فوزي مسعود
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 13227
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تناقلت بعض مواقع الانترنت العربية ما وقع من "تجاوزات" ببعض المهرجانات التونسية، وذكرت بردود فعل صحف تونسية استهجنت تحول المهرجانات إلى أماكن للتباري في التعري بين الحاضرين، كما إن هذه الفضاءات، - كما تقول هذه الصحف - مافتئت تشهد تنامي تحولها إلى أماكن لتعاطي السكر.
ولم تنتقد مقالات الصحفيين المستهجنة لهذه السلوكيات الملحوظة، أصل ظاهرة المهرجانات من حيث أن وجودها هو المشكلة، وإنما تفترض مثل هذه المقالات ان المشكلة متأتية من سلوكيات بعض المتهورين فقط.
وتعمل مقالات التونسيين ممن يتجرا على تناول ظواهر الانحدار التي تنتجها المهرجانات الصيفية على الزعم بأن "الطرب الاصيل" حل محله الفن الهابط، في إيحاء ضمني بان إقامة حفلات الغناء هو من أصولنا، وهو الأسلوب الإعلامي الذي أنتجته الآلة الدعائية بتونس حيث تعمل على تأصيل الانحرافات والزعم بان لها جذورا في أصولنا، كمسعى منها لتمرير ذلك وكسر بوادر الرفض النفسي لدى الناس.
وسنبين في هذا المقال أن مواضيع الاستهجان التي تتناولها بعض الصحف التونسية لا تعدو ان تكون مظاهر سطحية لمشكلة أكبر، وان تلك المظاهر (حالات التسيب والتعري التي تصاحب المهرجانات) هي ببعض المعاني مقاصد مطلوبة لذاتها من طرف واضعي فكرة المهرجانات نفسها من حيث أنها ذات ادوار وظيفية تهدف لفرض نمط مجتمعي وإلزام التونسيين به قهرا، ومن ثم فان البحث عن حلول لما يشاهد من مظاهر سلبية تصاحب المهرجانات بتونس، يجب أن ينتقل لمستوى أنجع وأشمل وهو البحث في جدوى وجود المهرجانات نفسها، والمطالبة بإلغائها، لان تواصل وجودها هو تواصل تواجد للخلفية التي تعتبر التونسيين مواضيع استهداف لغرض قهرهم بمشاريع تغريبية.
1- المهرجانات بتونس كأداة للمشروع التغريبي:
كما هو معروف انبنت الدولة التونسية الحديثة على خلفية علمانية تتخذ من الغرب الكافر نموذجا وترى في الإسلام عائقا يجب التخلص منه ومن موروثاته، ولما كان من شروط زرع هذا المشروع، القيام بتمهيد الطريق من خلال إيجاد سبل لمواجهة ماهو قائم من بنى ذهنية ونفسية قائمة لدى التونسيين، ترتكز في أصولها على المرجعية الإسلامية وان شابها البهوت بفعل توالي حقبات الانحطاط، فان القائمين على المشروع التغريبي منذ الاستقلال عملوا على إيجاد وسائل تعمل عمل الهادم لما هو مكتسب لدى التونسيين، والقيام بالتوازي مع ذلك أو تبعا له (حسب الظروف وحسب طبيعة كل عملية) بزرع القيم الغربية الجديدة.
ولما كان المشروع التغريبي التونسي يتميز بخواص منها شدة عزم القائمين عليه على ضرب القيم الإسلامية في صميمها وليس الاكتفاء بإزالة الفروع فقط، وهو الشيء الذي قد يفسر جزئيا باعتبارات ذاتية نتيجة تجارب شخصية لرموز التغريب التونسيين، فان مشاريعهم لإحلال القيم الغربية محل القيم المحلية (لا يمكن وصفها كلها بالقيم الإسلامية، ولكنها تستمد وجودها منه)، اتسمت بالمنهجية واستهداف النتائج على المدى البعيد.
واتخذت عمليات الإحلال التي اخضع لها التونسيين وقام بها رؤس التغريبيين الأوائل، وهم النخبة الحاكمة عموما ومن والاهم، مستويات عدة، منها تلك المباشرة المستعجلة وهي التي تناولت الجوانب العملية التي لا تحتمل انتظارا كعمليات إلغاء التعليم الزيتوني وإلغاء المحاكم الشرعية وإلغاء نظام الوقف الإسلامي وسن قوانين أحوال شخصية مناقضة في بعض تفاصيلها للإسلام، ومنها مستويات مؤجلة تخص الخلفيات الفكرية لما ستكون عليه المحتويات التثقيفية التي سيخضع لها التونسيين، وهي أعمال استهدفت الأجيال القادمة.
وتتميز عمليات الإحلال الفكري (توصف إعلاميا أحيانا بعمليات غسيل المخ وهو لفظ مجازي) ، بخواص تستمدها من طبيعة أهدافها، وهي العمل على إحلال مفاهيم مكان أخرى، ويمكن إيجاز خواص عمليات الإحلال الفكري من حيث إنها وسيلة لقلع مفاهيم وزرع أخرى مكانها، بالتالي:
- العمل على استهداف مدى زمني غير الحاضر، بحيث انه بعد عدد معين من الأجيال،ـ يقع القضاء نهائيا على البنية الذهنية المستهدفة الموجودة آنذاك، بمعنى انه يمكن نظريا القضاء على العقلية التي تنبني على الخلفية الإسلامية، ويكون بدلها عقلية غربية مغايرة بعد عدد معين من الأجيال.
- عمليا لا يمكن تحقيق هذا الهدف النظري، لان عوامل الإعاقة لتحقيق الأهداف المرجوة، تعمل كعناصر سالبة للمسعى التغريبي، وهو ما يعني انه لن يقع الوصول للنتائج المرجوة للإحلال كما ينبغي، من ذلك انه رغم اتساع عمليات الإحلال الفكري / غسيل المخ بعد نصف قرن بتونس، مازلنا نجد من ينادي بالإسلام، ومازال يوجد من يرى الحق حقا، و الباطل باطلا بالمفاهيم الإسلامية الصحيحة.
- ولضمان سير المشروع التغريبي، عملت أدوات التثقيف بتونس / غسيل المخ على تكثيف عمليات الهدم والإحلال، الهدم للقيم الإسلامية والزرع للقيم الغربية، كما كانت بالتوازي تمنع كل مصدر تثقيف آخر يعيق مجهوداتها، وهذا ما يفسر جزئيا عمليات المنع الذي تلقاه الكثير من الكتب الإسلامية بتونس رغم تناولها مسائل فكرية بحتة، لأنها مصادر فكرية بديلة تعمل على إعاقة مسار الإحلال الذي تمضي فيه أدوات التثقيف وغسيل المخ بتونس، وتكشف خطورة عمليات الإلحاق الثقافي التي تنفذ بتونس منذ أكثر من نصف قرن.
- ولما كانت عمليات الهدم والإحلال تتناول مستوى الأفكار والمفاهيم، فان أدوات التثقيف / غسيل المخ التي تستهدف التونسيين تركز على الوسائل التي تعمل بطبيعتها كمنتج للمفاهيم من دون غيرها من العوامل.
- و وسائل إنتاج المفاهيم تكون في مستويين: إما إنها وسائل ضرورية يمر بها الفرد اضطرار، وهي دور حضانة الأطفال، والمدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد الثانوية والجامعات، وإما إنها وسائل اختيارية وهي وسائل الإعلام ووسائل الترفيه.
- ولما كان مرور الفرد التونسي بوسائل التثقيف من المستوى الأول الاضطراري لا مناص منه، فان القائمين على المشروع التغريبي بتونس، عملوا على استغلال هذه الفرصة من خلال صياغة برامج التعليم بمختلف فروعها لفرض رؤيتهم الفكرية وإخضاع التونسيين قهرا لها، وتعد برامج الإلحاق الفكري التي اشرف عليها الهالك محمد الشرفي والتي وقع تسويقها إعلاميا على أنها برامج إصلاح تعليم، النموذج الأبرز للنجاحات التي حققها العلمانيون بتونس في نطاق سعيهم لإعادة تشكيل المجتمع التونسي وقلعه من جذوره والحاقة بالغرب.
- وبما أن المستوى الثاني من أدوات تكوين الأفكار، هو مستوى اختياري لا يمكن إلزام الناس بالمرور به، فان القائمين على المشروع التغريبي بتونس تفطنوا منذ بدايات الاستقلال لهذه النقطة، وأوجدوا حلولا تجعل مرور التونسي من خلال أدوات تكوين الأفكار يكاد يكون إجباريا رغم انه ليس كذلك في ظاهره.
- اذ الحل يكمن في محاصرة التونسي وإغراقه بأدوات التثقيف / غسيل المخ بشكل لا يمكنه إلا أن يمر بها، ويتيسر ذلك بالعديد من الطرق، منها تنويع الوسائل والأساليب بشكل تكاد تمس كل الأذواق والمنافذ (المعلقات الاشهارية بالشوارع ذات المحتوى المتعري، تكثيف الإذاعات الجهوية، تكثيف البرامج التافهة بمختلف المحطات الإذاعية، تسويق عمليات الانحراف والتسيب الأخلاقي من خلال تشجيع الحفلات المشبوهة: حفلات الغناء، حملات ما يطلق عليه التحسيس ضد السيدا، مسابقات "الجمال"...)، ثم توزيعها زمنيا وجغرافيا، زمنيا على مدار السنة وجغرافيا لكي تشمل مختلف المناطق.
- وعليه فقد تم التأسيس للمهرجانات بتونس منذ ستينات القرن الماضي، حينما كان الفقر يضرب بتونس وهو ما يعني أن الترفيه لم يكن مطلوبا لدى التونسي ساعتها حتى يحاجج بوجود المهرجانات لغرض الترفيه، وإنما أوجدت المهرجانات لاعتبارات وظيفية كما ذكرنا اقتضتها طبيعة المشروع الاحلالي الثقافي بتونس.
لن نطيل في تفسير كيف ان ما يطلق عليه بتونس مهرجانات هي مناسبات للقيام بعمليات الهدم والبناء: هدم القيم المتعارف عليها وهي في جلها قيم إسلامية، وبناء أخرى بدلها، ولكن سنكتفي بتناول الموضوع من بعض أوجهه:
2- 1- المهرجانات كعامل هدم:
- الهدم هو كل مسعى لإزالة موجود، بقطع النظر عن النتيجة من ذلك المسعى إن كانت تحققت ساعتها أم لا، لان تحقق الهدف هو من نتيجة عمل آخر غير عملية الهدم، وهو تواصل العملية في الزمن بمعنى أن المهرجانات تعمل من خلال تواصلها على انجاز عمليات هدم تدريجي، وهي لأغراض النجاعة، لا تدمر في كل مرة إلا الجزء اليسير لكي لا يقع استفزاز دفاعات الناس وتفطنهم لخطورة ما يخضعون له من استدراجات.
- تقوم المهرجانات التونسية بهدم القيم المستمدة من الإسلام أو من الأعراف السليمة، كقيم الغيرة، حيث يحضر في هذه الفضاءات الرجل مع بناته وزوجته والحال أن تلك الأماكن ليست أماكن محترمة ولم تهيئ أصلا لأن يقع فيها الاحترام حتى يسمح بان تحضر فيه النساء، ثم يحضره رجال من غير المحارم وهو ما يجعل من يحضر هذه المناسبات يغض الطرف عن كون انه فاقد للغيرة، وللخروج من هذا التناقض فانه يعمد لتناسي مفهوم الغيرة ودلالاته او قد يسعى لتحوير المفهوم جملة واحدة لإفراغه من مدلولاته الحقيقية التي تجعله في ضيق نسبة لحالته هو ساعتها، كما تهدم قيم الشرف حيث يقع الإعلاء من شان نساء ورجال سقطة و ساقطات وهم عامة من يؤدي ادوار الغناء والتنشيط بهذه المهرجانات، من خلال تصويرهم على أنهم الطرف المتميز بالمنصة، وهو موقف يفترض فيه القدوة والعلو، وبالتالي فان الإعلاء من شان السقطة الذين ينعتون بصفات الرفعة كالنجوم والأبطال، هو عمل للتغطية على كونهم ناقصين أو فاقدين لمعاني هذا اللفظ، وهو مسعى بالتالي يصب في ضمور مفهوم الشرف وهو ما يعمل على هدمه نهائيا بفعل الزمن، أو بإبدال مدلولاته، حتى انك تجد السفهاء ممن يحترف الغناء مثلا يقول في معرض أحاديثه بما معناه انه أيضا له شرف، وهذا هو معنى تمييع المفاهيم.
- كما تهدم قبل هذا، المفاهيم الشرعية الإسلامية في أذهان الناس، حيث إن مثل هذه المهرجانات هي عبارة على بؤر لا يتصور أن المسلم الذي لا زال له شيء من دين ووعي يمكن أن يحضرها، ولما كان الواقع يثبت حضور أناس لمثل هذه الفضاءات رغم ما تعج به من موبقات، ولما كانت الأطراف القائمة على عمليات غسيل المخ والتي تقف وراء إدامة هذه المهرجانات، لها مصلحة في تواصل حضور الناس لهذه المناسبات، فإنها هي التي ستتولى حل التناقض الممكن قيامه في أذهان البعض ممن أوتي نصيبا من الوعي خوله طرح التساؤل، وتعمل هذه الجهات على صياغة مخارج من خلال التفسير الوظيفي للإسلام عن طريق أطراف يتمثل دورهم في التذكير بتسامح الإسلام ووسطيته كما يزعمون في إيحاء إلى انه يجوز حضور حفلات الفجور وأشباهها، وهو ماينتهي بالغاء المفاهيم الإسلامية وهدمها لدى الناس، كمفاهيم النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.
2-2 المهرجانات كعامل إحلال ذهني:
عمليات الإحلال الذهني، هي كل مجهود يعمل على استبدال تصورات ذهنية قائمة بأخرى تخالفها، وعمليات الإحلال هي نوع من أنواع عمليات الهدم تخالفه في الكيفية وتقاربه في النتائج.
2-2-1 عمليات الإحلال الذهني بتونس:
تتميز عمليات الإحلال الذهني بتونس من خلال المهرجانات بالتالي:
- تمثل عمليات إعادة الصياغة الذهنية التي تقوم بها المهرجانات للناس، نوعا من أشكال القهر الذهني من العديد من الأوجه: منها أن الناس لم يقع استشارتهم حين إيجاد مثل هذه المنظومات الثقافية، ومنها انه وقع إخفاء المقاصد الخطيرة من وراء وجود هذه المهرجانات أو على الأقل النتائج الخطيرة التي تؤدي إليها، ومنها أن الناس يقع دفعهم من خلال أدوات التسويق والدعاية، للانخراط في استهلاك هذا المنتوج من دون رغبة سابقة منهم.
- يمكن تقسيم أدوات الإحلال لمستويين من حيث غرضها، فمنها أدوات إحلال مطلوبة لذاتها، ومنها أدوات إحلال ذهني تعمل كإطار لغيرها من الوسائل الأكثر تفصيلا. ووسائل الإحلال المطلوبة لذاتها، تكون عادة مقاصد نهائية للقائمين على عمليات التدمير الذهني للناس، كأن يقع ترويج سلوكيات الفسق من لباس متعري أو شرب للخمور، لان هذه السلوكيات مما يهدم البنى الذهنية التي انبنت على الاسلام والتي يمثل تواصل وجودها عائقا لتمرير المشاريع التغريبية بتونس. وأما أدوات الإحلال التي تمثل أطر لغيرها، فهي تكون عادة أدوات مفضية للسلوكيات النهائية، كأن يقع ترويج أمثلة السوء كقدوات للشباب من خلال الإعلاء من شان الممثلين والمغنين، أو كأن يقع الترويج لأنماط من السلوك الاجتماعي لا يمكن الا ان تكون مقترنة او مؤدية للسلوكيات المقصودة النهائية، من ذلك فان وجود فكرة المهرجانات نفسها يستتبعها بالضرورة فكرة السهر ليلا خارج المنازل، مما يعني وجود احتمالات كبيرة للسلوكيات المنحرفة مقترنة مع احتمالات أقل لضبط تلك السلوكيات، وهذان العاملان يمثلان مولدا للسلوكيات المنحرفة.
2-2-2 عينات من عمليات الإحلال الذهني:
- عمليات إحلال المفاهيم الجديدة، يمكن أن تتخذ مستويات عديدة منها، أن الإحلال يمكن أن يكون متأتيا أليا كاستتباع لعملة هدم سابقة، كما انه يمكن أن يكون عملية إحلال مستقلة أي بناء من لا شيء.
- فعمليات إحلال الديوثة مثلا، هي استتباع لعملية هدم مفاهيم الشرف وقتل الغيرة، ولذلك فانك تجد أكثر من يحضر مثل هذه المناسبات من "الرجال" يتميزون بصفات الديوثة ظاهريا على الأقل، كونهم يقرون بالفساد في أهليهم (وهو تعريف الديوثة)، وإلا ماذا يمكن أن يسمى احدهم يسمح لابنته أو زوجته أن ترتدي متعرية ويتفرج عليها الناس او ترقص او حتى تشارك الرجال الحضور المهرجانات(ويمكن أن نتوسع في أمثلة الديوثة كسماح بعضهم لأهله باللباس المتعري بشواطئ البحر، ولكن هذا موضوع آخر)، كما إن حضور هذه المناسبات يقود آليا لمفهوم الديوثة، لأنه لا يتصور ممن لا يقر الفساد في أهله أن يسمح بإحضارهن لتلك الأماكن.
- على أن هناك مستوى خطير آخر لعمليات الإحلال وهي ليست مرتبطة مباشرة بعملية هدم تسبقها، وان كانت لا يمكن إلا أن تتأتي من وجودها ولكن ليس بطريقة مباشرة، كإحلال مفاهيم "الطرب الأصيل" أو "الفنان الأصيل" أو "المطرب القدوة".
- تفترض هذه المصطلحات أشياء، وتدفع الناس ضمنا للبحث عمن يملئ هذا الفراغ الناشئ من خلال وجود المفهوم، وعملية الافتراض والدفع للبحث، لا تترك مجالا للناس لان يعيدوا النظر في المفاهيم المطروحة أصلا، وهذه أساليب دعائية قمة في الخبث لتسويق المفاهيم من دون ترك المجال للمناقشة والبحث في إثباتها أولا عوض التسليم بصحتها والانتقال لمستوى نقاش تفاصيلها.
- يفترض مصطلح "الطرب الأصيل" كما يقول به بعض الصحفيين التونسيين الذين ظهروا كمن ينتقد المهرجانات، ان المشكلة ليست في وجود المهرجانات نفسها، وهذا إقرار بوجود المنظومة الفكرية التي تقود عمليات التوجيه وغسيل المخ منذ نصف قرن بتونس، كما انه يفترض أن هناك "طربا أصيلا"، لكأن احد الصحابة أو التابعين-حاشاهم- كان يقوم بالغناء، كما يفترض أن المشكلة توجد في مستوى كيفية الطرب وليس في وجود حفلات الطرب، وهو ما يعني ان النقاشات الدائرة لا يمكن ان تقود لحل، لانها لا تعالج أصل المشكلة وهو وجود المهرجانات ذاتها، من حيث ان وجودها هو الذي أنتج المشاكل المبحوثة وهو بالتالي الموضوع الذي يجب أن يراجع.
- ولما كان الغناء والطرب كممارسة عرفا تاريخيا كملازم لسلوكيات الانحطاط (لا يعرف أن القدوات التاريخية كانت من المدمنة على مجالس اللهو) وعصور الانحطاط (باستثناء بداية الدولة العباسية التي حصنت كونها فتية ولازالت في بداياتها، فان اللهو تاريخيا لم يكن سمة إلا لعصور الانحطاط)، فان القول بمصطلح "الطرب الأصيل" ، هو محولة لتأصيل الانحرافات تاريخيا واتخاذ المراحل التاريخية المنحطة كمنارات والقيام بتغيير الفترات التاريخية المرجعية، وهي مهمة تكمل مهمة التأصيل الشرعي للانحرافات التي تتم دوريا بتونس، من خلال الفتاوي والمداخلات التي تقول بوسطية الإسلام وتسامحه والتي يوحي القائمون بها ضمنيا بضرورة ترك واجبات النهي عن المنكر، ومن أمثلة التأصيل للانحرافات بتونس يمكن ذكر قول الزنادقة ممن يتواجد ببعض المؤسسات الجامعية التونسية بعدم وجود أدلة شرعية للبس الحجاب، أو القول بإعادة قراءة الإسلام كتجربة تاريخية.
- على أننا يمكن أن نجد أحيانا مقاصد أخرى من خلال مصطلح " الطرب الأصيل " حينما يتناول نسبة للسفهاء من المغنين، إذ هم يقصدون به أحيانا أولئك الذين احترفوا الغناء إبان فترة الاستعمار الفرنسي. ولإن كان مفهوم الأصالة هذا هو المقصود فان الأمر لا يلبث إلا أن يقود لكارثة أكبر، فكون أن احدهم احترف الغناء فترة الاستعمار دليل على تنصله من معاناة شعبه الذي كان يرزح تحت الاستعمار المباشر حينئذ، وكون الناس كانت بين مقهور تحت حكم المستعمر الفرنسي وبين مجاهد مأواه الجبال أبت نفسه الرضوخ لسطوة الفرنسيين، وفي المقابل كان هذا "المطرب الأصيل" يغني في الحانات وفي حفلات المجون والفسق، فذلك دليل إدانة لهذا السفيه وليس دليل تميز وفخر حتى يشاد به، ويرفع من شانه بأن يتخذ مثلا في معرض المباهاة وتسخر له وسائل الإعلام. ولعل من العلامات البارزة في مسلك عمليات الإحلال الفكري بتونس وهو ما يؤشر على شدة حقدها على أصحاب القيم عموما، هو عملها على إحياء رموز الانحطاط من مغنين وسكيرين وتصويرهم على أنهم قدوات وتعظيم شانهم وبث تراثهم (مثلا، يقع بتونس الإعلاء من شان علي الدوعاجي الذي لا يعدو أن يكون سكيرا طفيليا متسكعا بين الحانات كما نفهم من كتاباته، وصورته وسائل الدعاية بتونس على انه أديب ممن تفخر بهم تونس، في حين انه كتب كتابا يتباهى فيه بجولته بين الحانات وبين المواخير، ومثل هذا الأمر كان حريا أن يجعله لا يذكر إلا في موضع الذم والتنكير لا الرفع من شأنه)، وفي المقابل وقع العمل على تغييب القدوات الفعلية الذين ضحوا من اجل تونس بدمائهم ورفعوا من شانها (لا تكاد تجد في كتب التعليم التونسية الموجهة للأطفال ذكر تفاصيل لعمليات بطولية للمقاومة التونسية ضد المحتل الفرنسي رغم كثرتها، حتى نشأت لدينا أجيال وهو يتصورون أن فرنسا خرجت من تونس من دون إطلاق رصاصة واحدة من طرف التونسيين).
- كما تقوم هذه المهرجانات بمعالجة المفاهيم من خلال إعادة الصياغة لبعضها، كمفهوم القدوة، حيث يتم تمرير كون أن السقطة من الناس وهم عامة الذين يؤثثون المهرجانات، هم قدوات، وبالتالي يقع العمل ضمنيا على إحلال القيم الوضيعة التي يتسم بها هؤلاء مكان قيم الرفعة الفعلية المعروفة في القدوات أصحاب المبادئ.
3- المهرجانات كعامل تفريغ:
تلعب المهرجانات أدورا أخرى تفيد في نهاياتها القائمين على مشروع التدجين بتونس، وهي لا تتناول جوانب الإحلال الفكري موضوعنا، وبالتالي لن نتناولها بالتفصيل ولكن يمكن الإشارة إلي بعضها، كمثل أن المهرجانات تؤدي دور عامل التفريغ لطاقات الناس، وهو ما يسهل من عملية توجيههم وإخضاعهم، وضرورة الإفراغ متأتية من كون المنافذ المتيسرة في بيئة موجهة من خلال مشروع تغريبي كالحال بتونس، لا تتيح تفريغا طبيعيا للطاقات، ولذلك يعمل على اصطناع منافذ للتفريغ كالمهرجانات والرياضات الجماعية وغيرها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: