يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
طلقها رغم تضحية اكثر من عشر سنوات وقصة حب طويلة (2)
قضت سلمى أياما تحاول استيعاب ماحل بها من صعاب وعذابات تنوعت وتناسلت من بعضها، وهي في محاولتها النهوض لاتنسى أنها سلكت طريقا زرع أشواكا وقليلا ما تجد به نباتا فضلا أن تكون ورودا، طريق الصالحين و أصحاب المبادىء، وهي حينما تتذكر سيرتها تعتقد لكأنها خلقت لتشقى، وهل كانت حياتها منذ طفولتها كيتيمة إلا عنتا وعسفا
كانت الخواطر تراودها عن نفسها في لحظات ضعفها وتوحي لها أنها اخطأت اذ اتبعت هذا المسلك الغريب في حياتها، فماهذا الذي تفعلينه في نفسك ياسلمى، أما كان لك أن تكتفي بدراستك الجامعية ثم تتخرجين وتتزوجين وتبنين أسرة كسائر النساء، ثم تمتلكين سيارة وتعتنين بابنائك، ألا تعرفين ياسلمى أن كل هذا كان في متناولك، لماذا هذا الشقاء الذي تصرين عليه
ألا ترين ياسلمى أنك وحدك وشرذمة قليلون معك هم من دون كل الناس من يقوم بهذه المشاكل ويقدمون أنفسهم للتهلكة، ألم تسمعي إمام الحي يقول في خطبة الجمعة أن الاسلام منعنا من أن نقدم على التهلكة، هل تعرفين أكثر من الامام، انت أساسا غير مختصة في الدين أنت تدرسين الهندسة فماذا تفقهين في الاسلام، ألم تسمعي المفتي يقول أن من تتحركين معهم متطرفون والاسلام نهانا عن التطرف، هل تعرفين أكثر من المفتي
هل تعتقدين أن كل الناس غيركم وهم الاكثرية على ضلال وأنتم فقط على صواب
وتتحالف عليها تلك الخواطر المرجفة وتشتد أكثر كلما قوي إحساسها بقلة الزاد وغياب النصير ونفور الكل منها، لقد أصبحت غريبة وأي غربة، حتى إن الناس لا يحيونها تحية الصباح، ومنهم من يلوي وجهه معرضا عنها حينما يراها، تجنبا أن يضطر لتحيتها وما قد تجر تلك الفعلة من تبعات يتكفل بتسجيلها العسس وينقلونها للسلطة
لكن تلك الخواطر سرعان ما تفزع من ذهنها وتنقشع في هلع، ما إن تتزود سلمى بطاقات أخرى، طاقات الإيمان الذي مثل زادها وقوتها مقابل كل هذه الصعاب، ويتحرك مع إيمانها ذاك داعما له، العقل الذي ينهض لتفسير الواقع وفواعله ، فتنقشع بعيدا خواطر الجذب للوراء، تهرب غير ملوية على شيئ تأملات الخور والخمول والإخلاد الى الأرض، لدنيا التراب والطين، وهي لا تريد أي من ذلك، هي المؤمنة القوية بطاقة دلالات الإيمان التي أصبحت تعيشها رأي العين، تريد أن تبقى محلقة في الأعلى، محلقة في عالم الأفكار والمبادىء عالم الشهداء والصديقين
لذلك فالعقل يفسر لها ماتعيشه، إذ الكثير إنما ينفرونها بحكم خوفهم من كبير العسس الذي كلف بإمامة مسجد الحي وقد نجح في الايقاع بالعديد من الاسلاميين و أدخلهم السجن، وهو يواصل مهام الوشاية وتعقب هؤلاء، وقد جازته السطات بأن زادت مهماته، فكلفته بإمامة الجمعة بالمسجد الجامع
لكل ذلك فإن سلمى تتفهم أحيانا إعراض الناس عنها بسبب خوفهم من العسس وكبيرهم الذي يعلمهم الدين في النهار ويفكك الاسر ويرمي بالناس للسجون والتعذيب في أنشطة الليل
وسلمى في كل فهمها هذا تشفق على ساكني حيها وغيرهم من عموم البلاد، على ما صاروا إليه، إنها تنظر من عليائها لمستنقعاتهم التي يعيشون فيها راضين مطمئنين، طمأنينة تقرب لطمأنينة الدواب في مرعاها الذي ليس لها غيره من أن يشغلها
فهي لا تحمل في نفسها ضغينة لأي احد رغم كل ما حل بها، و إنما ترى أن مهمتها مبدئية ضد واقع أفسد الناس واستولى على حقوقهم وصيرهم فقراء ماديا ودينيا، وواجبها استنقاذ هذا الواقع و أهله وتغييره وهذا دونه الصدام ممن يحمي ويستفيد من استغفال الناس، و أن كل هذا واجبها باعتبارها مسلمة، لا يلغي هذه البديهية كون الناس لايفقهون ذلك وفي الحقيقة انهم لم يعطوا الفرصة لكي يفهموا ذلك
***
سرعان ما عمدت سلمى للتأقلم مع الواقع الجديد، فكان أن اكملت دراستها الجامعية بالتوازي مع بعض اشتغالها اعمالا بسيطة تؤمن لها مصاريف حياتها اليومية صحبة طفلها
وسرعان ما التفتت سلمى لمجالها الذي طالما تحركت ونمت فيه وعملت من أجله ومعه، فإذا كان الناس ينفرونها فإن لها إخوة لا ينفرونها بل يأنسون بلقائها، و إذا كان الناس يمقتونها فإن لها إخوة في الدين يعزونها، وإذا كان ناس الجحود يكرهون ماتفعل ولا يفقهون دواعيه أصلا، فان هناك من يعظم مافعلته ويضعونها بمرتبة و أي مرتبة من السمو والرفعة
عملت سلمى على الاتصال بقدماء من عرفتهم زمن العمل الطلابي، من أبناء الاتجاه الاسلامي و أولئك الذين كانوا ينشطون بالعمل النقابي والثقافي من الذين لم يقبض عليهم وصار أغلبهم ذوي شغل قار، وفيهم من أضحى صاحب مشروع خاص، وكثير منهم تزوج و أنجب الأبناء وكون الأسر
فتنقلت سلمى بين كل أولئك واتصلت بهم وبزوجاتهم وبأبنائهم، و أنساها ذلك جفاء المجتمع الجاحد، بما وجدته لديهم من ألفة ومحبة وتقدير في بيئتها الصغيرة تلك، بل إنها في كثير من الأحيان كانت تجد الدعم المادي كلما احتاجت ذلك، وكانوا يفعلون مايفعلون باعتبارها أختهم لها عليهم واجب دعمها واستنقاذها من أي حاجة
وقع انتداب سلمى كاستاذة تعليم تقني، واجادت في عملها وبرعت فيه، ثم كان ان عملت على شراء بيت اقتنه عن طريق بنك، وكان ابنها محمد في كل ذلك ينمو و ينمو معه اطلاعه على واقعه وحال امه المجاهدة وابيه المسجون
بدأ وعي محمد يتفتح على حقيقة كونه يعيش طفولة غير عادية، فمحمد منذ وعى لم ير أباه بالبيت معهم مثل سائر الاطفال، ومحمد لم يخرج مع أبيه يوما للشارع، ومحمد لم يعانق أباه مثلما يفعل الاطفال الصغار، ومحمد لم يتلق من أبيه هدية أو لعبة مثلما تمنى أن يفعل معه، وكيف يفعل أبوه أي من ذلك وهو مسجون، ومحمد أساسا لا يفهم كلمة مسجون هذه التي تفسر له بها امه كل مرة وترد بها عن اسئلته الطويلة
وقد قالت له أمه كلاما لكنه لا يفقهه ولا يعنيه ولايجيب عن اسئلته وهو طفل، محمد يريد أن يعرف لماذ سجن أبوه، ألم يجعل السجن للمجرمين والسراق والقتلة، و أبي لم يفعل اي من ذلك، لماذا إذن يسجن أبي
لقد كان محمد يذهب صحبة أمه لزيارة أبيه بالسجون التي كانت تغير أماكنها كل حين وتوزع على مختلف جهات البلاد التونسية، وكان محمد يزيد لقائمة تساؤلاته الاولية تساؤلات اخرى، لماذا يسعون لتعذيبنا بتغيير سجن أبي كل مرة، وكانت الاسئلة تتراكم في ذهن محمد وتراكم معها مشاعر من نوع خاص نحو هذا الواقع الذي يعمل على إيلامه وإهانته وتهشيمه مع أمه و أبيه من دون كل الناس
****
ولما استوفى فخري عشر سنينن سجن تم الافراج عنه، فخرج وهو غاطس في مشاعر متضاربة تكاد تغرقه
خرج فخري مغمورا بأحاسيس الانكسار أن تم سجنه ولم ينتصر مشروعه الذي سجن من أجله، لقد كان طيلة عشر سنين بالسجن صحبة جماعته الذين وقع العبث بهم بأصناف التعذيب الغريب وغير الغريب، حينما يتذكر كل ذلك يحس بقهر يتملك كيانه ويعجزه الفكاك منه، خاصة حينما تلح عليه صور النساء الاتي وقع اغتصابهن بالمعتقلات والرجال ممن اعتدي على شرفهم، فيحس بخليط من مشاعر القهر والهزيمة حد الانكسار التي يعمل على نسيانها بالابتعاد عن كل ما يذكره بمشروعه الذي دخل من أجله السجن، فكان يكره أن يتناول معه المواضيع القديمة ولا يرتاح لأي شخص يذكره وجوده بذلك، ولذلك فإن أكثر ما يقلقه أن يلتقي بأحد معارف الفترة الطلابية ممن لم يسجن فيحدثه بشيء مما تعارفا عليه من قبل