياسي.
إحدى الحجج الأكثر شيوعاً لمدبري الانقلابات في العالم هي الادعاء بأن ما حصل ليس انقلاباً؛ بل تصحيحاً لمسار الثورة والديمقراطية ومحاربة الفساد ومنع الفوضى والحفاظ على الاستقرار.
فبعد انقلاب القائد العام للجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان في 25 /تشرين الأول/ أكتوبر، نفى أن تكون القرارات التي اتخذها والتي شملت حل مجلسي السيادة والحكومة الحاكمين للفترة الانتقالية؛ بمثابة انقلاب عسكري، معتبراً أنها "تصحيح للمسار".
وفي تونس، بعد إعلان الرئيس قيس سعيد تجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة، وتولي منصب النائب العام، في 25 تموز/ يوليو، ادعى سعيد أن ما قام به يمثل تصحيحاً لمسار الثورة التونسية، واستند في قراراته الانقلابية إلى الدستور، وقال إنه قرر "عملا بأحكام الدستور، اتخاذ تدابير يقتضيها الوضع، لإنقاذ تونس، ولإنقاذ الدولة التونسية ولإنقاذ المجتمع التونسي"، مشددا على أن ما قام به "ليس تعليقا للدستور، وليس خروجا عن الشرعية الدستورية.
وكان وزير الدفاع سابقاً عبد الفتاح السيسي، الذي جاء بانقلاب على أول رئيس مدني منتخب (محمد مرسي) في 3 تموز/ يوليو 2013، قد قال في بيان الانقلاب إنه جاء استجابة لدعوات الشعب المصري للجيش بالتدخل ولعب "دوره الوطني"، مستبعدا أي دور له في الحياة السياسية.
تجنبت الولايات المتحدة، إطلاق مصطلح "الانقلاب" على ما حدث في السودان، مفضلة القول إنه "استيلاء عسكري على السلطة"، حيث قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، إنه "عندما تنشأ مثل هذه الأحداث، نقوم بالفعل بتحديد وصف الانقلاب".
وكان الموقف من الانقلاب تونس مماثلاً، حيث قال نيد برايس في بيان بعد ساعات قليلة من الانقلاب إن واشنطن تراقب عن كثب التطورات في تونس، وأن هناك تواصلا مع المسؤولين في الحكومة التونسية "للتأكيد أن حلول المشاكل السياسية والاقتصادية في تونس يجب أن تستند إلى الدستور التونسي ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية". وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي: "كل من البيت الأبيض ووزارة الخارجية على اتصال مع القادة التونسيين لمعرفة المزيد عن تطور الوضع".
إذا كانت الولايات المتحدة قد تجنبت وصف ما حدث في تونس والسودان بالانقلاب واستخدمت لغة مراوغة، فقد كانت أكثر وضوحاً بعد الانقلاب العسكري في مصر، حيث قال وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري؛ إن الجيش المصري كان "يستعيد الديمقراطية" عندما عزل الرئيس المنخب محمد مرسي، وأضاف كيري أن الجيش تدخل بناء على طلب ملايين المصريين لحماية الديمقراطية. وجاءت تصريحات كيري رداً على سؤال حول السبب الذي حال دون اتخاذ الولايات المتحدة موقفا واضحا بشأن تدخل الجيش ضد حكومة مرسي المنتخبة ديمقراطيا.
ومؤخراً أثار حديث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في 24 نيسان/ أبريل 2021 عن رفضه التام لما وصفه بالتحريض على "الانقلاب"؛ استهجاناً وتندراً، ذلك أن السيسي نفسه جاء عقب انقلاب عسكري قاده للإطاحة بأول رئيس مدني منتخب، الراحل محمد مرسي. ويعكس التصريح مدى الغطرسة وحالة الإنكار وتمثل دور المخلص الملازمة للانقلابيين.
إن ردود الفعل التي أبدتها واشنطن عقب الانقلابات في تونس والسودان، تعيد إلى الأذهان المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في 15 يوليو/تموز 2016، إذ لم تعلن واشنطن موقفاً من المحاولة الانقلابية إلا عندما تأكدت من فشل المحاولة الإنقلابية، .فبعد ساعات من المحاولة الانقلابية، وفور تأكده من فشلها، اتصل وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جون كيري، هاتفياً بنظيره التركي، مولود تشاووش أوغلو، وأبلغه دعم واشنطن الكامل للمؤسسات الديمقراطية وللحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطياً في تركيا.
ما حدث في العالم العربي من انقلابات لا يخرج عن سياق التدخلات الأمريكية في المنطقة والعالم، وهو نهج ثابت للسياسة الأمريكية. فتحت عنوان "تدخلات الولايات المتحدة الأمريكية"، قال البروفيسور الأمريكي المختص بشؤون أمريكا اللاتينية، جون هـ. كوتسوورث، في مقال له، إن الجنود الأمريكيين والجواسيس يلعبون دوراً في التدخلات الأمريكية المباشرة، أما التدخلات غير المباشرة فيكون الدور الرئيس فيها للجهات الفاعلة محلياً في الدول المستهدفة، وهؤلاء لا يمكنهم التصرف أو النجاح من دون دعم من الحكومات الأمريكية، بحسب كوتسوورث.
يلخص ما حدث في السودان وتونس نهج واشنطن في تدبير الانقلابات بصورة غير مباشرة من خلال وكلائها. ففي مقال للكاتب إيشان ثارور في صحيفة "واشنطن بوست" بعنوان "شبح دول الخليج وراء الاستيلاء على السلطة في السودان وتونس"، أكد على نهج الانقلابات المباشرة وغير المباشرة.وقال: قد يتمكن البرهان من النجاح بدعم من مصر والسعودية والإمارات. إنه ليس معزولاً مثلما أصبح البشير، وسيجد وجهاً مدنياً جديداً أكثر مرونة، وسينتهي الأمر بالغرب إلى التعامل معه.
وقالت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، إن قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال "زيارة سرية" للقاهرة"، قبل يوم من "الانقلاب العسكري" في السودان.
وفي مقال نشرته دورية "فورين أفيرز" بعنوان "مواجهة انقلاب السودان"، قال دي وال: أظهرت الولايات المتحدة بعد أسابيع من الانقلاب نوعا من المرونة، ففي حوار مع معهد السلام في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر، قال فيلتمان إن أهم أولوية لأمريكا هي استقرار السودان. وركز بيان مشترك للولايات المتحدة والسعودية والإمارات وبريطانيا على أهمية الالتزام بالإعلان الدستوري عام 2019 واتفاق جوبا، كأساس للحوار والتعاون المدني- العسكري.
خلاصة القول أن الانقلابات في السودان وتونس تقع في سياق استكمال قوى الثورة المضادة في المنطقة لمهمتها المدنسة برعاية أمريكية؛ بالانقضاض على أي بادرة للتحول الديمقراطي في العالم العربي. إذ لا تعدو قيم "الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان" عن كونها أداة أيديولوجية؛ تستخدمها الولايات المتحدة لفرض هيمنتها العالمية وتبرير تدخلاتها في شؤون الدول المناهصة لسياساتها.
ويبرهن كتاب "كيف تعمل الديكتاتوريات"لعلماء السياسة: باربرا جيديس وجوزيف رايت وإريكا فرانتز، على تآكل الديمقراطية حتى في الدول التي تعد راسخة في ممارستها، وليس في الديمقراطيات الجديدة فحسب. ففي السنوات الأخيرة، عزز الطغاة قبضتهم على العديد من البلدان وشهدت العديد من الديمقراطيات صعود قادة وحركات ذوي عقلية استبدادية.
هذه الاتجاهات تجعل مهمة فهم الحكم الديكتاتوري الذي تدعمه واشنطن ذي أهمية كبرى، وعلى النقيض من ادعاءات الانقلابيين من الطغاة بإنقاذ البلاد وتصحيح المسار، تكشف الوقائع التاريخية افتقار الطغاة لاستراتيجية واضحة. وحسب لورانس ويلكرسون، أستاذ نظام الحكم في كلية وليم وماري في ولاية فيرجينيا: "إن الإدارة العسكرية، بغض النظر عن عدد المرات التي تولّت فيها الحكم عبر التاريخ، قد فشلت وستفشل؛ لأنها ببساطة لا تستطيع القيام بذلك". فالأنظمة العسكرية، شأنها شأن الحكام الآخرين الذين لا يخضعون لمساءلة الناخبين، تصبح حتماً فاسدة ويميل حكامها إلى تعبئة جيوبهم. وعندما تصبح أشد تحصناً ضمن النظام الاقتصادي لبلد ما، تقل رغبة الإدارة العسكرية في ترك ممتلكاتها والتخلي عن السلطة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: