د - ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1401
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يعتقد البعض أن تغير الرأي ينطوي على تنازل، وربما يلحق الضرر بشخصية المرء واعتداده وثقته بنفسه، وثقة الآخرين به ... ترى كم هذا الاعتقاد صحيح .. أم ترى هو خطأ فاحش يضر بالدرجة الأولى صاحبه.
في الجامعات الألمانية، يوجه غالباً أحد أعضاء لجنة الدفاع عن الأطروحة، لطالب الدكتوراه وهو يمر بوقت صعب من التوتر والترقب مهما كانت درجة استعداده عالية ليوم الامتحان الكبير. والسؤال صعب جداً وسهل جداً في آن واحد : " هل أنت على استعداد لتغير بعض من آرائك هذه ؟ اليوم أو غداً أو في المستقبل ؟ ".
واطروحة الدكتوراه هي عبارة عن توصل بحثي لحقيقة أو مجموعة حقائق علمية جديدة على الأرجح، اشتغل الباحث عليها بحثاً وتنقيباً ودراسة وفحصاً لمئات وربما ألاف من الكتب والكراسات والمراجع، وسماع المحاضرات، وسهر لمئات من الليالي، تعاطف فيها مع قضايا، وصار بالضد من قضايا أخرى، وكون طائفة من الآراء العلمية لم يكن الوصول إليها هيناً ... يفاجأ الآن بطلب أن يتنازل عن بعضها أو جلها ..!
الطلاب المرشحون للقب العلمي الكبير (الدكتوراه) وبصفة خاصة القادمون من الشرق يعتقدون أن من العار والهوان، الاعتراف بأنه على استعداد لتغير آرائه وهو في يوم الدفاع عنها، لذلك فالإجابة التقليدية : " كلا ولا ... هذه الآراء هي حقائق (Fackts) علمية توصلت لها بعد فحص وتمحيص وأنا مقتنع بها كل القناعة ".
والحقيقة أن مثل هذه الإجابة هي مؤسفة، ومحبطة للتفاؤل، فهذا الطالب المرشح لأن ينال درجة علمية رفيعة تسمى علمياً (Promotion A) يعتقد أن ما توصل إليه هو علم العلوم وخاتمة المعارف، والواقع أن الحائز على شهادة الدكتوراه هي إجازة في البحث، وهي تعني بالضبط أنه قد بدأ تواً في عالم العلم والمعرفة، وهذه هي خطواته الأولى فحسب وها هو يبدأها بمبالغات وثقة عالية مفرطة قد تعثر مسيرته.
والواقع أن الحقائق العلمية في تغير متواصل على مدار الساعة لا الشهور ولا السنوات، وقد تظهر حقيقة جديدة تقلب كل الحقائق السابقة رأساً على عقب بما في ذلك أرقام الإنتاج الصناعي والزراعي، وأعداد السكان، ومعطيات اقتصادية وسياسية وجغرافية وتاريخية. وليكن على علم كل من يتعامل مع الحقائق، أن الدقيقة التي تلي تلك التي يتخذ فيها موقفاً ربما ينطوي على تغيير المعطيات المادية المؤثر في قراره، لذلك ينصح كل صاحب قرار بأن يدع في قراره حيزاً بقدر معين (يعتمد على ظروف الموقف) يساعده على تصحيح أو تعديل، أو إضافة، أو شطب فقرة من قراره في وقت لاحق.
(أسفل المقال رابط، بأطلاع القارئ عليه سيدرك أبعاد ما أقصد، العالم يتغير على مدار الدقيقة الواحدة ....!)
قبل أيام كتبت مقالاً، قلت فيه أن بعض الأحداث التي ستشهدها المنطقة (بصرف النظر إن كانت مسرة لنا أو غير ذلك) ستكون مؤثرة بشكل كبير، ومن تلك مثلاً، أن الدولة الإسرائيلية ستزول بشكلها الحالي، والسبب هو أنها لا تساير العصر وتطوراته، وأن إقامة دولة بموجب شروط فنية وإرادة دول عظمى بواسطة القوة المسلحة وإقرار الأمر الواقع، لا يمكن له أن يتعايش مع الزمن، لا سيما إذا كانت هذه الدولة مخالفة للشروط التاريخية ولإقامة الدول، وهو ما أدركه عنصريو جنوب افريقيا وفككوا دولتهم بأيديهم بطريقة آمنة وبالطبع حسناً فعلوا.
توالت علي الكثير من الردود المفتوحة والخاصة على مقالي، وهناك من انتقدني معتقداً أني أتكلم من عاطفتي وتوجهي السياسي، والحق أني قد أقلعت منذ زمن بعيد أن أحلل سياسياً من قبيل العواطف والتوجه السياسي، لأنه لا أريد أن ألعب دور المظلل للناس، وبوسعي أن أمتنع عن الكتابة في قضية أفقها مغلق بما يخالف توجهي السياسي. والقضية الفلسطينية ستدور في مستقبلها بناء على معطيات تاريخية وتطورات في الشرق الأوسط والعالم، والأمريكيون يعلمون ذلك جيداً ولذلك يبذلون المحاولات بأستباق الاستحقاق التاريخي القادم دون أدنى شك. ومن يعلم التاريخ والسياسة كعلم، أكرر كعلم وليس كمدون أو مسجل أو مراقب، وهناك من يتحدث في التاريخ كفتاح فال أو يشتغل بالسياسة بأخذ الخيرة ..!
ومن يكن على استعداد لتغير رأيه وموقفه بناء على معطيات جديدة، هو ذلك الذي يطعم معارفه بحقائق طازجة، حديثة تكتسب مداخلاته طبيعة الموقف الأحدث، وآخر الحقائق المعروفة، وسيكون تقدير موقفه بصدد أية قضية (موضوعة البحث) أكثر واقعية ودقة، وخططه قابلة أكثر للنجاح.ثمة شيئ آخر، من يمتلك مثل هذه الروحية العلمية، هو الأبعد عن التطرف والتعصب، الداء الوبيل للمعرفة والعلم والسياسة الصالحة حيال أية قضية تعرض عليه، ويمنحه أفقاً عريضاً وعميقاً وفكراً جوالاً يستطلع أبعاد أي قرار يتخذه ويتجنب الدخول في خوانق ودهاليز معتمة.
مالذي يجعل أفق المرء عريضاً عميقاً، يمتلك على أثرها مرونة وقدرة على الاستقراء والتنبوء الدقيق، سوى الثقافة ... والثقافة الواسعة، وخاصة في المجال الذي التعامل يدور فيه وفي أطرافه وجنباته.
https://www.worldometers.info/ar/
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: