إنتحات
سامي قليبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 1839
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الآلة والجسد قُطْبان يتداخلان في الفعل التّشكيلي، "قطب آليّ وقطب جسديّ" (1) عند الفنّانين المعاصرين، فالجسد ينحو منحى الآلة في أعمال الفنّانKLEIN ، عند اسـتعمـاله لجسد المرأة كـفُرْشـــاة ( Anthropométries)، أو تتأنْسَن الآلة مع TINGUELY عند تصميمه لآلة ترسم لوحدها في أعماله المسمّاة Méta-matic.
فنّانون آخرون، استعملوا الجسد مباشرة في إِعْراضهم عن الآلة التي يعتبرونها رمز كلّ الأخطار التي يتعرّض لها الإنسان، ويحمّلون المسؤوليّة في ذلك للتّقدّم التّكنولوجي.
إنّ للجسد والآلة حضورا كبيرا في الفنّ التّشكيلي، وخاصّة في القرن العشرين، حيث نشأت توجّهات فنّيّة تعتمد الأوّل مثل (Performance, Body-Art..) وأخرى تعتمد الثّانية مثل ( Mec-Art).
لقد أصبحت الآلة حاضرة في كلّ درجات السّلّم الاجتماعي، إذ كان العامل بالمصنع هو الوحيد المعرَّض للتّعامل مع الآلة رُغما عنه، واليوم يتعرّض كلّ شرائح وأفراد المجتمع للتّعامل مع الآلة سواء بإرادتهم أو بدونها، فتارة يتحكّم مستعملها فيها ويوظّفها لحسابه ورغباته ويغيّرها ويطوّرها ويتصرّف في عناصرها فيُصْبح الفاعلَ فيها، وتارة يكون أسيرَها فتفرض عليه قوانينَها وتفعل فيه فعلها فيُصبحَ مفعولا به ، وأحيانا يكون فعْلُها فيه شافيا لِرَغباته ومتسبّبا في راحته وسعادته ورِضاه فيصبح مُتَفاعلا معها، وأحيانا أخرى يكون فعلُها فيه ضارّا ومضايقا له وغيْرَ مرْغوب فيه من طرفه و لا يرضاه فيصبح مُنْفَعِلا. من هذا المنطلق أردت أن يكون الانْتِحاتُ كفِعْل يقوم به المتلقّي إزاء عملي الذي أقترحه، مُسْتفزّا لمشاعره ودافعا له في اتّخاذ مواقف، فيكون أحيانا فاعلا فيه وأحيانا مفعولا به من طرفه، وتارة متفاعلا معه، وأخرى منفعلا منه.
1 - المفعول الفاعل
عادة ما يكتفي المتلقّي بإبصار عمل تشكيليّ ما ، اعترض سبيله، دون المساس به سواء لاعتبار نفسه خارجا عن دائرة الفعل التّشكيلي، أو بمنعه من طرف صاحب العمل أو المشرف عليه، ولكنّه غالبا ما يقصّر البصرُ في تحسّس العمل ويبقى المتلقّي على مسافة منه وفي تشوّق للاقتراب منه وتلمّسه، ولهذا كان عملي بمثابة الدّعوة المباشرة لأن يَلِجَه بجسده ويتجاوز مسألة الاقتصار على إبصاره، حيث أنّ البصر غالبا ما يكون تحسُّسه للعمل خادعا ومنقوصا، وهذا ما يجعلني أؤمن بأنّ الجسد هو الوسيلة المُكمِّلة لتَدارُك هذا النّقص. وبما أنّ المثير الأوّل لِبحْثي هذا كان الصّورة الفوتوغرافيّة النّصفيّة التي تمثّل الوجه، وبالاستناد أيضا إلى وِجهة نظر الباحثة M.C.POIREE في أنّ "الوجه هو شفرة ومفتاح الجسد" (2)، عوّضتُ الجسد بوجْه صاحبه، بما أنّه حامل لهويّته وممثّل له، وصمّمتُ عملي على شكل آلة مُسْتوْحاة من لعبة المُطابقة، طوّرْتُها في مقاييسها وطوّعْتُها في خاماتها حتّى تُمكّن المتلقّي من القيام بنحت وجهه بوجهه أي بعمليّة الانتحات ، فيصبح وجهُه النّاحتَ والمنحوتَ، أي الفاعلَ والمفعولَ، فهو في ذات الوقت مُسْتعمل لِوَجْهه كأداة فاعلة في عمليّة النّحت وكموضوع للنّحت نفسه.
2- المفعول الفاعل المُنفعل
إنّ استعمال أيّ شيء غريب وجديد وغير مألوف، يبعث في مُستعمله الشّعور بالتّردّد والتّخوّف والاحتياط، خاصّة إذا كانت المكوّنات توحي بأنّها ضارّة، ويمكن أن تُضايق راحتَه وتحرمه من رفاهيّة الطُّمأنينة، وتبعث فيه حيرة المغامر الذي ينتظر حدوث شيء مزعج في كلّ لحظة من لحظات الاستعمال، حيث يقول Tinguely في حوار له مع Popper " إنّ الآلات التي أبتكرها، بمثابة المخلوقات الحيّة التي تُوحي لِمُسَتعمِلها بالخوف من ناحية و بالدّهشة من ناحية أخرى "(3) ، الخوف من إمكانيّة ضرَرٍ تُحدثه له مكوّنات وعناصر العمل، والدّهشة من شكلها الغريب وغير المألوف.
وبحكم أنّ عملي( المُسْتوْحَى من لعبة المُطابقة ومن عمل الفنّان Félix) ذا شكل غريب ومتكوّن من مجموعة أسلاك حديديّة، فالمستعملُ عند إيلاج وجهِه، يكون مُجبَرا على إغْماض عينيْه وإغلاق فيه، فيحسّ بالتّضايق من الوهلة الأولى، مخافة أن يُخْدَش أو يُجرح ، إلى جانب إحساسه بِبُرودة الأسلاك ودغدغتها الغريبة عند ملامستها لوجهه، كلّ ذلك يسبّب له ، وخاصّة عند الاستعمال الأوّل، شِبْه رفْضٍ وعدمَ استلْطافٍ. فرغم أنّه"فاعل" فيها بتغييره لِملامحها تمظهراتها وبإعطائها تشكّلا وتنظيما جديديْن، فهي تؤثّر في ردّة فعله تُجاه "فعلها" فيه، فتغيّر هي بدورها ملامحَهُ وتصرّفاته لحظةَ الاستعمال فـ"ينفعل" ويكون بذلك "فاعلا ومفعولا به ومُنْفعلا".
3 - المُنتحت، بين المنفعل والمتفاعل
ليس الإنسان أمام العالَم، بل هو في العالم ذاته، وبالتّالي أردته ألاّ يكون أمام عالم العمل التّشكـيلي، بل في عالم العمل ذاته، جَسَدا و فِعْلا. إنّ الإنسان الذي يواصل نظره لعمل ما من خارجه، يعيش مجرّد متفرّج، في حين أنّ دوره يجب ألاّ يقتصر على الفرجة عليه، بل بالمساهمة فيه فيَفُكّ رموزَه كما يفكّ الباحث العلمي رموز علمه ليَفْهم حقيقته كمتحوّل وغير قارّ، وإنّه كإِنسان لا يمثّل سوى مرحلة عابرة من الوجود في هذا العالم وإن لم يفعل فعلَه فيه ولم يقم بدوره كمساهم فيه فاتَتْهُ الفرصة وتَرَكَها لغيْره، إذ إنّه" على الإنسان أن يدرك نفسه ويفهم حقيقته كحادث طارئ، زائل في هذا الوجود، وبأنّه مرحلة مؤقّتة في عالم متحوّل و متطوّر باستمرار"(4) ، بذلك يكون الإنسان- المتلقّي قد فقد مكانه كمجرّد متفرّج، وأصبح مشاركا دون تراجع.
إنّ فعلي هذا لايتوجّه بالأساس للمتلقّي، الذي يجب أن يغيّر من سلوكه ويخرج من عزلته وتعامله السّطحي والخارجي مع الفعل التّشكيلي، وذلك بتشْريكه فيه، أو حتّى إدماجه معه كعنصر تشكيليّ أساسيّ أو كفاعل محرّك، حيث أنّ" فنَّ اليوم يهتمّ بسلوك المتلقّي"(5) . فبالنّسبة لي، لا يجوز عزل الإنسان المتلقّي عن العمل، لذلك أردت أن أدمجه في الفعل التّشكيلي، وأن أُدمج الفعل التّشكيليَّ فيه، فيُصْبِحان واحدا ليُكوّنا" الإنسان/الفعل التّشكيلي" أي بعبارة أخرى أردت أن أبحث عن لغةٍ يمكن للإنسان من خلالها أن يكون هو المحرّك. والمتلقّي بصفة عامّة كجُزْء لا يتجزّأ من العمل ذاته، لذلك يتمثّل عملي في التّأكيد على أنّ الفضاء بينه وبين المتلقّي ليس فراغا، فضاء لا يمثّل قطيعة، بل مُفْعم بالتّفاعلات الدّاخليّة (Interactions) التي تُغيّر شكل العمل وتؤثّر بدورها في سلوك المتلقّي/المُستعمل/الفاعل...وبالتّالي يُعتبر فضاء العمل(آلة الانتحات) وفضاء الفاعل(المُنْتحتُ) فضاءً واحدا يخوض من خلاله تجربةً فوْريّةً.
إنّه المتلقّي ذاته المعني بالمشاركة في العمل فيُصْبح ذا فعل حاسم في تقرير تركيبة الشّكل أو بالأحرى تراكيبه، وفي هذا السّياق يرى الفنّان MORELLET أنّ "دعوة المتفرّج للمشاركة، تكون بتنصيب فضاء ليأتي كيْ يتنزّه فيه" (6) ، فضاءٌ يمنح المخيّلةَ والذّهنَ والجسم معاً إمكانيّة الاختراق وفرصة للإبداع، فهو الحيّز المحدود والضّيّق ظاهرا ولكنّه في باطنه رحْب وقابل للاستيعاب وتدخّلات الآخرين.
إنّ مدى أهمّيّة هذه التّجربة التّشكيليّة يتلخّص في دعوة المتلقّي إلى استخدام العناصر والخامات المكوّنة للعمل والتّحاور معها برغبة، بدُخوله في فضائها، إذ يقول الباحث Yves BROCHARD "الرّغبة تحاورُ العملَ، الملءُ يحاور الفراغ، الجسد يُحاور الفضاءَ، الخامات تحاور الجسد"(7) ، حوار يجعل المستعمل يعيش" لذّة المغامرة والاكتشاف، اكتشاف الفضاء الأعْجوبة" (8).
من هنا كانت لعملي إمكانات مفتوحة ولا متناهية للّحوّر والتّحوّل، ويتمثّل ذلك في حركيّته ومرونته، فيَدْعُوَ المتلقّي لعمليّة الانتحات، ليصبح وإيّاه مساهميْن في إعادة التّشكيل بصفة لا نهائيّة، فتارة يكون المنتحتُ فاعلا في هيأة الأسلاك، وتارة تعكس هذه الأخيرة فعْلهُ عليه، فهو يلمسها بوجهه وهي تلمس وجهَه فتُثير فيه إحساسا غريبا (مستحبّا أو العكس)، إذ أنّ "الوجوهَ لم تعد شخوصا، بل أشياء، والجسم أصبح جزءا من العمل" (9).
لقد بدأتُ بفكرة التّكرار، تكرار عنصر" السّلك " ، وبتكراره بصفة شبه لا نهائيّة، يكتسح فضاء العمل، كما دعوْت المتلقّي لاكتساح فضاء الأسلاك التي اكتسحتْ بدورها فضاءَ العمل، وبذلك يكون دورُ المستعمل في البداية، اكْتساحُ المكتسَحِ، فالمتلقّي والأسلاك يشتركان في اكتساح نفس الفضاء، فيؤثّر أحدُهما في هيأة الآخر.
إنّ المنتحتَ باستعماله لآلة الانتحات، يقوم بتغيير وضعيّة الأسلاك فتقتطِعَ حيّزا جديدا من الفضاء، أي تولّد منحوتة جديدة، فهو ناحتها وفي نفس الوقت يكون هو موضوع النّحت، حيث أنّ وجهَه هو المِثال، فهو المنحوت، هو الفاعل والمفعول، إنّه النّاحت لنفسه بنفسه، وليس بحاجة إلى النّحّات كوسيط.
إنّ آلة الانتحات أمامه وهو مدعوّ لاستعمالها للانتحات، دون سابق تكوين ودراية بميدان النّحت وبآليّاته، إنّها بمثابة الّلعبة التي تبسّط وتيسّر عمليّة النّحت، مثلها مثل الآلة الحاسبة التي توفّر على مستعملها عناءَ ومشقّةَ العمليّات الحسابيّة وكلّ آليّاتها وقواعدها من ضرْب و جمع و قسمة وطرْح وغيرها من المعارف التي هو في غنىً عنها.
إنّ نيّتي الحقيقيّة، هي وعْيُ المتلقّي بأنّه عندما يشرع في الانتحات، وبوجود جسده أو وجهه فقط في نفس فضاء مكوّنات العمل، يبعث في هذا الأخير الحياة، بتفاعله كعنصر تشكيليّ وكعنصر فضائيّ، وكموضوع نحتيّ حيث يمكن للجسد أن يصبح بدوره أداة للنّحت أو مساهما فيه أو مكمّلا له أو فاعلا فيه، وعلى رأي Marie-Christine POIREE "أصبح الجسد آلة، فهو مستمَلٌ كأداة تترك لنفسها أثرا"(10) ، وعلى غرار ما قام به Yves KLEIN في تجربة Les Anthropométries، أين أصبح الجسد" فُرشاة حيّة"(11) ، تؤدّي إلى بصمة ثنائيّة الأبعاد في لوحاته، وسيطها الّلون وحاملُها مسطّحٌ، أمّا في عملي فـ"الأزميل الحيّ" أو "أداة القولبة الحيّة" تؤدّي إلى بصمة ثلاثيّة الأبعاد، وسيطها الأسلاك وحاملُها محجّم، ويكون ذلك بدخول المستعمل، وهذا ما دعا إليه Jésus-Raphael SOTO من خلال أعماله التي تسمح للمتفرّج بالدّخول فيها (Les Pénétrables) وتغيير ملامحها.
ومن هنا يكون عملي في مقالي هذا بمثابة نقطة الالتقاء بين توجّهات ونوايا J.R.SOTO وY.KLEIN ، بين الدّخول في العمل ثلاثيّ الأبعاد وترْك بصمة الجسد أو بصمةِ جُزْء منه (الوجه مثلا) فيه، بين فِعْل النّحت من طرف المتلقّي المستعمل والحصول على نحتٍ لشخصِه، حيث يقوم بفعل النّحت على نفيه وبنفسه، فسواء كانت النّتيجة مُرْضية تؤدّي إلى التّفاعل أو مُضايقَة تؤدّي إلى الانفعال، فإنّ عمليّة وآليّات الانتحات تستوجب من المستعمل أن لا يفصل بين موقعه كَفاعل وكمفعول، مُنْفعلا حينًا ومتفاعلاً أحيانًا.
--------------
سامي قليبي
فنان تشكيلي وأستاذ مساعد بالمعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس
--------------
الإحالات:
1-« Pole machinique et pole corporel »Marie-Françoise POIREE, L’empreinte au 20ièmè siècle, Ed. L’Harmattan, Paris, 1997
2- « Le visage est le chiffre du corps, la clef du corps », Marie-Christine POIREE, in L’empreinte au XXième siècle, op.cit.
3- « Les machines que je crée sont des créatures vivantes qui inspirent, d’un coté de la peur et de l’autre de l’étonnement », Jean TINGUELY, cité par Eduard LUCIE-SMITH in L’Art d’aujourd’hui, op.cit, p320.
4- موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العامّ، منشورات عويدات، بيروت- باريس،1994
5- « L’art d’aujourd’hui’ donne de l’importance au comportement du récepteur » Max-Paul FOUCHET, L’art d’aujourd’hui (Introduction), Ed. Bookking-Int, Paris, 1996.
6- « L’invitation du spectateur à la participation, en installant un espace pour qu’il vienne y faire son pique-nique», François MORELLET, in Petit Dictionnaire des Artistes Contemporains, Ed. Bordas, Paris, 1997, p.177.
7- « L’envie dialogue le travail, le plein dialogue le vide, le corps dialogue l’espace, les matériaux dialoguent le corps », Yves BROCHARD, cité par Michel FRANCOIS,inCatalogue des collections du F.R.A.C,NpdC,(op.cit).
8- « Le gout de l’aventure et le plaisir de la découverte, découverte d’un espace mystère », Rachid FAKHFAKH, Parenthèses ouvertes sur une décennie de pratique picturale /(Variations,(doc. inédit), pp.9-10.
9- « Les figures ne sont plus des personnages mais des objets, le corps est devenu un morceau du travail », Petit Dictionnaire des Artistes Contemporains,(op.cit), p.177.
10- « Le corps est devenu une machine, il est utilisé comme outil qui laisse sa trace » Marie-Christine POIREE, L’empreinte au 20ième siècle, Ed. L’Harmattan, Paris, 1997.
11- « Le corps est devenu un pinceau vivant », Max-Paul FOUCHET, in L’art d’aujourd’hui, (op.cit).
20-03-2019
|