البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

النخب التونسية والمقدس

كاتب المقال عادل بن عبد الله - تونس   
 المشاهدات: 1321



تصدير: "هناك وقت يتوجب علينا في المحافظة على المبادئ قبل فرص تطوير أعمالنا. ولا ينبغي علينا الخضوع للابتزاز" (جيفري رو دي بيزيو، رئيس منظمة الشركات الخاصة بفرنسا).

لقد اخترنا تصدير هذا المقال بتصريح لأحد رموز الرأسمالية الفرنسية، والابتعاد عن تصريحات ماكرون وفريقه الحكومي ومن معهم من رموز اليمين الفرنسي المتطرف. فمن المفترض بالرأسمال الفرنسي أن يكون "جبانا" في مواجهة غضب أكثر من مليار ونصف مسلم، أو على الأقل من المفروض فيه أن يكون أكثر براغماتية وأقل صدامية للمحافظة على المصالح الاقتصادية الفرنسية في البلدان الإسلامية، خاصة بعد أن تحولت المقاطعة إلى مطلب شعبي يهدد تلك المصالح بشكل جدي. ولكنّ تصريح دي بيزيو يكشف أن الممثل الرسمي للرأسمالية الفرنسية يسند أطروحات ماكرون ويطرح القضية في مستوى "مبدئي" يربطها بقيم اللائكية الفرنسية.

بصرف النظر عن تاريخ هذه النظرة وعلاقتها بالسياسات الاستعمارية الفرنسية، حيث يتكثف الأيديولوجي ويسند الاستعمار العسكري والاقتصادي على خلاف السياسات الاستعمارية البريطانية، وبصرف النظر عن تأثيرات هذا الطرح في نسف الأساس النظري "المتخيل" للرأسمالية حيث تكون المصلحة مقدمة على كل الأنساق الأيديولوجية بل على كل القيم والمبادئ، فإن إشكالية هذا المقال المخصص للنخبة التونسية هي التالي: كيف تعاملت هذه النخب بمختلف أدوارها في المجال العام مع مسألة الرسوم المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم)؟ وهل نجد اختلافا جذريا بينها وبين مواقف النخب "الماكرونية" الفرنسية؟ بل كيف طرحت هذه النخب قضية المقدس في تونس منذ الثورة؟ وما هي علاقة تلك الأطروحات باللائكية الفرنسية من جهة أولى، وباستحقاقات الجمهورية الثانية من جهة أخرى؟

في ضرورة المنهج التأصيلي وتجاوز المقاربة الوصفية

للإجابة على هذه الإشكالية وما يُشتق منها من أسئلة، يميل أغلب خصوم النخب "الرسمية" أو التقليدية التونسية إلى اعتماد المنهج الاستقرائي (تتبع مواقف تلك النخب من قضايا المقدس وبناء الحكم عليها، وهو حكم سلبي في الأغلب)، ولكنّ هذا المنهج على أهميته يظل منهجا وصفيا يتعامل مع "المحصول" وليس مع ما يؤسسه في المستوى التاريخي أو النظري الذي يتجاوز المصالح الشخصية أو التحيزات الجهوية والتضامنات الزبونية. ولذلك فإننا اخترنا الإجابة عن الأسئلة بربطها بالأسباب التوليدية أو التأسيسية لعقول النخب التونسية "المعترف بها" داخل ما يُسمى بالعائلة الحداثية أو الديمقراطية بمختلف مكوناتها.

يعتبر الباحثون في العلوم السياسية النظام التونسي منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا نوعا من "الأنظمة الكمالية (نسبة إلى كمال أتاتورك)، أي تلك الأنظمة السياسية القائلة بالدولة- الأمة والمتأسسة على الفلسفة السياسية اللائكية الفرنسية لإدارة العلاقة بين الدين والدولة والقيام بما سمته بـ"عملية التحديث" وتجاوز التخلف التاريخي المؤكد عن المركز الغربي. وقد ورثت هذه الأنظمة الكمالية (بدرجات متفاوتة) أبرز سمات اللائكية الفرنسية أو مبادئ جمهوريتها منذ الثورة الفرنسية التي قامت على سلطتي الإقطاع والكنيسة على حد سواء: تحول اللائكية إلى ما يشبه الديانة الوضعية المنافسة للديانات التقليدية في إنتاج "المعاني النهائية" للوجود، والهيمنة على المؤسسات الدينية وتحويلها إلى ملحق وظيفي في خدمة سياسات الدولة، والنظر إلى الدين على أساس أنه تعبيرة ثقافية متخلفة ولا وظيفية في بناء المشترك الوطني، والتوجس من كل التعبيرات الدينية في الفضاء العام باعتبارها تهديدا "للنمط المجتمعي" الواقعي أو المتخيل.. الخ.

النمط المجتمعي التونسي والقيم الجمهورية الفرنسية

لو أردنا تقديم وصف مختزل للنمط المجتمعي التونسي"المتخيل" الذي تتماثل معه النخب التونسية وتدافع عن شروط تأبيده حتى بعد الثورة، لقلنا إنه "مبادئ الجمهورية الفرنسية" و"قيم الثورة الفرنسية" و"عصر الأنوار". ولذلك فإن نظرتها للمقدس الإسلامي (سواء قبل الثورة أو بعدها) لم تستطع أن تتخارج عن الأطروحات اللائكية الفرنسية، وآليات إنتاجها للمعنى وهندستها للفضاء العمومي. فقد تشكلت عقول النخب الحداثية على اختزال العلمانية في اللائكية الفرنسية (ما يسميه بعض الباحثين بـ"النموذج اللاتيني" في تقابله مع النماذج العلمانية الأخرى خاصةً النموذج الأنجلو- ساكسوني)، وتربّت على تراث مدارس الاستشراق المتماهية مع السردية الفرنسية الاستعمارية والمنطق الكونتي (نسبة إلى أوغست كونت).

لقد هيمنت هذه الخيارات على البنية العميقة للعقل الحداثي التونسي وجعلته يؤمن حتى دون أن يكون له في الأغلب الجرأة على التصريح بذلك؛ بـ"الاستثناء الإسلامي": الاستحالة الجوهرية وغير القابلة للتجاوز للتوفيق بين الإسلام والديمقراطية أو المبادئ الفلسفية السياسية للدولة الحديثة، الأمر الذي قد يفسر إلى حد كبير اصطفافها مع سياسات الدولة الاستئصالية للإسلام السياسي زمن المخلوع، ورفضها لأي تفاوض جديد حول المشترك الوطني أو "الكلمة السواء" اللازمة لإدارة الجمهورية الثانية، بعيدا عن الأساطير المؤسسة للجمهورية الأولى في لحظتيها الدستورية والتجمعية.

هل يمكن بناء الجمهورية الثانية على اللائكية الفرنسية؟

إنّ عدم تضامن أغلب النخب التونسية مع دعوات المقاطعة للسلع الفرنسية، بل تصادم تلك النخب في أكثر من مناسبة مع هوية الشعب بدعوى حرية التعبير، هو موقف يتجاوز الأسباب السياقية المهيمنة على الواقع التونسي بعد الثورة (خاصة محاربة الإسلام السياسي الوافد غير المرغوب فيه على الحقل السياسي "القانوني"). إنه تعبير عن "بنية ذهنية" انحصرت في منطق اللائكية الفرنسية ورفضت توسيع آفاقها إلى النماذج العلمانية الأخرى، وهو كذلك تعبير عن انعكاسات الخيارات التربوية التونسية الكبرى منذ الاستقلال: تعميم الأطروحات الاستشراقية واللائكية، والإعراض عن كل الأطروحات المفككة للاستعمار في شكليه المباشر وغير المباشر، وتهميش دورها في مناهج التعليم بمختلف مستوياته (تهميش حضور الدراسات ما بعد الاستعمارية ورموزها المعروفة).

ولذلك، فإن مواقف النخب التونسية الرافضة لمقاطعة السلع الفرنسية والمتماهية مع مواقف ماكرون واليمين الفرنسي (صراحة أو على استحياء) هي أمر متوقع. فالنخب التونسية لا تدافع عن مصالح فرنسا بقدر ما تدافع عن "نسق الذات" الحداثية التونسية العاجزة عن أخذ مسافة نقدية من "المقدس اللائكي"، باعتباره أيديولوجيا استعمارية مخاتلة تحت شعارات حقوق الإنسان والتنوير وحرية التعبير، وغيرها من القيم التي أثبتت السياسات الفرنسية منذ عهد الاستعمار المباشر أنها مجرد غطاء للنهب والاقتصادي والاستلحاق الثقافي. وما دامت النخب الحداثية التونسية مصرّة على حصر مهمتها في نقد المقدس الديني وتسفيه أحلام المؤمنين به دون أي نقد ذاتي للعقل الحداثي ذاته ولتاريخه في ممارسات الدولة ومحصول ذلك التاريخ واقعيا وبالأرقام، فإنها ستبقى "جماعات وظيفية" مهمتها تأبيد التبعية والتخلف ومنع انبثاق أي مشروع وطني للتحرر وتحقيق شروط السيادة.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، فرنسا، بقايا فرنسا، التبعية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 30-10-2020   المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، كريم فارق، أحمد بوادي، د. طارق عبد الحليم، سامح لطف الله، إياد محمود حسين ، ماهر عدنان قنديل، أنس الشابي، فهمي شراب، د. عادل محمد عايش الأسطل، د. أحمد محمد سليمان، محمد شمام ، سلام الشماع، نادية سعد، إسراء أبو رمان، سلوى المغربي، حسني إبراهيم عبد العظيم، عمر غازي، مجدى داود، د. أحمد بشير، عبد الله الفقير، محمد أحمد عزوز، فتحي الزغل، د - شاكر الحوكي ، د. عبد الآله المالكي، محمود فاروق سيد شعبان، عزيز العرباوي، الهادي المثلوثي، د- جابر قميحة، د- محمود علي عريقات، حاتم الصولي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، أبو سمية، سعود السبعاني، صلاح الحريري، محمد الطرابلسي، د - الضاوي خوالدية، ياسين أحمد، صالح النعامي ، الناصر الرقيق، مصطفي زهران، ضحى عبد الرحمن، محمود سلطان، عراق المطيري، كريم السليتي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، عواطف منصور، جاسم الرصيف، محمد الياسين، د. كاظم عبد الحسين عباس ، د - محمد بنيعيش، يحيي البوليني، إيمى الأشقر، صفاء العراقي، محمد يحي، عبد الله زيدان، سامر أبو رمان ، حسن الطرابلسي، رافع القارصي، د - المنجي الكعبي، خالد الجاف ، وائل بنجدو، مراد قميزة، محمود طرشوبي، محمد عمر غرس الله، تونسي، العادل السمعلي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، المولدي الفرجاني، رمضان حينوني، عبد الغني مزوز، د. خالد الطراولي ، صباح الموسوي ، منجي باكير، أحمد الحباسي، رحاب اسعد بيوض التميمي، سيد السباعي، حميدة الطيلوش، فتحـي قاره بيبـان، محمد اسعد بيوض التميمي، سليمان أحمد أبو ستة، رضا الدبّابي، مصطفى منيغ، د- محمد رحال، أشرف إبراهيم حجاج، فتحي العابد، يزيد بن الحسين، صفاء العربي، علي الكاش، د - مصطفى فهمي، رشيد السيد أحمد، أحمد النعيمي، محمد العيادي، عبد الرزاق قيراط ، أ.د. مصطفى رجب، محرر "بوابتي"، د. مصطفى يوسف اللداوي، حسن عثمان، د- هاني ابوالفتوح، صلاح المختار، د. صلاح عودة الله ، رافد العزاوي، د - محمد بن موسى الشريف ، فوزي مسعود ، د.محمد فتحي عبد العال، أحمد ملحم، سفيان عبد الكافي، طلال قسومي، علي عبد العال، خبَّاب بن مروان الحمد، الهيثم زعفان، عمار غيلوفي، د - صالح المازقي، د - عادل رضا،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة