فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10836
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مقال كتبته في جانفي 2012 بعيد صعود حركة النهضة للسلطة، وأعيد نشره لان ماقلته ساعتها ما أنفك يتأكد يوما بعد يوم من أن حركة النهضة برموزها الحالية (الغنوشي، عبد الفتاح مورو، البحيري...) لن تستطيع أن تقف ندا لعصابات الثورة المضادة، لأن قياداتها الهامة غارقة ببساطة في دوامات الإحساس بالإنكسار والصغار امام الواقع، بل إن هذا المسار المنحدر ازداد بعد تصعيد عبد الفتاح مورو لقيادة الحركة
--------------------
لا شك أن حركة النهضة قد أسرفت في مواقف الانكسار أمام الواقع والمتحكمين فيه، كما أوغلت في التملص من ضوابط الإسلام بالتمييع تارة والرفض المباشر أخرى، وهي بعد ذلك تكاد تأنف من الثورة ومتطلباتها مرة واحدة لولا بقايا قليل من حياء وخوف من الرأي العام.
ويكاد يوجد إجماع في الصف الإسلامي على أن الحركة قطعت مراحل في منحدر الانكسار والتذلل لشراذم اليسار وعموم العلمانيين وبقايا التجمع، حدا وصلت فيه مرحلة الهرولة في المنحدرات، وهي توشك أن تصل قاع السقوط عما قريب.
على أن مسار الانحراف عكس ما يتصور البعض ليس وليد زمن ما بعد الثورة، وإنما ذلك منهج دأبت عليه حركة النهضة منذ أن تملكها هوس إرضاء الواقع والتماهي مع القائمين عليه والموجهين لخطوطه الكبرى، حد اتخاذه مرجعا وهدفا للإرضاء، وانطلق ذلك مع ثمانينات القرن الماضي.
ثم تأكد منهج التفكك والذوبان الفكري إبان مرحلة المواجهة مع الطاغية السابق، حيث أطلقت الحركة مواجهة، سرعان ما فضل بعض قادتها الانسحاب منها بفعل الثقافة التي وقع تبنيها والتي تعلي من شأن الهزيمة والانكسار أمام العدو وتفضل تقبل الضربات على خوض المواجهة وتزعم أن ذلك نصرا، وكان من أثر ذلك أن جنت الحركة على تونس كلها وليس أبناء الحركة الإسلامية وحدها، إذ سلطت على رقابهم بن علي طيلة أزيد من عقدين فسامهم سوء العذاب، وشرد الآلاف وقتل العشرات وأوردهم ما هو معروف مما يقع الكشف عنه تباعا الآن.
وحينما كان الآلاف من أبناء الحركة الإسلامية يزجون في المعتقلات فيقتلون وتستباح حرماتهم ويعذبون أشد العذاب، كان البعض من القيادة منهزما بداخله كعادته لايستطيع حتى مجرد التفكير في إنقاذ أبناء حركته خشية السقوط في العنف كما يقول، والحال أنهم أساسا في دوامة العنف، لكأن العنف لا يكون حلالا إلا حينما يكون ضحاياه أبناء الحركة الإسلامية، إما حينما تستعمله للدفاع فانه يصبح مرفوضا، وهذه هي ثقافة الهزائم التي روج لها بمصر عن طريق جماعة الإخوان المسلمون التي أوردت العمل الإسلامي المهالك وجعلته مطية لكل الأطراف انطلاقا من الحكام المتتالين ووصولا لشراذم اليسار.
وفضل جل المنهزمين الهرب للخارج أين وجدوا متسعا هناك في ملاذاتهم الآمنة ليكتشفوا أن لهم مواهب لتحبير البيانات الدورية التي تندد ببن علي وتذكرنا أن ما يقوم به ينافي حقوق الإنسان، ياله من انكسار وتساقط.
على أن بعضهم الآخر قد اكتشف أن له مواهب في جمع الأموال وإقامة المشاريع التجارية عوض العمل على إنقاذ إخوته من براثن زنزانات الداخلية. ثم يأتي البعض الآن ويستغرب واقع تساقط حركة النهضة والحال أن أمثال هؤلاء لازالوا يتصدرون المشهد ويخططون له.
وقد تدعم مسار الانحراف بحركة النهضة بعد الثورة، إذ ساهمت الحركة بمواقفها المنهزمة أبدا في إعطاء قيمة لجند بن علي عوض العمل على استئصالهم، فكان أن مكنت لهم من أن يتحكموا في دواليب الدولة.
وبدا قادة الحركة غير واثقين من أنفسهم كلما تعلق الأمر بمواجهة مع طرف يمثل إحدى مكونات منظومة الواقع المتشكل بتونس بعد الاستقلال، وأعطت الحركة وقادتها الانطباع أنها تقوم بعمل غير مقتنعة به، لكأنها تريد ان تتبرأ من الإطار الإسلامي الذي طالما صاحبها تاريخيا والذي أصبح معيقا لها، ولذلك فإن خطابها عموما لم يخرج عن الخطاب الاعتذاري المنهزم، خطاب من لايثق في فاعلية المنظومة الإسلامية، بل ليس مقتنعا أصلا أن هناك ثورة وأن هناك ثوار يطالبون باستحقاقات لتلك الثورة.
ولكن الحركة ولكي لاتخسر الكثير من قواعدها حيث يغلب التفكير الصنمي وتقديس الزعامات، تعمل على ترويج خطاب لايقطع كلية مع المنظومة الإسلامية، ويعمل على الالتفاف على مطالب الثورة.
ولما آل الأمر بحركة النهضة أن تبوأت مقاليد الحكم، وصلت التناقضات التي كانت تخفيها لحد طاول إمكانيات الإخفاء، فهذه الحركة أصبحت مضطرة أن تبين حقيقة خطابها، أهو خطاب يؤمن بعلوية الإسلام وأحقيته في تاطير شؤون الكون بمختلف مستوياتها بدا من الشخصية ثم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، أم هو خطاب لايقتنع بكل ذلك.
وقد يحاول البعض نفي أحقية مثل هذه التساؤلات قائلا أن الحركة تتفاعل بندية مع أهل الباطل بالقدر المستطاع، ولكن هؤلاء سيكون من الصعب عليهم أن ينفوا الوقائع الحالية التي تؤكد الرأي الذي يقول بان الحركة وبعض قادتها الذين أوردوها طريق الانحراف الفكري بزعم انه اجتهاد لاسابق له، يستشعرون نقصا وصغارا فضيعا أمام مجمل مكونات الواقع وخصوصا جماعات اليسار المتحكمين في أدوات التوجيه الفكري والثقافي والإعلامي و التربوي، وان الحركة مهمومة بإرضاء هؤلاء أكثر مما هي مهمومة بإرضاء باقي التونسيين، كما أن الحركة معنية كما يبدو بتطبيق حقوق الإنسان بمفهومها الغربي أكثر مما هي معنية بتطبيق الإسلام.
على أن الذي يجب التذكير به في وجه هؤلاء هو أن المنهزم عموما أمام طرف آخر لن يترك وحال سبيله، فالمنسحب لا ينفك يتزحزح إلى الوراء إلى أن يصل القاع، إلا أن يتداركه العقلاء من صفه فيقذفونه ويطردونه من مكانه..
وجماعة النهضة في مواقفهم المنسحبة أبدا أمام الأطراف المتحكمة بالواقع بلغت حدودا يندر وجودها لدى المنكسر، ويصعب حقيقة تفسرها موضوعيا، فهؤلاء حتى وهم يمتلكون السلطة لايتجرؤون على استعمالها لضبط الأمور، فهؤلاء جبنوا على استعمال سلطاتهم لتغيير الإعلام، وهؤلاء على الأرجح شلهم الرعب على أن يتجرؤوا على محاسبة رموز الإفساد الثقافي والإعلامي والتربوي، بل لم يسعوا مجرد السعي للتخلص منهم، وهؤلاء مرعوبون بحيث لم يستطيعوا أن يوقفوا تجاوزات شراذم اليسار الذين يعيثون في البلاد فسادا.
وقد كان من أثر هذه المواقف الرخوية الغريبة لحركة النهضة، أن أصبح وجودها بالسلطة تهديدا لمسار الثورة أساسا ومؤشرا لارتكاسها للوراء، حيث أن مسار الثورة يقتضي أن يتواجد على رأسها أناس ثوار يمتلكون حدودا دنيا من الجرأة والثقة بالنفس وهي صفات لاتتوفر في مجمل قيادات الحركة أو على الأقل أولئك الذين يتبوءون المسؤولية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: