فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8779
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كنت من قبل قد ذكرت أنه لفهم الواقع بطريقة سليمة، يجب توفر ما اقترحت أن يكون منهجا جذريا يتناول مستويات الفهم والفعل والتقييم (1)، وفي هذا السياق، أحاول في ما يلي أن أتعمق في مستوى الفهم، وبالتحديد في مستوى تقييم صحة فكرة ما.
لاحظت أن العديد من عقد الواقع ترجع أسسها لمعيقات عملية الفهم السليم، ولما كان الفهم هو نتيجة لعملية سابقة عنها وهي عملية تقييم المعاني، كان إشكال فهم الواقع هو إشكال بدرجة أولى في مستوى عملية التقييم الصحيح للأفكار المتضمنة في الفعل أو القول. وبالتالي فان فهم الواقع بطريقة سليمة يجب أن يكون مسبوقا ضرورة بالتمكن من قواعد التقييم الصحيح لكل فكرة سواء بقيت مجردة أو نزلت واقعا كلاما أو فعلا.
سأحاول أن اقترح قواعد يمكن من خلالها تقييم صحة أي فكرة ما وبالتالي صحة أي كلام أو فعل، وقد توصلت لأربع قواعد سيتم البرهنة عليها في ما يلي.
- إذا نظرنا للأفكار من زاوية صحتها واقعا، فإنه يمكن الخروج باستنتاج أن الفكرة في بعض مستوياتها إما أن تكون ثابتة المعنى عبر الزمان والمكان وإما لا.
- ففكرة أن الواحد مع الواحد يساوي اثنين أمر ثابت عبر الزمان والمكان، وفكرة الجمع المنطقي بين الصواب والخطأ التي تكون نتيجتها خطأ أمر ثابت أبدا ولا يتغير (2)، ولكن فكرة أن ممارسة الجنس لا تتم إلا في إطار عقد زواج أمر ليس متفق عليه لا زمانيا ولا مكانيا في زمن واحد (3)، ففكرة الزواج سبقتها زمنيا المشاعية الجنسية، وحتى في زمن واحد فان اختلاف الإطار المكاني والفكري لا يجعل فكرة الزواج متفق عليها.
- لما كان المستويان من الفكرة، المستوى الثابت والمستوى المتغير، يمكن وجودهما في أي شي غير مجرد، ولما كان احد المستويين غير مرتبط بالزمان ولا بالمكان عكس المستوى الآخر، كان معنى ذلك أن هناك مستوى موجود ابتداء ثم يأتي بعده مستوى مرتبط بالزمان والمكان، وهذا يعني أن المستويين لا يمكن أن يتواجدا إلا بطريقة مستقلة ومتتابعة بطريقة طبقية، يعني لو أخذنا أمرا ما في واقع زماني ومكاني فانه يتوفر لا محالة على طبقة مفهوم ثابت ثم تليها طبقة مفهوم متغير.
- نلاحظ أن المستوى الثابت هو المستوى الذي يعطي لأي فكرة معنى لدى الإنسان العاقل بقطع النظر عن الأزمان والخلفيات الفكرية والأماكن الجغرافية، ونحن نلاحظ أن الشيء المشترك بين البشر في هذا المستوى ليس إلا القواعد العقلية الأولية، وهي أساسا قواعد المنطق (4). إذن فان أي فكرة يفترض فيها أن يكون مستواها الأولي هيكل منطقي سليم، من قبل أن تنزل في واقع ما.
من هنا تكون القاعدة الأولى لتقييم صحة فكرة أو كلام أو فعل، ولتكن صياغتها كالتالي: الفكرة (وبالتالي الكلام أو الفعل) يجب أن تكون سليمة في بنائها المنطقي، وان كانت كذلك فلنسمها فكرة سليمة وإلا فان نسميها فكرة فاسدة. الفكرة السليمة يمكن النظر في تنزيلها واقعا، والفكرة الفاسدة لا معنى للنظر في تنزيلها واقعا لأنه لن يكون إلا تنزيلا فاسدا بالضرورة.
- لو كان التنزيل الواقعي للأفكار ثابتا لأصبحت المعاني ثابتة عبر الزمان والمكان، ولو كان الأمر كذلك فان الأفكار في معناها البشري لن توجد أساسا لان الأفكار هي تنزيل تجارب لأفهام بشرية في قوالب منطقية، ولو صح مفهوم الجمود فان الأفكار ستكون فكرة واحدة، ولما كان الواقع يقول بعكس ذلك ثبت انه توجد أفكار تعكس مفاهيم متغيرة عبر الزمان والمكان إضافة لمستوى المعاني المنطقية للفهم التي قلنا إنها تمثل الطبقة الأولى.
- الفعل حينما ينزل واقعا أي حينما يدخل للطبقة الثانية من المفهوم، فانه يتحرك في مستويات أخرى، هي الواقع والمرجعية الفكرية للواقع وتفاصيل الواقع.
- المرجعية الفكرية التي يتخذها الواقع مرجعا عقديا وفكريا (5)، هي المستوى المستقل والمؤثر والذي يعطي معنى للفكرة في مستواها الثاني للفعل، ثم يأتي مستوى الواقع الذي يحوي محاور التحرك في الزمان والمكان.
- وجود عقيدة أو فكرة تعطي للناس تفسيرا للوجود والكون والحياة والموت، يعني وجود من يعتقد فيها واقعا، ولا معنى للاعتقاد غير وجود تلك الفكرة وإلا لما وجدت، لأنه لو لم يوجد من يتبناها لما وجدت ولما وصلت إلينا.
- لا يمكن لواقع من البشر أن يقبل فكرة أو تنزيلاتها فعلا أو كلاما مما يعارض عقيدتهم بقطع النظر عن درجة صد المخالفين لهم، فتلك تفاصيل، وحينما تصل معارضة غيرهم لهم درجة غير مقبولة، فهؤلاء المعارضون لن يعودوا تحت تلك الفكرة أو العقيدة، وبالمقابل حينما يتخلى الناس عن عقيدتهم فهم لم يعودوا تبعا لها، ولكنهم حينما يكونوا تبعا لتلك العقيدة فان الفكرة يشترط في قبولها واقعا وتنزيلها مطابقتها لمرجعيتهم العقدية.
من هنا تكون القاعدة الثانية لتقييم صحة فكرة أو كلام أو فعل، ولتكن صياغتها كالتالي: الفكرة (وبالتالي الكلام أو الفعل) يجب أن تكون مطابقة للقاعدة الأولى، ثم موافقة للمرجعية العقدية الضابطة للواقع، وان كانت كذلك فلنسمها فكرة مقبولة وإلا فإنها فكرة مرفوضة.
- الفعل حينما ينزل واقعا فانه يكون محكوما بإطار زماني ومكاني يعطيه معنى واقعا ماديا، بمعنى أن تغير محوري الزمان والمكان يمكن أن يغير معنى ذلك الفعل، فالمرور -مثلا- من طريق معين بالمدينة مما يمنع المرور فيه، يمكن أن تنجر عنه تتبعات قانونية في شكل خطايا ولكنه ليس كذلك بالضرورة في زمان آخر، وتغير هذا الإطار يمكن أن يكون في شكل قوانين، وبالتالي يمكن أن توجد قواعد تحكم تنزيل فكرة واقعا وهو مطابقتها للأعراف والقوانين.
من هنا تكون القاعدة الثالثة لتقييم صحة فكرة أو كلام أو فعل، ولتكن صياغتها كالتالي: الفكرة (وبالتالي الكلام أو الفعل) يجب أن تكون مطابقة للقاعدة الأولى ومطابقة للقاعدة الثانية ثم موافقة للأعراف والقوانين، إن كانت كذلك فلنسمها فكرة قانونية وإلا فإنها غير قانونية.
- الفعل حينما ينزل واقعا فانه ينظر في صحته لكل الإطار المكاني و الزماني او لجزء منه، وهذه النظرة التجزيئية عامل كبير في تحريف الفهم، وللتعمق في هذه النقطة، لنفترض أننا أخذنا مقاوما عراقيا ليكن صدام حسين، قبض عليه من طرف المحتل الأمريكي وحكم عليه بالإعدام، وليلة التنفيذ قدمت له أشهى المأكولات والأغذية على عادة منفذي حكم الإعدام حينما يستجيبون لطلبات المحكوم ليلة التنفيذ. لو اقتطعنا شريط الزمان وحددناه بتلك الليلة فقط لظهر لنا أن المحتل الأمريكي كريم وذي حس إنساني رفيع ولجرنا هذا الفهم لتحريف الواقع حول الاحتلال، ولكننا نحكم بعكس ذلك لأننا آليا نتجاوز الإطار الزماني الجزئي، ونرفض أن ننظر بتجزئة للموضوع، إلا أن الأمور لاتمضي في واقعنا دائما بمثل هذا الوضوح، فالعديد من المسائل تقدم ابتداء بطريقة مجزئة من دون أن ننتبه إليها.
- للتأكد من عدم الوقوع في خلل التجزئة على محور الزمان والمكان تكون القاعدة الرابعة لتقييم صحة فكرة أو كلام أو فعل، ولتكن صياغتها كالتالي: الفكرة (وبالتالي الكلام أو الفعل) يجب أن تكون مطابقة للقاعدة الأولى ومطابقة للقاعدة الثانية ومطابقة للقاعدة الثالثة ثم مستوفاة الصحة في كل مجالها الزمني والمكاني.
- نصل بعد كل هذا لنتيجة أن الفكرة إما أن تكون سليمة منطقية وإلا فإنها فاسدة، فإن كانت سليمة فإنها إما أن تكون مقبولة نسبة للمرجعية العقدية وإما لا، إن كان كانت مقبولة فإنها إما أن تكون قانونية وإما لا، فان كانت قانونية فإنها إما أن تكون مستوفاة لكل الشروط السابقة في كل مجالها الزمني والمكاني أو لا، والفكرة الصحيحة هي التي يجب أن تستوفي كل هذه المراحل.
------------
1- انظر المقال الذي وضحت فيه تلك المسألة: قواعد في فهم الصراع مع دعاة التبعية الفكرية بتونس
2- الجمع المنطقي هو أن يكون ناتج عملية الجمع صوابا بشرط أن يكون كل أفراد العملية صوابا، وخطأ إن كان احد الأفراد على الأقل خطأ. والجمع المنطقي غير البدل المنطقي الذي يعني أن الناتج صواب إن كان أحد الأفراد على الأقل صوابا.
3- الزمان هو المدة الامتناهية، والزمن هو الزمان المحدود
4- أقصد قواعد المنطق الأولية وكذلك القواعد المتفرعة عنها من مثل: قواعد الدور والتسلسل والمصادرة على المطلوب والبدل المنطقي والجمع المنطقي وغيرها.
5- انظر سلسلة المقالات التي تناولت فيها نماذج للمغالطات للمنطقية:
الرد على المغالطات: مفاهيم في حرية السلوك والقضاء والصحافة
الرد على المغالطات في مسألة اليوم العالمي للمرأة
الرد على المغالطات في جدل احتفالات المولد النبوي
الرد على المغالطات: القول بالقيم الكونية
الرد على المغالطات: مزاعم النمط المجتمعي والمكاسب التونسية
6- المرجعية الفكرية هي مولدات المعاني التي تعطي تفسيرا للإنسان وتحركه في الوجود، وبهذا المعنى فان الإلحاد مثلا أو الفلسفة الوضعية الغربية التي تتخذ الواقع منتجا للأخلاق والمفاهيم هي عقائد ومرجعيات فكرية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: