يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
طلقها رغم تضحية اكثر من عشر سنوات وقصة حب طويلة (3)
خرج فخري من السجن فوجد سلمى أحسنت التصرف في حالها الذي آلت إليه طيلة عقد من تغييبه بالمعتقلات، فقد كانت نعم الزوجة في غيابه، فهي التي رعت ابنه الرضيع و أحسنت رعايته حتى أضحى طفلا في أواخر طفولته مقبلا على المراهقة، وهي التي ربته على قيم رفيعة فأحسنت تربيته، هو الذي عانى من غياب أبيه فأتقنت المرور به من عقبات ذاك الحال الذي صاروا اليه
كانت سلمى تبتئس من أوجاع كثيرة تلم بها كل حين، كان يحزنها حالها وحال ابنها، ويحزنها غياب زوجها، وكان ينغص عليها راحتها النادرة كونها امرأة ذات مسؤولية، بل هي امرأة منبوذة، فكان كل هذا العنت يجلب لها شقاء يتكاتف عليها ويغلبها أحيانا كثيرة ويصيرها جثة، وكم من مرة طلبت الراحة من ذلك بالبكاء الخافت، فتلتجئ الى غرفتها لتفريغ كآبتها إشفاقا من أن يراها ابنها على تلك الحال، وهي لا تريد ان تظهر له أي من ضعفها الذي يتملكها وتصارعه وتأبى الخضوع له
وكذلك مضت حياة سلمى طيلة غياب زوجها السجين، قوة تصطنعها لتواجه بها الواقع وخشونة تدرعت بها تداري بها ضعفها، ثم تطاول العهد، فتطبعت سلمى مع شخصيتها الجديدة تلك وصفاتها وتلاشت سمات سلمى القديمة، واختفت رويدا رويدا سلمى التي عهدها فخري قبل عقد من الزمن ولم يبق منها الا بعض ذلك
*****
تعرض فخري فترة سجنه لتأثير غير تاثير السجن والحجز، وقد تعود الناس أن يصفوا أمثال فخري بأنه سجن وعذب يقصدون البعد المادي للسجن، ولكنهم لا يتناولون تأثيرا اخر تعرض له فخري و امثاله وهو التوجيه الذهني، فمساجين الاسلاميين لم يوضعوا لوحدهم كما تفعل الانظمة بمصر واالسعودية والاردن والمغرب و الجزائر، وانما وضع مساجين تونس من ذوي الانتماء للحركة الاسلامية صحبة مساجين الحق العام، و أخضعوا الكل للمشاهدة اليومية لقناة التلفزة التونسية، ولما كان هؤلاء المساجين في بيئة سجنبة مغلقة من دون مصادر معرفية خارجية ولا اشخاص يمكن أن ينتج مجال مفاهيمي يخالطهم، فإنهم كانوا موضوع إعادة تشكيل في تصورواتهم من خلال قصف ذهني بحوامل مفهومية تزودهم بها التلفزة التونسية
ولما كانت تلك التلفزة تعرض الافلام والمسلسلات و عموم الناس بحالتهم العادية بانحرافاتهم وتبرج نسائهم، فإن ذلك لتطاوله أنتج لديهم تطبيعا مع تلك المشاهد وفتّت مفاهيمهم التي تغالب كل ذلك، وبطول الوقت أورث كل ذلك لديهم ربطا وجدانيا مع الواقع ومشاهده ونفوارا مع ما يغالبه اي مع ماكانوا أصلا عليه ومن أجله دخلوا السجن، فلم تعد صور المتبرجات تقلقهم ولم يعد الواقع المنحرف يستحق تغييرا برأيهم، لأنه اصبح الوضع السوي الاصلي بحكم تطبيعهم الذهني معه
لقد تعرض فخري والالاف من أصحابه لنوع من اعادة التثقيف بالمصطلح الشيوعي وهو ما قامت به الماوية وستالين في فترات، ثم تقوم به الصين الان مع الإيغور، حيث تضع المسلمين في اماكن مغلقة وتعيد تكوينهم ذهنيا
علميا هذه الممارسات معروفة، إذ أنك حينما تعزل فردا مدة شهر تقريبا وتخضعه لمعاني و افكار من نوع ما، فإنه ينتهي لتغيير ارائه الاولية او على الأقل الشك فيها، فما بالك من عزلوا واخضعوا لقصف ذهني طيلة سنوات
وقد لاحظنا نحن أبناء الحركة الاسلامية ممن لم يدخل السجن أثر ذلك عمليا، فكم من الاخوة الذين خرجوا من السجون كنت شخصيا أتشوق للقائهم، ولكني كم من مرة أرجع خائبا متسائلا كيف تحول هذا الشخص وماذا حصل له فترة السجن، حيث أني لاحظت لدى نسبة منهم تغيرا في السلوكيات التي تؤشر على تغير في الفهم والموقف من الواقع واعتباره الوضع الطبيعي السوي
لقد تعرض فخري وجل من دخل السجن لعملية تهشيم نفسي نتج عنه تطبيعهم مع الواقع بل نتح عنه انكسارهم واتخاذهم ذلك الواقع مرجعا يوجب منهم كما فهموا التقرب منه ومن فاعليه
*****
تدبرت سلمى لفخري عملا يشغل به حاله، لأنه أساسا لم يكمل دراسته الجامعية، فسلمى أستاذة كونت علاقات وزملاء، فأتاح كل ذلك لها أن تتدبر لزوجها فخري عملا يشتغل به
ومضت حياة سلمى وفخري على تلك الحال مدة سنوات قبل الثورة حيث أنجبا طفلا وطفلة إضافة لمحمد الذي صار إلى فترة المراهقة
كان فخري يتعامل مع واقعه الجديد بخليط من المشاعر المتضاربة، فما كان يربطه بسلمى غاب واندثر جله ولم يعد له من معنى، صحيح لقد كان يحب سلمى لكنه إنما تزوجها وعادى أهله من أجلها بسبب المشروع الاسلامي الذي جمعهما وليس بسبب الحب، لكنه الان لم يعد يعتبر كل ذلك ذا قيمة وقد أصبح لديه مجرد غرور مراهقين، وهو الان يكره أن يذكره أحد بكل ذلك، فكيف وزوجته من أولئك
تحول زواج فخري من سلمى لمصدر ضجر، وبات رجوعه للبيت نوعا من الإرهاق النفسي، و أصبح يعامل سلمى كزوجة فقط، بل أصبح يراها كامرأة فقط وسلمى في هذه النقطة لاتملك الكثير لتنافس به ولا لتغريه
لقد فعلت السنون فعلها في سلمى المرأة، فالهموم التي مرت عليها والعذابات التي قاستها والبؤس المادي الذي واجهته، أثر على بدنها وجسمها وكل ما للمراة أن تفتخر به
وكان فخري لما خرج من السجن وجد سلمى تتنتظره باسمة بقلب صافي وحب يملأ الدنيا، لكن فخري لاحظ أن وجه سلمى شاحب كالح وبدت متقدمة في العمر كأنها في عمر أمه لشدة نحالتها وذهاب نضارتها و بسبب بعض من أمراض لاصقتها فترة سجنه لم تفلح في العلاج منها كلها
****
كنت -انا الراوي- تربطني علاقة بسيطة بسلمى من تلك العلاقات التي تربط الاخوة في الجامعة وكانت تربطني علاقة أخرى أكثر تقدما مع فخري باعتباره طالبا ولا أعرف أكان فخري ينشط في خلايا الاتجاه الاسلامي أم لا، وهو لم يكن على أية حال معنا في خليتنا، أما أنشطته بالجامعة فهي لم تكن تعنيني ولم أكن أساسا أحضر تلك الاحتفالات الثقافية إلا نادرا، بالمقابل كانت زوجتي على علاقة متقدمة مع سلمى
بعد الثورة ولسبب ما ذهبت مرة لبيت سلمى صحبة زوجتي، ولسبب ما لم يكن فخري هناك، فوجدنا سلمى نشطة كالعادة ورحبت بنا و أفهمتنا أن فخري بدأ يشتغل في عمل جديد وكانت فرحة بذلك جدا، وكانت كتلة من الطاقة والنشاط كعادتها، وكان ابنها محمد وقتها بالباكالوريا، وقد أكمل تلك السنة دراسته ونجح وانتقل للجامعة
******
بدأت التوترات تظهر بطريقة مكشوفة بين فخري وسلمى وتحولت لمشاكل، فكنا ننتقل أنا وزوجتي لبيتها كل مرة لتفهم الموضوع، وخلاصة ذلك أن تحدثت سلمى بكلام كثير من زاويتها هي، وبينت لنا أن فخري منذ مدة لم يعد يأت للبيت و أنه مستقر لدى أهله، تريد أن تقول أن لأهله سببا في جفائه معها وأنهم ينتقمون من عجزهم على تطليقها أول زواجها
كانت الأمور تزداد سوءا بين سلمى وفخري، وبلغني أن فخري ضربها مرة وهما بالبيت وأن ابنهما محمد كان موجودا فأثر ذلك فيه كثيرا، وكان محمد يدرس بالسنة أولى جامعة
دخلنا مرة أنا زوجتي بيت سلمى في فترة سوء العلاقة هذه، وكان محمد بغرفته، وقد أعلمتنا سلمى ان إبنها متأثر كثيرا بما يقع بينها وبين فخري، أردنا مقابلته بغرفته، فأغلق دوننا الباب، ورفض مقابلتنا بل مجرد رؤيتنا
كان محمد يعرف أننا أصدقاء أمه و أبيه، ولا ادري لماذا رفض محمد مقابلتي أنا و زوجتي، أحسست بشعور غريب إزاء موقفه هذا، خاصة أن لي ابنة في عمره تقريبا وكانت ساعتها مثله تدرس بالسنة أولى جامعة
أتراه يعتبرنا مشاركين في مأساته التي يعيشها منذ رأى النور
هل يريد أن يقول أني أكرهكم كلكم أنتم أمي و أبي و أصحابهما، أنتم الذين دمرتم طفولتي وشبابي وحرمتموني من الأسرة السوية
هل يريد نسيان واقعه بالهروب ممن يذكره به
*****
اتصلت يفخري أكثر من مرة لتبين الأمر ولمحاولة إصلاح علاقته مع سلمى، وحدثني من زاويته هو كيف يرى الحال
حدثني كلاما كثيرا، ومن ضمن ما اشتكى به لي أن سلمى أصبحت لا تطاق بتصرفاتها الخشنة "الذكورية" التي لا تليق، وذكر لي نماذحا من نوع أنه مرة يمشى معها بالطريق وفجأة تركته وذهبت تحدث رجلا آخر، وتبين أنه زميلها بالعمل، وقال لي هذا لا يليق أن تفعله وقد فعلت مثله مرات كثيرة كما قال
ثم نقلت بعد ذلك هذا الكلام ولوم فخري على سلمى، لها، فردت علي أن ذلك الشخص المقصود زميلها بالتدريس وهي لم تفعل أكثر من أن حيته بالطريق، وترجيتها وأفهمتها أن تكف عن تلك التصرفات لأن ذلك إن كان مقبولا منك فترة غياب فخري وتفهم موقف الخشونة منك وتعاملك كأنك رجل مع رجل، لكن الان يجب مراجعة سلوكياتك وتفهم كونك زوجة لرجل
الحقيقة أن سلمى في هذه النقطة لم ترق لي ورفضت مراجعة سلوكياتها و أنا نفسي كنت أراها مسرفة في تبني بعض السلوكيات المندمجة في الواقع و إن كنت أتفهم ذلك باعتبار ظروفها التي فسرتها من قبل، سلمى كانت مصرة على عدم خطئها و أنها لم تفعل ما يستحق التراجع والاعتذار
ما يجب قوله، أن الاسباب التي يقدمها فخري كاحترازات على سلمى كثيرة ولها أحيانا مبررات، ولكني أعتقد انها كلها مجرد تبريرات لأسباب اخرى حقيقية لا يريد فخري التصريح بها
فخري بلغ ضجره من سلمى مبلغه، وفخري يريد التخلص من سلمى ومما تمثله من تاريخ ورمزية ثقيلة يريد نسيانها
فخري يريد أن يبني حياة جديدة، ولكنه سكت عن ذلك فترة ما قبل الثورة لأنه كان من دون شغل قار وأنه كان مجبرا على الإمضاءات وقبول التنكيل به لدى الامن، أما الان بعد الثورة فقد استقر حاله، وعليه بدأ حياة جديدة من دون سلمى، حياة مثل تلك التي طالما حلم بها وشاهدها بالتفلزة فترة السجن
فخري يريد حياة جديدة مع فتاة جديدة لا يهم إن كانت تصغره بحيث تكاد تكون في عمر ابنته، إنه يريد أن يعيش كما يعيش أمثاله، وهو مازال في الاربعينات ويمكنه الاقتران مع فتاة في العشرينات او الثلاثينات ولتذهب سلمى "العجوز" لحالها
****
تعقدت الأمور بين سلمى وفخري لدرجة كبيرة، وكان فخري قد قرر حسم الموضوع بالطلاق، قابلته وتحدثت معه فوجدته صارما ملغيا أي إمكانية للتراجع وحاول تبرير ذلك بطرق عديدة و أمثلة مما أتته سلمى "العنايدية" ضده
ذهبت صحبة زوجتي لمقابلة سلمى، وقالت لنا إن محمدا ابنها لشدة تأثره بما يقع بين أمه وأبيه رسب في دراسته الجامعية، الاخطر أن محمدا أصبح لايريد المجيئ للبيت أصلا، فكان ينقطع أياما و أمه تخاف على ابنها وتتساءل أين تراه يذهب، ويبدو انه كان يلتجئ لمجموعة من الاصحاب ولكنها لا تعرف ماذا يفعلون
كانت سلمى تعرف بمسألة عزم فخري الطلاق، لكنها لاتريد تصديق ذلك، لكأنها كانت تعيش في عالم آخر، قالت لي مرة بخليط من الاستغراب والتعجب: خويا فوزي، فخري يطلقني، هل يعقل هذا، قالتها بعيون وقلب الذي يعيش الفترة الطلابية
كانت سلمى تقيس علاقتها مع فخري بمسطرة المبادئ والمشروع الاسلامي وحبه لها الذي جعله يوما يتحدى أهله ويتزوجها
بالمقابل أصبح فخري يقيس علاقته مع سلمى بمسطرة أخرى اكتسبها من السجن، مسطرة الواقع والمصالح الذاتية وكفره بالمبادئ، واعتماده على مقاييس أخرى في المرأة لا تملك منها سلمى شيئا تقريبا
*****
تسارعت الامور، وبلغني أن المحكمة قد أصدرت حكم الطلاق ، وكانت سلمى لآخر جلسة لاتصدق أن فخري سيطلقها، وساعتها تأكدت أن سلمى في غير وعيها فعلا وتعيش ازدواجيه جعلتها لا تستوعب مايقع، لانها لاخر لحظة كانت تعتقد وتصر أن فخري الذي ينوي الطلاق هو فخري التسعينات، وصدر حكم الطلاق، وبعدها سرعان ما تبين ان لفخري فتاة تنتظره يبدو أنها زميلة في الشغل
لم أرد ولم استطع مقابلة سلمى بعد الطلاق، ولكن زوجتي تتصل بها كل مرة، وقد اعلمتنا أن محمدا ابنها رسب للسنة الثانية على التوالي في دراسته الجامعية، وهي تحاول أن تنقله لجزء جامعي جديد
وحينما كان فخري يتمتع مع زوجته الناهد الجديدة، كانت سلمى التي بدأت تعاني من مرض جديد، تسعى لكي تؤمن لابنها محمد مواصلة دراسته الجامعية
لقد كتب لسلمى ان تكون طاقة تزود الاخرين بالمبدئية، لقد كتب على سلمى ان تكون مدرسة، كانت سلمى درسا حيا، كانت كتلة من العطاء
لقد خلقت لكي تنير الطريق لغيرها
لم يفت في عضدها يوما تخلي الاخرين عنها ومحاربتهم لها، ولم يفت ولن يؤثر فيها تخلي فخري عنها وبقائها لوحدها في الطريق، طريق المبادئ والتضحية من أجل الاخرين