البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

ماذا يقول جسدك عن أخلاقك؟
قراءة في كتاب “الفراسة” لفخر الدين الرازي

كاتب المقال أحمد البان   
 المشاهدات: 1678



في البدء لا بد من تبديد الوهم الذي سينتابك أيها القارئ وأنت ترى هذه الكلمة (الفراسة)، فلا ريب أنها تعني لديك علما متعلقا بالميتافيزيقا وليس قابلا للتعلم، إذ الشأن في هذا النوع من العلوم أن يكون “لَدُنِيًّا”، لكن الفراسة التي كتب عنها الإمام الرازي ونقدم لك كتابه فيها اليوم ليست تلك التي خطرت لك، إنها علم آخر مستقل له قواعد وضوابط ظاهرة معروفة، وهو أكثر علاقة بالطب، ولكنه ليست له علاقة بالغيب واستشرافه، وقد حرص الرازي على التمييز بين العلمين، وهذا ما سأبينه لك.

الفراسة التي تشيع بين العامة هي إشراق روحي مرجعه إلى صفاء النفس بالإيمان والعبادة والتزكية، إضافة إلى استعداد روحي يكون لدى صاحبها، وهي التي يندرج فيها الحديث: “اتقوا فراسة المؤمن”، أو هي كما عرفها الرازي في كتابه: “أن يحصل خاطر في القلب أن هذا الإنسان من حاله وخلقه كذا وكذا، من غير أن يحصل هناك علامة جسمانية، ولا أمارة محسوسة”، ورغم أن هذا النوع علم صحيح وقدرة روحية لا تنكر إلا أنه أصبح بابا واسعا للشعوذة وادعاء الغيب، وقد بين الرازي في مقدمة كتابه الذي بين أيدينا أنه لا يتعرض للفراسة بهذا المفهوم.

أما النوع الثاني الذي هو موضوع الكتاب الذي سنعرض لك أهم مضامينه هنا فهو كما عرفه الرازي: “الاستدلال بالأحوال الظاهرة على الأخلاق الباطنة”، وهو علم كما وصفه الرازي أيضا: “يقيني الأصول ظني الفروع”، يعتمد على الفطنة والضبط والحفظ والمعرفة ببعض أساسيات الطب، الأول إذن علم عرفاني إشراقي والثاني علم برهاني قياسي، وهو علم يستفاد منه في معرفة طباع الناس وأخلاقهم بناء على أمارات ظاهرة على أجسادهم وفي أبدانهم، ويمكن أن يستفيد منه القادة والسياسيون في إسناد المسؤوليات وإبعادها، كما قد تستفيد منه دور القضاء وإدارات المباحث الجنائية في التعرف على الجناة ومن لديهم قابلية ارتكاب الجريمة إلى غير ذلك من فوائد ومزايا.

قسم الرازي كتابه إلى ثلاث مقالات (فصول)، فهو في المقالة الأولى يعرفنا بالفراسة والمزاج، ويبين فضيلة هذا العلم في الكتاب والسنة والعقل، ثم يبين أنواعه ويجزم بأنه لن يتعرض إلا إلى النوع الذي يجري فيه التعلم والتعليم معرضا بصريح العبارة عن التعرض للنوع الآخر الذي عرفناه آنفا، ثم وضح الطرق التي يمكن بواسطتها معرفة أخلاق الناس، والأمور التي تجب مراعاتها عند الرجوع إلى هذه الطرق.

أما المقالة الثانية فإنه تعرض فيها لعلامات الأمزجة الكاملة حتى يتوسل بمعرفتها إلى معرفة: الاعتدال والاختلال، مستطردا علامات العبقرية، مؤكدا أنه لا بد للعبقري من علامة ظاهرة تدل عليه، فإما أن يكون مفرط الطول أو مفرط القصر أو لديه ضخامة أو ضآلة مثيرة في أحد أعضائه مثل الرأس أو العينين أو الشفتين، وأن يكون له تميز سلبي أو إيجابي في خلق معين، كأن يكون مفرطا في النوم أو مفرطا في الاستيقاظ أو هادئا بدرجة مثيرة أو قلقا بشكل غريب إلخ، وهي الأمارات ذاتها التي يتحدث عنها علماء النفس اليوم، أما المقالة الثالثة فقد تناول فيها دلالة الأعضاء الجزئية على الأحوال النفسية، واستفاض في ذلك خلال سبعة عشر فصلا بتمامها اكتمل الكتاب.

وقد كان الرازي دقيقا منهجيا وهو يخوض غمار بحثه في علم الفراسة، وقد أبان عن فهمه المستوعب له من خلال أمور عدة، أهمها -في نظري- استلاله من بين كثير من العلوم القريبة منه، والتي اشتبهت به في العصور التي سبقت الرازي لدى كثير من العلماء، فعقد فصلا كاملا للحديث عن العلوم القريبة من علم الفراسة والتي ليست منه، وذكر منها ثلاثة أنواع يجمعها أنها -حسب الرازي- لا يمكن ردها إلى الأصول العلمية، مثل: ما يوجد في أبدان الناس من الشامات والخيلان، وما يكون في الأعين من الاختلاج، وما يظهر في أبدان الخيل من الدوائر التي كان العرب يتيامنون ببعضها ويتشاءمون بالبعض الآخر، ومنها أيضا علم الخطوط التي توجد في الأكف والأقدام والتي تسمى أسرارا، ومنها ما يدعون من أن في أكتاف الغنم خطوطا إذا قوبلت مع الشمس عرف المتفرِّس من خلالها أحوال الفلك والناس، إلى غير ذلك مما استبعده الرازي عن كتابه الذي أراده كتابا علميا واضح الأسس والقواعد والمقايسات.

ويتميز كتاب الفراسة للرازي كما قال محققه -مصطفى عاشور- بحرص صاحبه الرازي على الصدق واحترامه لعقلية القارئ، وهو يخوض به في تلك المسائل الدقيقة، ويعطيه مفتاح كل شخصية، وقد ظهرت شخصية الرازي العلمية الموسوعية وعقله الباهر في هذا الكتاب الذي استطاع أن يؤطر فيه ثقافة الفراسة لدى العرب ضمن نظرية علم الفراسة لأرسطو، الذي لخص الكتاب كثيرا من أفكاره وتجاوز بها إلى آفاق علمية وفلسفية أرحب وأوسع.

وقد انتبه الغربيون في بدايات القرن المنصرم إلى أن الأحوال الظاهرة لبدن الإنسان -كما سماها- الرازي تمكن من التعرف على الأحوال الباطنة، فهذا ألكسيس كاريل صاحب الكتاب الأشهر في القرن العشرين “الإنسان ذلك المجهول” يقول: “إن قسمات الوجه تعبر عن أشياء أكثر عمقا من وجوه نشاط الشعور المخفاة؛ ففي هذا (الكتاب المفتوح) يستطيع الإنسان أن يقرأ -لافقط- الرذائل والفضائل والذكاء والغباوة والإحساسات والعادات التي يحرص الفرد على إخفائها؛ بل أيضا تكوينه”.

هو إذن علم عظيم النفع في عصرنا هذا، وقد اشتهر لدى الغربيين علم (لغة الجسد Body language)، وهو جزء قليل من علم الفراسة الواسع العميق الذي نقدم كتاب الرازي فيه لقرائنا اليوم، وقد تطور علم لغة الجسد في الغرب وأصبح جزءا أصيلا من مناهج الدراسات الإدارية والأمنية، وقد اهتمت به دوائر الاستخبارات العالمية والأمريكية منها خاصة، وأنشأت إدارات تابعة لها خاصة بهذا العلم الذي تدرس من خلاله شخصيات قادة العالم، ويُمَكِّن من التنبؤ بسلوكهم، كما يساعد على فك شيفرات الجرائم المستعصية.

وقد أظهرت مؤخرا وثائق لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن فريق بحث تابع لها وضع خطة لدراسة حركات جسد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقادة عالميين آخرين، من أجل توقّع أفضل لأفعالهم، ومن أجل إرشاد السياسة الأميركية، ويقدم مشروع “إشارات الجسد” الذي يدعمه “مكتب التقييم” التابع للبتناغون تقارير بحثية إلى وزير الدفاع تشاك هاغل، يستخدم فيها تحليل الحركة للتنبؤ بطريقة تصرّف القادة.

فكيف يستطيع المسلمون الاستفادة من تراثهم العميق حول الفراسة وتطويره ليصبح جزءا من استراتيجية النهضة والتغيير التي ينشدونها؟ أم هل سيبقون عالة على تسقُّط ملاحظات بسيطة وسطحية لدى علماء الغرب حول هذا العلم الذي يمكن القول إنه عربي النزعة، وذلك لما يمتلكه الإنسان العربي قديما من فطنة وذكاء مكناه من قهر الطبيعة الجغرافية القاسية التي كان يعيش فيها، حيث لا ترحم الإنسان إلا فطنته وذاكرته وحدسه.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

كتب التراث، تحقيق الكتب، الفراسة، لغة الجسد،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 14-04-2019   المصدر: إسلام أونلاين

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
رافع القارصي، محمود سلطان، د. عبد الآله المالكي، د - مصطفى فهمي، عزيز العرباوي، أبو سمية، صفاء العراقي، محمد يحي، د. طارق عبد الحليم، طلال قسومي، وائل بنجدو، رمضان حينوني، عبد الله الفقير، العادل السمعلي، حاتم الصولي، د. أحمد بشير، عبد الرزاق قيراط ، فتحـي قاره بيبـان، د- محمد رحال، عمر غازي، محرر "بوابتي"، عبد الغني مزوز، سلام الشماع، محمد شمام ، د- جابر قميحة، صلاح المختار، عواطف منصور، فتحي الزغل، محمد عمر غرس الله، أنس الشابي، إيمى الأشقر، أحمد ملحم، د- هاني ابوالفتوح، رافد العزاوي، صباح الموسوي ، د - صالح المازقي، محمد أحمد عزوز، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، خالد الجاف ، عمار غيلوفي، حسن عثمان، أشرف إبراهيم حجاج، تونسي، د.محمد فتحي عبد العال، كريم السليتي، د. عادل محمد عايش الأسطل، أ.د. مصطفى رجب، حسني إبراهيم عبد العظيم، محمد اسعد بيوض التميمي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، محمد الطرابلسي، يزيد بن الحسين، كريم فارق، د - الضاوي خوالدية، الهادي المثلوثي، د. أحمد محمد سليمان، نادية سعد، فوزي مسعود ، صلاح الحريري، ياسين أحمد، صفاء العربي، المولدي الفرجاني، فتحي العابد، يحيي البوليني، جاسم الرصيف، د - عادل رضا، د - محمد بنيعيش، فهمي شراب، سامح لطف الله، منجي باكير، سلوى المغربي، حسن الطرابلسي، مراد قميزة، سامر أبو رمان ، أحمد بن عبد المحسن العساف ، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، ماهر عدنان قنديل، مصطفى منيغ، د- محمود علي عريقات، خبَّاب بن مروان الحمد، إياد محمود حسين ، محمود طرشوبي، سفيان عبد الكافي، د - المنجي الكعبي، د. مصطفى يوسف اللداوي، سليمان أحمد أبو ستة، صالح النعامي ، أحمد بوادي، د. خالد الطراولي ، د - شاكر الحوكي ، محمد العيادي، رضا الدبّابي، محمود فاروق سيد شعبان، مجدى داود، علي عبد العال، سعود السبعاني، رشيد السيد أحمد، الناصر الرقيق، مصطفي زهران، د. كاظم عبد الحسين عباس ، ضحى عبد الرحمن، عبد الله زيدان، إسراء أبو رمان، الهيثم زعفان، عراق المطيري، د. صلاح عودة الله ، رحاب اسعد بيوض التميمي، محمد الياسين، أحمد الحباسي، سيد السباعي، د - محمد بن موسى الشريف ، علي الكاش، حميدة الطيلوش، أحمد النعيمي،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة