نغير زاوية النظر إلى انتخابات تونس الرئاسية لسنة 2024 من التفاصيل المحلية إلى الماكروبولتيك، يحفزنا شعور أن هذه الانتخابات ومثلها في أقطار أخرى هي الملهاة التي تُصنع للتلهية عن القرار الحقيقي الذي صدر ضد الديمقراطية من دوائر قرار عالمية تملك توجيه العالم وهندسته طبقا لمصالحها الاقتصادية والسياسية.
ومن هندستها الكونية أن لا تكون هناك ديمقراطية تحرر إرادة الشعوب وتمكنها من إدارة شؤونها بنفسها. ونستبعد قبل التحليل ذلك الاختصار المريح بأن التحليل الإجمالي هو استعادة لنظرية المؤامرة التي تديرها حكومة العالم التي لا يعرفها أحد، والتي ينسب لها كثيرون هندسة العالم، لكن في مواجهة هندسة كونية تقودها قوى الهيمنة هل وجب على الشعوب الاستسلام والطاعة حتى الموت؟
قليل من التحليل المادي التاريخي
إن ما نعاينه من امتهان الإنسان في بلد خضع للاحتلال المباشر مثل تونس ثم لم يرتق بفعل حكومات ضعيفة ورؤساء بلا خيال إلى تحرر كامل فأعاد إنتاج التبعية وفرط في سيادته؛ هو تجسيد واضح لمقولات ماركسية ترسخت منذ نهاية القرن 19 عن دور رأس المال في امتهان الإنسان ودفعه إلى وضع حيوان يأكل وينام ويموت، إنسان ذو بعد واحد، أي سائمة ناطقة أو حيوان استهلاكي ملزم بحدود الكفاف لحفظ قوة العمل فقط.
ضللتنا طويلا عن هذه الصورة الواقعية مكاسب الدولة الكينزية أو الاجتماعية لما بعد الحرب العالمية الأولى وأزمة 1929 الاقتصادية، وقد تحقق رفاه كبير في جغرافيات سياسية محددة، وكان ذلك بفضل الفائض الاستعماري المنهوب من مقدرات شعوب كثيرة منها تونس. وكانت تراجعات رأس المال أمام الدولة الاجتماعية يسيرة بفضل ذلك الفائض الذي يبدو أنه بدأ في التقلص، لذلك نعاين استعادة الخطاب الاستعماري تحت مسميات كثيرة لتكريس البلدان التي نفدت ثرواتها الطبيعية أو توشك على النفاد؛ كأسواق استهلاكية ممنوعة من إنتاج كفايتها والتحكم بالتالي في مصيرها، ولذلك فهي ممنوعة من بناء أنظمة سياسية مقبولة شعبيا يمكن دفعها إلى تجسيد تحرر وطني اقتصادي وسياسي. ولا نرى تونس وانتخاباتها تخرج عن هذا الإطار الإجمالي.
تجربة تونس الديمقراطية القصيرة منذ الثورة سمحت لخطاب التحرر بالعودة إلى السطح بعد طمس وتجريم، وتجلت الفكرة/ القاعدة في أن بناء الديمقراطية مشروط بالتحرر السياسي، فهما عملان متلازمان إذا قام أحدهما أو سقط قام الآخر بالتبعية أو سقط. وشكل ذلك أملا لقوم كثير في مناطق مختلفة في أفريقيا خاصة، وهي كنز ثروات لا يزال مدخرا والجميع يتناهبه. ولنذكر أن هذا ليس اكتشافا، بل هو استعادة لروح التحرر التي قادت حروب الاستقلال في الخمسينات ضد الاحتلال المباشر. ونجزم أن قوى الهيمنة قد استشعرت خطر الديمقراطية وهي تخرج من الكراسات النظرية إلى الشوارع والبرلمانات، فحركت ضدها الإرهاب وعملاء الداخل وحاصرتها بشتى السبل بما فيها التهديد العسكري.
لقد هندسونا في تونس
نعم نحن نناور في ممر ضيق ونتغافل عن البعد الماكروبولتيك المحيط بتونس وانتخاباتها. إن ظننا بأنفسنا حرية قرار هو علاج نفسي من وجع الحقيقة، وهي أننا شعب محتل. عندنا سيلان لغوي عن السيادة وهو جوهر خضوعنا، وأكثرنا صراخا بالسيادة حوَّل البلد برمته إلى حارس حدود أوروبا لوقايتها من (هجمات الأفارقة الجياع).
لقد قدم باتفاق حراسة الحدود (المبرم مع إيطاليا بعلم الاتحاد الأوروبي وتمويله) طلب اعتماده حارس حدود وقد حصل على الاعتماد، ولأن حراسة الحدود لا تزال مهمة ضرورية فإن الحارس سيثبت في نقطة الحراسة وسيعطى السلاح اللازم لإنجاح المهمة. وهذا السلاح ليس تنمية مستدامة أو نقل تكنولوجيا لإخراج البلد من وضع المستهلك إلى وضع المنتج المشارك في اقتصاد العالم، بل رزق كفاف يمنع الانفجار ويسهل الاستهلاك لكن دون بناء القوة.
ولجعل حراسة الحدود أقل كلفة على المحروس يأمر الحارس بتدبر أمره فلديه "حلي زوجة ويمكن بيعه"، وهذا الحلي هو ما تبقى من أثر دولة اجتماعية بنيت بالدم والدموع غداة الاستقلال.
تسريع عملية التفويت
لتونس مؤسسات اقتصادية عمومية لا تزال نظريا منتجة وتحفظ بقية حياة للناس، وهي تشكل دوما رافعة أو احتمال نهوض اقتصادي وتحرر سياسي؛ منها (دون قصد الحصر التام) شركة الطيران وشركة الكهرباء وشركة المياه، ومنها حتى سوق التبع زراعة وصناعة وترويجا، فضلا عن رصيد زراعي كبير قادر على تغذية جزء مهم من السكان، لذلك فإن بقاءها بيد الدولة هو بقاء تهديد سياسي دائم.
وجب التفويت أو إكمال ما بدأه نظام بن علي بيد مرتبكة، عيون كثيرة على هذه المؤسسات، ومنها العين الفرنسية التي تعرف الإمكانات الحقيقية. سيكون التفويت فيها كافيا لتمويل سنوات طويلة من حكم حارس الحدود، وخاصة تحت ضغط أجنبي يعرض حماية النظام من الانفجار الشعبي مقابل التفويت (وهي نفس الوضعية التي أكمل فيها بن علي حكمه).
ولا مجال لمغامرة غير محسوبة باستبدال الحارس المتطوع للدور برئيس قد يتنطع ويعود إلى ترويج خطاب إنقاذ المؤسسات العمومية، فالمطلوب تفليسها وبيعها (والشاري يتربص).
هنا تتضح الهندسة ويسقط الصندوق الانتخابي، ويتحول كل طموح الناس إلى الديمقراطية والحرية إلى لغو مثير للشفقة، وتتحول انتخاباتهم إلى ملهاة أطفال أغرار. مطلوب رئيس يبيع حلي الزوجة لينفق على الأولاد وقد تم الاختيار، وبدأ التنفيذ بإغلاق باب الانتداب في الوظيف العمومي وخاصة في التعليم، حيث بدأ العام الدراسي بلا مدرسين وبفصول تضم أكثر من 45 متعلما بالفصل الواحد. النظام السياسي الذي يحمي شعبه من الجوع والفقر والمرض يجب أن ينتهي.
هل نستسلم؟
حكومة العالم لن تتركنا نموت لأنها تحتاجنا كما كنا منذ قرنين مستهلكين لما تنتج، وستهندس لنا المرحلة القادمة وهي أعلم منا بضعفنا وفرقتنا وهواننا على أنفسنا. فقد هندست أرواحنا وعقولنا قبل هذه الانتخابات، إنها ترى كثيرا منا يفضل أن يتقاسم قهوته مع المحتل في قلب باريس ويرفض تبادل التحية مع مواطنه بناء على خلاف عقائدي مفوّت، وهذا يترك لها هامش الهندسة مفتوحا لتأمر بما تشاء.
إن التحالف الكوني ضد غزة ومعركتها المقدسة يقدم لنا الدرس الأخير والوحيد. النضال القانوني لن يجدي الشعوب المحتلة نفعا بل يباعد بينها وبين تحقيق تحررها الكامل (ولو كان مجديا لتم تطبيق اتفاق أوسلو وهو الحد الأدنى من الحق الفلسطيني)، ويمنع انتصار خيار حماس في العالم، لذلك يتحالف كل العالم ضده ويكمل حراس الحدود بقية المهمة.
خيار حماس هو معركة استقلال وطني شامل يوقف هندسة الشعوب من طرف "حكومة العالم" ويعيد ترتيب أوضاع دولية ليس بين منتج ومستهلكين خانعين بل بين شعوب حرة تملك قياد نفسها وهو طموح الخمسينات الذي أجهض بقوى محلية انتهازية فاقدة لروح التحرر.
متى يكون خيار حماس ممكنا؟ عندما تصل الشعوب إلى وضع المواطن الغزاوي قبل حرب الطوفان، أي لا مخرج له ولا تعزية إلا أن يخوض حربه الأخيرة، فإما منتصر حر أو شهيد، أي عندما يتحول الدرس الغزاوي إلى كراس تطبيقي للتنفيذ خارج غزة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: