د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3048
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تداولت وسائل التواصل الالكتروني قبل مدة، مشهد الكهل الجزائري الملتحي، بلحية مطلقة على صدره ولباس المسلم المتشدد، ثوب فضفاض طويل الى رجليه، وحذاء من نوع النعل التركي الضخم الذي ضرب به الصحفي العراقي وجه بوش الابن، السيء الذكر لدى قوم من العراقيين، حذَفه من بعيد دون ان يصيبه.
وهو يأخذ بيده مطرقة تهديم عتيلة، وينهال على صنم امرأة ضخم نازعة عنها كل حياء، وهي متجلية بكل انوثتها على بهو رخامي عال، يصعد اليه بصعوبة، وسط حوض مائي، تنفُر نوافيره من تحت اقدامها، كالمصدر الأول لمياه الحياة، أو هكذا الرمز اليها عند النحات الفرنسي الذى ابدعه. ويظهر انها من مخلفات فنان العصر الاستعماري او من وحي بقاياه، على ايدي بعض المثالين الوطنيين الجزائريين.
وتمر لحظات والرجل في المشهد كالنبي ابراهيم عليه السلام بفأسه يكسر اصنام قومه، ولكن ليس وحده او بغطاء الليل بل بعيون المارة والفضوليين الذين تزاحمت افواج منهم على المشهد، بعضهم يكاد لا يصدق ما يشاهد ويهيب بالرجل أن لا يفعل، وبعضهم، وأصواتهم أوضح، يهتفون له ليمضي فيما هو فيه من تشويه للمعلم في أبرز ملامحه الأنثوية، وكأنهم يستحثونه لاتمام مهمته دون أن يأبه بمشاغبات أو مناشدات بعضهم له بالأيدي واللسان، والآخرون يستعجلونه كالمتوقعين أن لا ينتهي من تشويه التمثال اكثر مما فعل، قبل وصول القوة العامة للتدخل والاخذ بتلابيبه قبل الافلات منهم.
لكن حم القضاء كما يقال، وتسارع رجال الأمن للقبض عليه. وكانما لم ينتظر الا ذلك لا ليسلم نفسه لهم، ولكن ليقاوم قبل ان تنفد عزيمته على التحدي للسلطة. فأُخِذ شر اخذة عندما انهالوا عليه من كل جانب، هذا ينهش في ساقيه وذاك يجره من جلبابه للسقوط، وآخر يباغته ليكسر ذراعه بخشبة طويلة مدت اليه من أسفل بعد أن تسلق اليه بصعوبة. واخيرا.. ساعدت لحيته الكثة بعضهم على جرجرته بها الى الأرض، حيث انبطحت أخيرا رِمّتُه للضرب والركل بالايدى والارجل واجزاء الحجارة المكسرة من التمثال.
هكذا المشهد المادي الواقعة. ولكن ما خلفته وراءها في النفوس وفي اكثر الاذهان لا يحيطه الوصف ولا التقدير.
العمل اصلا غير مبرر لو كان صادرا عن معتوه، والا لما وقف له احد بالتأييد والتشجيع من بين من نقل التسجيل اصواتهم بوضوح. وجريرة صاحبه واضحة لو كان صادراً عن عاقل ورشيد. ويلزمه التعزير ان لم يكن تشديد العقاب والتعويض. ولكن، وهو الظاهر، عمل نضالي، انتمائي، حزبي او عقَدي موصوف. فالتفكير ينبغي ان يرجع بنا الى الدوافع والظروف، لا للتفصي من المسؤولية او الاستهانة بالنظام، ولكن للتوقي من الانفلات ومراقبة الافعال الطائشة. او عدم اراقة الزيت على النار.
فسيرة الدول المستعمرة وسيرة الدول التي تقاوم الارهاب اليوم. لطالما اهملت الظروف والدوافع وتلاعبت بالقوانين وحرمة العقائد والابدان والنفوس.
وواضح ان العملية لو تمت تحت الاحتلال الفرنسي للجزائر لشادت بها كل الابواق الوطنية وكرست صاحبها كبطل مقاومة للوجود الاستعماري الفرنسي. بقطع النظر عن اهمية أو روعة اللوحات والتماثيل التي صنعتها الايدي، لا لتمجيد الاستعمار ولكن لتمجيد عبقرية الفنان صاحب اللوحة أو التمثال بعيداً عن الرمز منها أو منه.
فقد كانت « الصمبة » كما نقول في تونس عن تمثال لافيجري، وهو الكاهن الاكبر الذي كان في الجزائر يحرّض على استعمار تونس، تقف شامخة بصليبه وانجيله وسواد قفطانه عند باب البحر، وهو يولي ظهره للمدينة العربي، كما كانوا يطلقون عليها، والتي لا يعلوها بناء غير مآذن المساجد والجوامع وفي مقدمتها جامع الزيتونة.
ما فعلت به سلطة المقيم العام غداة الاستقلال؟ اقامته من مكانه ليلا بمساعدة المتعاونين واخفته عن العيون في كاتدرائية قرطاج. وما زال يثوي فيها الى اليوم. ومثلها كثير من تُحفهم وتماثيلهم التي هي عنوان فخرهم. ولو طالتها أيدي المواطنين، فما بالك بالمناضلين منهم، لما سلمت من التهشيم والتكسير، لانها كانت رموزا للتحدي لمشاعرهم واسبابا لقهرهم والاعتداء عليهم، إذ لو مسّتها يد وضيع من الاهالي او حتى شريف لقطعوها. فلم تكن النفس البشرية والكرامة الوطنية والعقيدة الاسلامية اكرم عليهم من البصق فوق صنم لهم، او علَم لهم، او حتى خنزير من خنازيرهم.
وعقلاؤهم كانوا يعرفون ان التجاوز بحق الاهالي والوطأَ على مقدساتهم او العبث بكرامة شيوخهم واعيانهم او حتى الفلاح البسيط، ستولّد نقمة عليهم، وان كانت جريرتها فردية لأحد اعوانهم او شُرطهم او جيوشهم؛ وأنهم ما آُخِذوا للخروج او الطرد من بلاد استعمارهم الا لتلك الغطرسة وسوء الإدارة والتعدي على الحرمات، لا لافتقاد تسامح في المسلمين او ضغن قديم.
واذا كان العقلاء ممن في السياسة لا يزالون يطالبون فرنسا بالاعتذار عن استعمارها لبلادهم والتعويض عن الجرائم التى ارتكبتها ادارتها وجنودها او التدمير والتخريب والاستيلاب من خيرات شعبها، فان غيرهم، من ذوي الغيرة ومن ذوي الحنين الى ماضيهم، حين كانت فيه زاوية قرآنية دمروها او مسجد هدموه او مصلى بملء العين اخترقوه ببناياتهم او كنائسهم او حدائقهم وتماثيلهم، لا ينسون لأجيالهم أن يذكروهم بها.
فهذه المخلّفات في بعض النفوس هنا وهناك لم تطمسها الاتفاقيات والبروتوكولات التي تقتضيها العلاقات بين الدول، والتجاوز لبناء ظروف افضل للتفاهم والاحترام المتبادل بين الشعوب.
فاذا كان بقي من الرجال او من النساء من لا تأخذ أو لا يأخذ في مقاومة بقايا الاستعمار والحنين الى من يتولى امره حتى في اشكاله الجديدة، فلا بأس من تطويق الظاهرات المتمثلة اليوم في هذا الرجل في الجزائر او تلك المرأة في فلسطين او هذا الداهس في شوارع نيس او باريس.
فإزاحة اسباب الارهاب مدخل لإزالة الارهاب. لان المنفلت من سلطة العقل لا ينبغي مواجهته بسلطة الغطرسة، لان آثارها تتجاوزه الى من هو دونه عقلا وصبرا على الضيم. وهم كثيرون، بحكم ظروف الحياة في دولة يشعر مواطنوها انهم في امن وامان من ردود الفعل الطائشة بفضل قوتهم المادية والحضارية على غيرهم، ويملكون ادارة شؤون الارهاب بما لديهم من عدة وعتاد، اما في دولنا التي لا تزال ترزح تحت الفقر والتفقير والمرض والعاهات؛ ربما تحت تأثير الماضي ومخلفاته وربما كذلك بالتمييز الحاصل عليهم من الاقوياء، دولا ومنظمات، لإفراغ بلدهم من كل مقوماتها للسيادة والاستقلال الا صوريا.
وكان الاولى تطويق الرجل وعدم الاساءة لرمزه كما فعل هو للرمز الذي انتضى لتخريبه، لان صاحب السلطة اقوى على امتلاك زمام اعوانه تحسبا للنتائج وردود الفعل. ففعل خارج عن السيطرة ليس كفعل بإملاء السيطرة. والاصنام ونحوها يمكن ان ترمم للاعتبار بها او يعاد ابداع ما هو اروع منها، ولكن النفوس تبقى منطوية دائما على الكسور التى تنالها من سلطة حاقدة او بغيضة. فالولد الصالح لا يناله ضيم من تربية والده له بأي عقاب يناله منه. والحاكم العادل ينام ليله مرتاح البال، بانه لم يظلم وانما عاقب وقوّم ولو بالقتل ليسلم الثلثان بفناء الثلث. وهو تثميل لما يمكن ان يفعله المصلح افتراضا لا فريضة. لان الارتداع أقوى من امضاء القسوة بالعقاب.
فكم من مشاهد حية بالصورة والصوت اصبحت فاضحة فادحة للسلطة التي تمارسها، كإجهاز الجندي الاسرائيلي في الضفة برصاص سلاحه على الاعزل الفلسطيني الجريج الأسير الملقى على الارض.
ولا يكاد القضاء الاسرائيلي يُرائي بسجنه حتى يفرج عنه بكفالة تحت ضغط "تساحال" والشارع. ومشاهد مماثلة بيد العنصريين في امريكا وافغانستان والعراق، بتهوّر الجنود الامريكان المستثنين من التتبع والعقوبة على افعالهم في اي بقعة من الارض.
تونس في 2 جانفي 2018
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
4-01-2018 / 22:02:46 الدكتور المنجي الكعبي
شكر على رد
شكراً أخي العزيز. رب كلمات من مشجع مؤيد بنور الحق تبطل الباطل وتحق الحق.
2-01-2018 / 19:03:47 فوزي
مقال متميز وزاوية نظر أصيلة
مقال يتميز بزاوية النظر التي تناول من خلالها الدكتور الصديق المنجي الكعبي حادثة كسر التمثال العاري بالجزائر
فعلا الامر يستحق ان ينظر اليه من زاوية كونه فورة داخلية للبعض كرفض للتعري، وحق للعقال ان يراعوا مثل تلك المواقف في اصلها، اي ليس بالضرورة مسالة التمثال العاري وان كان الامر مهم في ذاته ولكن من حيث كونه مؤشرا على عقلية وتصورات غير موافقة على السائد، بل وكونها تحمل من الجدارة بالتناول والتأمل فيها الشيئ الكثير
4-01-2018 / 22:02:46 الدكتور المنجي الكعبي