إحدى الكذبات الكبرى التي خرجت من تونس ووصلت إلى بقية العرب وآمن بها المثقفون والسياسيون والثوار منهم خاصة؛ هي وجود مؤسسات مجتمع مدني في تونس متطورة وفعّالة، وقد كبرت هذه الكذبة الفاحشة خلال انطلاقة الربيع العربي، وكم توجّع عرب كثر على فقدانهم لنقابات قوية ومؤثرة. نصل مع هؤلاء المعجبين إلى حقيقة لم نسلم بها منذ البداية فقد كنا "نعرف البئر وغطاءه" بسابق تجربة مع هذه المؤسسات المزيفة، والتي هي صنيعة السلطة منذ التأسيس.
في تونس سنعيش مرحلة تمحيص الكذبات الكبرى التي تحولت بالدعاية الفاجرة إلى حقائق لا يرقى إليها الشك، ولعل بعض العرب المتحمسين يراجعون معنا بعض ما سلّموا به لنا وربما غبطونا عليه. أكبر الكذبات هي نضالية الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يُنعت بأنه أقدم النقابات العربية وأشجعها وأقدرها على مقارعة السلطة. أيها الأصدقاء العرب صححوا أوهامكم، هذه النقابة ليست أكثر من عصا غليظة تمسك بها السلطة وتُسلطها على المجتمع الأهلي منذ نشأة دولة الاستقلال فتدمره باسم المدنية.
نقابة مشبوهة في النشأة والأدوار
التأريخ للنقابة من موقع معارض سيأخذ منا مساحة كتابة تتجاوز المقال الواحد، وسنكون مضطرين لدحض أطروحات مؤرخي النقابة أنفسهم وهم أكاديميون حرفوا الوقائع لأسباب سياسية وبعضها شخصي بحت فأكبرهم (المرحوم بن حميدة ليس إلا صهرا للحبيب عاشور، وضعه في تاريخ النقابة بمثابة نبي العمل النقابي). لقد بقي من أثر هؤلاء المؤرخين وهم كُثر أن التعرض للنقابة بالنقد هو بمثابة الكفر البواح، والجملة الراجمة لكل منتقد هي أن هذه نقابة حشّاد العظيم. كل هؤلاء المؤرخين والنقابيين سمعوا الاعتراف المباشر من لسان رجل العصابات الفرنسي (اليد الحمراء) باغتيال حشاد، لكنهم تصامموا وصرفوا النظر عن متابعة جريمة اغتيال؛ لأن ذلك كان صفقة تمت مع نظام بن علي المستند زمن الاعتراف على الفرنسيين ليظل في الحكم.
كل من ادعى منهم الثأر لحشاد "بلع السكين بدمها" وخرس لأن بن علي أمر بذلك، لكن النقابيين ومؤرخي النقابة ظلوا يروجون لوثن نقابة حشاد فجعلوها خارج كل نقد وكل مراجعة. وفي المستوى الأكاديمي، أي في أقسام التاريخ والاجتماع، فإن التعرض للنقابة يعني التدمير الأكاديمي وقطع الرزق، أما "تكسير إضراب" فيؤدي إلى قتل غير رحيم. وقد رأينا الآلاف يشاركون في إضرابات مكرهين خوفا من النقابيين أن يدمروا حياتهم المهنية، خاصة في قطاع التعليم. فالنقابات تملك حقا يفوق حق إدارة نفسها في تحديد المصائر المهنية لرجال التعليم بالنقل التعسفي، وتسليط التفقد البيداغوجي الانتقامي والترقيات المهنية. النقابة في جوهر عملها عصابة إرهابية لا ينقصها إلا الكلاشنكوف، وقطع الرزق أكثر إيلاما من رصاص الكلاش.
النقابة خربت الثورة وصنعت الانقلاب
كذبت النقابة على العالم وعلى الشعب التونسي بالقول إنها أنجزت ثورة 2011. لقد جعلت من فتح مقراتها الجهوية في بعض المدن الفاعلة الثورية السلمية خلال الأسبوع الأول من ثورة 17 ديسمبر؛ تراثا غير قابل للنقاش وامتلكت به حق الكلام باسم الثورة، لكن الذين شاركوا في انطلاقة الثورة لا يزالون أحياء ويشهدون أن المقرات قد تم انتزاعها من الشارع الثائر (بعد ارتفاع عدد الشهداء) برغم الرفض النقابي المركزي، خاصة وقد ظل أمين عام المنظمة ومركزيتها يخطب مع بن علي ويحاول إنقاذ نظامه إلى يوم 13 كانون الثاني/ يناير، حين كان بن علي يحزم حقيبته. لقد تجاوز الثائرون النقابة وأغلبهم لا علاقة لهم بالنقابة وليسوا منخرطين فيها.
التفّت النقابة على اعتصامي القصبة وفاوضت من وراء المعتصمين حتى مكنت للباجي قائد السبسي الذي أُخرج بقدرة قادر من أرشيف بورقيبة وبن علي ليقود البلد سنة 2011، حينها أسندت النقابة المرحلة وقطعت على الشارع إتمام مهمته. في الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2011 كان حزب النهضة قد خرج من تحت الأرض واستولى على الشارع، فكان على النقابة أن تقطع عليه الطريق وهي المهمة التي ظلت تمارسها حتى الآن، أي قيادة الحرب على حزب النهضة وكل من يدور في فلكه؛ لا على منظومة الفساد والاستبداد. هذه هي المهمة الحقيقية والوحيدة للنقابة التي تروج لصورة نقابة شعبية تحمي الشغالين، وها قد كشف الانقلاب طبيعة المهمة.
منذ يومين اعترف أمين عام النقابة زمن الثورة (حسين العباسي) بذلك قائلا بفخر وعلى الملأ: لم نسمح لهم بالراحة والتقاط الأنفاس (يعني حزب النهضة). توجت مهمة النقابة بخروج حزب النهضة من السلطة، ثم ألغى الانقلاب احتمال عودتها ولو بعد حين.
لقد مهّدت النقابة للانقلاب بتخريبها للعملية الاقتصادية وإفراغها للموازنة بزيادات لا يحتملها حتى الاقتصاد السويسري، ثم وقفت منذ الساعات الأولى مع الانقلاب وحمته من احتمالات ثورة الشارع وخاصة الشارع النهضوي، فلما استقر له الأمر عادت إلى الخلف مكتفية بالترويج لحوار سياسي تعرف قبل غيرها أن لا حاجة لأحد به وإنما هو ذر رماد على عيون عشواء لم تنتبه إلى هذا الدور التخريبي. قال أمين عام المنظمة يوم غرة أيار/ مايو: عدنا إلى النضال السلمي، وهي العبارة الفاضحة لما سبق (لقد كانوا في حرب وقد استقر لهم الأمر).
يظن البعض أن الموقف المعلن يوم عيد الشغل هو موقف نضالي مشغول بحال البلد، لكن الحقيقة أنه جوهر عمل المنظمة ومهمتها التاريخية. لقد مهدوا الطريق ثم تركوا الانقلاب والأجهزة الصلبة تنهي وجود الإسلام السياسي، والآن وجبت تهدئة الأوضاع له ليكمل مهمة الإعدام بطرقه الخاصة، وكلما توفر له الهدوء في الشارع كانت المهمة أسرع وأنجع. لقد أرسلوا إشاراتهم أن امض في طريقك أيها الانقلاب فنحن من خلفك ننوّم الشارع بالنضال السلمي.
الانخراط في النقابة بعد الآن مشاركة في الانقلاب
منذ نشأة كذبة نقابة حشاد راج بين الناس أن النضال لا يكون إلا داخل النقابة، وهذا هو الغرض الحقيقي من الكذبة أن تكون جوازا للوجود فتلغي كل وجود خارجها. ولذلك فإن كل المسيسين من كل الأطياف لا يزالون يعيشون بهذا الوهم، فمن لم ينخرط فيها كان كأنه خائن للوطن.
ونرى الآن أن المنخرط فيها هو من يمارس خيانة وطنية إذ تضعه النقابة برغبته (أو بخوفه وجهله) وراء الانقلاب ليحميه ويمهد له استكمال مهمته الأصلية، وهي تدمير حزب الإسلام السياسي عبر تدمير المناخ الديمقراطي الذي يسمح بالوجود والمشاركة (حتى أن المساس بالأشخاص على طريقة بن علي لم يعد مفيدا يكفي تدمير الديمقراطية؛ السبيل الوحيد لوجود حزب إسلامي).
الانخراط في النقابة الآن هو عمل من أعمال إسناد الانقلاب ولا يمكن تفسيره بغير ذلك لأن النتيجة مكشوفة لكل ذي بصيرة، والقول بأن النقابة ليست ملكا للنقابيين العابرين بهياكلها هو خداع للذات وللعقل. فالنقابة حانوت مغلق على أصحابه، خاصة بعد أن تم إلغاء الفصل العاشر وفتح المجال القانوني لتخليد القيادة الحالية (انقلاب النقابة على قانونها قبل انقلاب الرئيس كان ضمن خطة الانقلاب الشاملة على الديمقراطية).
من سيبقى في النقابة الآن؟ لن نجد فيها إلا كل ذي غرض نفعي يتوهم قدرة النقابة، وجاهل يظن خيرا بتراث النقابة المزيف، وجبان يعجز عن مواجهة خوفه من زميله النقابي المسلح بالوقاحة وانعدام الذوق والمروءة. وسيبقى أيضا عربي في مكان ما لم يراجع الكذبة الكبرى التي وصلته من النقابة نفسها عن كفاءة المجتمع المدني التونسي ومؤسساته. سيكون هناك مسار طويل ومؤلم من إعادة تنظيف الوعي من وهْم النقابة قبل تنظيف تونس من الانقلاب.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: