د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5880
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
سأحاول التّعرض في هذا المقال من زاوية علم الاجتماع السياسي لإشكالية انحباس الفكري السياسي العربي الرّاهن في قيادة مرحلة ما بعد الثورة، وهي لا تزال في بداياتها التي يصفها الجميع بالانتقالية.
حسب ما يقتضيه المنهج العلمي أصبح من الضروري أن أنطلق من فرضيات قابلة للنّفي و/أو الإثبات على حدّ سواء. وسأقتصر على فرضيتين من جملة فرضيات عديدة في جملتها قادرة على اتمام البحث. تصنّف الفرضيتان الأولى والثانية من البداهيات المعلومة لدى الجميع، أما الأولى فتقول: أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، وتقول الثانية: أنّ الطبع يغلب التّطبع.
لهذا الغرض سأسقط بعض المفاهيم العلمية المستعارة من علم البيئة، مثل الانحباس الحراري وثقب الأوزون، على الأزمة السياسية الرّاهنة التي تعيشها مصر وتونس في تشابه مذهل بين مجريات الأحداث في البلدين، من فعل (قرار سياسي) وردّة فعل (رفض جماهيري) ونتائج (سقوط ضحايا).
لقد بات من الواضح استفحال ظاهرة انحباس الفكر السياسي لدى الشريحتين الحاكمتين في كل من مصر وتونس بما يفوق ظاهرة الانحباس الحراري. فكأني بثقب الأوزون الذي حصل بالغلاف الجوي، قد أصاب في نفس الوقت أغشية المخ السياسي (سحايا méninges Les ) لقيادتي الإخوان في مصر والنّهضة في تونس بعد الثورة. فجفّت منابع الموضوعية لدى كليهما وفاضت ذاتيتهما أنهارا، فتحصّنا بأهل الولاء وخلاّن الانتماء الذين لم يتذّكروا من تعريفات السياسة إلا كونها فن المراوغة وأداة لشَرْعَنَتِ العنف.
فاقد الشيء لا يعطيــــــه
بمجرد استلامهما الحكم رمت القيادتان بالديمقراطية عرض الحائط، واستحضرا بطريقة غير ممنهجة مبدأ الشورى في إعداد القرارات والقوانين والإعلانات الدستورية، لتحصين مواقفهم بما يشبه العصمة التي لا تكون إلا للأنبياء والرسل. عند هذا المستوى، تجلّت (بما لا يقبل الشّك) الخلفية الإيديولوجية لهؤلاء الحكّام الذين لم يؤمنوا أبدا بالديمقراطية، باعتبارها آلية تُشرك الجميع في تسيير الشأن العام والتّداول على السلطة وتقرير المصير. كما اتضّح أيضا كفرهم بالمشاركة السياسية وتوخيهم أسلوب المغالبة في الحكم وإلغاء الرأي الآخر وإقصاء شركاء الوطن والاستخفاف بالثوّار والاستهانة بدّم الشهداء.
ركب القوم رؤوسهم بعد أن ركبوا على الكرسي وتخيّلوا أنهم سيركبون على الشعوب. لقد استعصى بل استحال على حكّام مصر ونظرائهم في تونس التفاعل مع الديمقراطية من خلال منافسة سياسية شريفة، تكون البرامج الاقتصادية المختلفة والرؤى التنموية عمودها الفقري، للتّخفيف من بؤس المجتمعات وشفائها من داء الإحباط المزمن والتّقدّم بالمجتمع وإخراجه من تخلفه المقيت. لن يتسنى هذا العمل التّنافسي بين الأحزاب المتطلعة للسلطة إلا من خلال الاحتكام لصناديق الاقتراع لتقول الشعوب كلمتها وتختار من بينها ما تعتقد أنّه الأفضل.
إنّه ضرب من الخيال العلمي عند من أفنوا أعمارهم في السّمع والطّاعة لأوامر من ألزموا أنفسهم ببيعته مدى الحياة. من السهل على الباحث أن يلمس تلك البيعة الملزمة مجسدة في سلوكيات من هم اليوم في واجهة الحكم لمن هم خلف ستائر السلطة. لقد ذهب في خلد هؤلاء أنّ كل طوائف الشعب المصري والتونسي، ملزمة بما بايعوا هم عليه مرشدهم و/أو شيخهم، فظنوا (وبعض الظّن إثم) أنّ إرادتهم فوق إرادة الله التي شاءت أن يكون الناس مختلفين معهم وفيما بينهم في كل الأمور. ألم يقل سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين" (يونس 99)؛ وقال " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين" (هود 118/119).
لقد خرج حكّام مصر وتونس ما بعد الثورة عن المسار الثوري وكفروا بشعوبهم والحرية والديمقراطية، فحصروا السلطة في ثالوث المرشد/الشيخ والرئيس/الحاكم والجماعة/الحركة، فوقعوا فيما وقع فيه " الذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٍ وَاحِدٍ وَإنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"(المائدة 73). ولأَنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، ما كان بإمكان الفئتان الحاكمتان إلا (محاولة) فرض منهج الامتثال في خلطة/لخبطة هجينة بين الديمقراطية والشورى، تسعى إلى إلغاء العمل السياسي وتحويله في أفضل الأحوال إلى "مصارعة ثيران" أسقطت من حساباتها الوضع الاقتصادي المتدّني للبلدين، لتفسح المجال أمام ارتفع منسوب الإحباط الجماهيري العام الذي فجّر غضبة شعبية عارمة واحتجاجات جماهيرية هادرة في مصر (اعتصام التحرير وقصر الاتحادية) وفي تونس (أحداث تطاوين وسليانة) قُوبِلَتْ في البلدين بعنف مغلّظ من ناحية ومن ناحية أخرى، فقسّمت المجتمع إلى فسطاطين، متنافرين، فسطاط من آمنوا بالفاشية وفسطاط من كفروا بالدكتاتورية، فانشغل كلاهما عن اتقاء الله في عباده.
الطبع يغلب التّطبــــع
اشتهر المسلمون بحسن الظّن بالنّاس وهو موروث ثقافي تعسّفت التنشئة الاجتماعية في نقله من جيل إلى آخر وجعلت منه مكّونا أساسيا في شخصية أبناء هذه الأمة بمسلميها ومسيحييها ويهودها. في المقابل نهلنا من تعاليم ديننا الحنيف أنّ إساءة الظّن بالآخر إثم وأنّ التعامل بين البشر يقوم على الظاهر القطعي وليس على المشتبه الظنّي، لأنّ النوايا من علم الله سبحانه وتعالى وهو الوحيد الذي يحاسب عليها.
يوجد في كل الأزمنة أناس يتقنون استغلال هذه الخصلة (حسن الظّن) التي هي من شيم الكرام ويتعاملون معها كحالة من الغفلة المرضية وقصر النّظر الذي قال فيه المثل الشعبي التّونسي " لولا عماهم ما عشنا معاهم"؛ اتخذت منه فئة منحرفة قاعدة التّعايش اللامتوازن، تؤمن لها السيطرة والهيمنة على من يعتبرونهم سذّج بالفطرة ومتخلفين عقليين.
تؤمن العامة بأنّ ما بالطبع لا يتغيّر مهما تستّر (الطبع) خيّرا كان أو شريرا وتخفّى بعكسه من التّطبع وهو ما يؤكده علم الاجتماع النّفسي في مثل حالة الذين يبنون سلوكياتهم الظاهرة على خلفية لا مرئية من الغّش والكذب والمغالطة، فيبدون ما لا يعلنون ويقولون عكس ما يفعلون. تلك في الإسلام كبيرة من الكبائر التي يمقتها الله " يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف 2/3) والخطاب في هاتين الآيتين الكريمتين موجّه للمؤمنين أساسا، لأنّهم حملة رسالة نبيلة ودعاة للفضيلة وقدوة مؤثرة بسلوكياتها القويمة ترغّب غير المؤمنين في الدخول في دين الله، الإسلام الذي لا يقبل دين سواه " وَمَنْ يَبْتًغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهْوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ" (آل عمران 85).
بعد أن توضّح السلوك المفترض والسلوك الفعلي للمسلمين عموما، أين يجب أن يكون سلوك حكّامنا من أقوال وأفعال في المفترض أم في الفعلي؟ تبرز الإجابة عن هذا التساؤل في ما بين يدي الباحث من حقائق وممارسات سياسية على أرض الواقع. تتأكد من خلالها إصابة الحكّام العرب بعد الثورة بالفصام schizophrénie تترجم عنه مجموعة قرارات مخالفة لأقوال؛ ونقض لعهوده وحنث بالأيمان parjure ونكوص على الأعقاب... الخ
فمنذ الأيام الأولى لحكم الإسلاميين في تونس ومصر تكشّف للقاصي والدّاني، طّبع الاستكبار في الأرض الذي طفى على السطح كحقيقة لا غبار عليها. لقد غلب الطبع مرّة أخرى على التّطبع وظهر الاستعلاء واختفى التّظاهر بالتّواضع؛ وكل ذلك من قبيل المكر السّيئ الذي جُبِلَ عليه المتأسلمون، المتحكّمون، المُتَّشِحُونَ بعباءة إسلام فلكلوري جعلوا منه جوهر الدين والإسلام منها براء، " وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا" (فاطر 42/43/44). ليس من تولى الحكم اليوم مضطرا للرجوع بذاكرته إلى التاريخ القديم ولا الوسيط بل تكفيه مشاهدة أحداث الأمس القريب " فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور" (الحج 46).ِ
لعل الأصل في الإصابة بهذا السلوك المرضي ما دأب عليه هؤلاء من النّفاق وهو سلوك مذموم تنكره الشرائع والأديان والأخلاق بشدّة. يوقع النّفاق بصاحبه في الدّرك الأسفل من النّار " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا "(النساء 145)، لأنهم يخادعون الله وما هم بخادعيه "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ" (النساء 142). يتمثل النّفاق السياسي الذي ينتهجه المتّشبثون بسريّة العمل السياسي والعيش في ظلومات دهاليز السياسة دون أن ينتبهوا إلى انتقالهم إلى عالم الأضواء ودخولهم في علاقات دولية، يفوق دهاء أهلها ونفاقهم كل تصوّر. لقد اتخذت قيادات الإسلام السياسي في مصر وتونس وهم أهل الحلّ والعقد داخل مجتمعاتهم المغلقة (جماعات وحركات وأحزاب) أساليب المراوغة والتّضليل والخداع الفاضح، بوجوه تعلوها ابتسامة بلاستيكية، تسبق الكذب في انتظار الوقوف على الفعل وانكشاف حقيقته.
لقد درّبوا أتباعهم على ذات الأسلوب (الابتسام في الوجه والطعن في الظهر) في الحالات العادية، أما في حالات التوتر فإنّ ساداتهم يكشّرون عن أنياب التهديد والوعيد، يكفرون هذا ويزندقون ذاك في مطاردة إيديولوجية دون هوادة، في ذات الحين يستل الأتباع أسلحة القرون الوسطى، اقتداء بالفاتحين الأوائل وتبركا بإنجازات تلك الآلات في الفتك بالكفّار وقطع دابرهم وإعلاء كلمة الحق. فهل من لا يوافقكم الرأي وخالفكم الرؤية من أهلكم وذويكم، ملحد وكافر وزنديق مارق يستحق قطع عنقه؟...
لولا ضيق مجال هذه الورقات لتوسعنا في ضرب الأمثلة التي تؤكد صحة الفرضيتين اللتين وضعناهما في البداية. إلى كل الذين على قلوبهم غشاوة أقول إن الغشاوة لا تزول إلا بالعقل والعقل لا يستنير إلا بنور العلم وأنتم كفرتم بما مَنَّهُ الله عليكم وميّزكم بفضله عن سائر المخلوقات، إنّه العقل، أثمن أمانة حملها الإنسان. غير أنّ كفرك الجاهلين بالعقل وإنكار وجوده، جعلكم تخونون الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الأحزاب 72).
كيف يقبل الإنسان الذي نفخ فيه الله من روحه أن يسير في الأرض بغرائزه ويغلق عقلهّ ويعمي بصيرته عن الحق؟ المسألة ببساطة تكمن في التّواكل والقبول بالدونية والهوان، وإنكار شرف الإنسان في التّوكل والعلم والسّعي والبحث والاكتشاف والابتكار والتّجديد والاختراع التي لا تتّم إلا بالعقل... الذي حبسه العرب المسلمون، منذ قرون في قمقم الجهل والتّخلف، فانحبس إراديا وقطع طريق العودة على الأمة لتكون خير أمة أخرجت للناس وترفع عن نفسها ما يقوله الآخر عنها إنّها أرذل أمة بين الناس.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: