البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

تونس بين جدلية الثورة والثورة المضادة

كاتب المقال سمية الغنوشي - تونس   
 المشاهدات: 2075



تمر هذه الأيام الذكرى الثامنة للثورة التونسية، هذه الثورة التي انطلقت فجأة، من دواخل تونس وأعماقها المهمشة والمفقرة.

لا أحد كان يتصور رحيل ابن علي بتلك السرعة والمباغتة؛ بعد أن حصن نظامه بقوة الأجهزة البوليسية الضاربة، وجيش من المخبرين، وحالة قمع واسعة شملت مختلف المكونات السياسية والاجتماعية.

بدأت الثورة انتفاضة احتجاجية، مدفوعة بالشعور بالفقر والحرمان وسطوة النظام وأجهزته وحزبه الحاكم.

لكنها ما فتئت أن أخذت بعدا سياسيا واضحا مع تبلور الشعارات والمطالبة السياسية بصورة تدريجية ومتزايدة، خصوصا مع انتقالها إلى مراكز المدن الكبرى، وإصرار المتظاهرين على إسقاط النظام، والتصميم على رحيل ابن علي.

وقد برز ذلك بصورة واضحة مع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" المستلهم من قصيدة أبي القاسم الشابي، ثم كلمة "ديقاج" الفرنسية أو "ارحل".

حاول الكثيرون محاكمة الثورة التونسية، ومن بعدها من الثورات العربية، على ضوء نموذج نظري نمطي للثورات مستمد من المثالين الفرنسي والروسي لاحقا.

كانت الخلفية واضحة: الاستنقاص من شأن هذه الثورات. فبما أنها قد خلت من القيادة الطلائعية الملهمة، ومن الهرمية على طريقة يعاقبة الثورة الفرنسية وبلاشفة روسيا، وافتقرت للنظرية الثورية المكتملة، فهي ليست بثورة، بل انتفاضة في أحسن الحالات..

والحقيقة أن الثورة التونسية انطلقت انتفاضة تلقائية ذات مطلبية اجتماعية، ثم غدت ثورة حقيقية وعميقة تقودها قيادات محلية فاعلة.

كما أنها مزجت فيما بعد بين المطلبية الاجتماعية والجذرية السياسية، من خلال الدعوة لرحيل النظام والمطالبة بالحرية والكرامة، شأنها في ذلك شأن كل الثورات الحديثة تقريبا.

ثماني سنوات مرت اليوم على ثورة تونس بكل تقلباتها وتناقضاتها. فكيف نقيّم اليوم مسارها؟ وإلى أين تسير وجهتها؟ ما هي مواطن النجاح والإخفاق؟ وما طبيعة التحديات أمامها؟

واجهت الثورة التونسية، ولا تزال، عواصف هوجاء ومخاطر جمة، بعضها متأت من معطيات الإقليم، وبعضها الآخر من الداخل.

نجح المحور الخليجي المعادي للثورات في كسر موجة الربيع العربي، بعد أن أطاح بثورة 25 يناير وأرجع العساكر بقيادة السيسي إلى سدة الحكم.

ثم دُفِعت ليبيا في أتون حرب أهلية بقوة السلاح، بعد التصميم على صنع سيسي جديد في ليبيا (الجنرال حليفة حفتر).

وخُرِّب مسار الثورة السورية عبر تفجير التناقضات الطائفية والإثنية واستخدام ورقة الاٍرهاب، على خلفية محاربة إيران وإنهاكها في الساحة السورية.

أما اليمن، فغُدر بثورة شبابه باحتضان علي عبد الله صالح، ثم الانقلاب عليه، ودحرجة الوضع صوب حرب داخلية، قبل أن تتدخل القوات السعودية هناك وتجلب الخراب والدمار الشامل.

وظل هذا المحور يعمل ليلا نهارا على ارباك التجربة التونسية عبر التحريض الإعلامي والضخ المالي وبث الفتنة والانقسام بين مكونات الطبقة السياسية.


كل ذلك حتى يثبت هذا المعسكر سرديته الكبرى بأن الديمقراطية لا تصلح للعرب، ولا تفرز غير الفشل والفوضى، وأن الحل الوحيد المتاح أمامهم هو الحكم الفردي والعسكري المطلقان.


لكن، ورغم كل هذه الدسائس، نجح التونسيون (إلى الساعة) في حماية مكتسب الحرية الذي جاءت به ثورتهم، وهذا في حد ذاته لعمري إنجاز عظيم، في مناخ سياسي عربي سمته الأبرز عودة التسلطية، وسياق عالمي يشهد صعودا للشعبوية ورفض الخيارات الديمقراطية.

رغم العقبات الكاداء على طريقهم، تمكن التونسيون من سن دستور جديد ضمن الحريات العامة والخاصة، وفرض إعادة توزيع السلطة للتخفيف من آفة المركزية والحكم الفردي.

وأسس دستور الثورة للتداول السلمي على السلطة؛ عبر انتخابات تتوفر على قدر كبير من الاستقلالية والنزاهة، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ تونس، وتكاد تكون معدومة في العالم العربي.


نجحت الثورة بأقدار نسبية في احتواء قوى الثورة المضادة عبر إعادة تأهيلها واستيعابها داخل منظومة الحكم الجديدة، بتجنب خيار الإقصاء والعزل، مقابل القبول بالمنافسة الانتخابية وإدارة الصراع بالآليات الديمقراطية.

ولكن هذه الأخيرة ما زالت تمتلك أذرعا طولى في الأحزاب والإعلام ودوائر المال والنفوذ، وتتغذى من قوة المواقع والخبرة والإمكانيات المالية، بضخ إقليمي كان وما زال يراهن على إسقاط التجربة برمتها.

كل هذا أتاح لها إعادة التموقع في ساحة لم تخرج منها أصلا. وهذا خيار، على هناته، أقل سوءا وضررا للتجربة التونسية.

ما زالت تعتمل في أحشاء الجسم السياسي التونسي تناقضات بين مكونات الثورة والثورة المضادة. هذه التناقضات تم احتواؤها زمنا عبر التوافقات والتسويات السياسية التي عقدت عام 2014، على أرضية الثورة والدستور الجديد.

لكن الشجرة يجب أن لا تحجب عنا الغابة أو المشهد الكبير خلفها، وهو أن هذا التوافق كان في أساسه مع حزب النداء الذي يمثل خليطا غير متجانس؛ ضم في أغلبه القوى الكارهة للثورة والرافضة للقوى الجديدة.

وقد ظل هذا التناقض يفعل فعله في الواقع التونسي بين منظومة جديدة؛ راهنت على احتواء مكونات المنظومة القديمة وترويضها ديمقراطيا، وقوى قديمة تسعى جاهدة لإعادة الانتشار واحتواء قوى الثورة بآليات الإنهاك السياسي والإعلامي.

وهذا باختصار سبب حال التوتر والتجاذب الذي تطبع الساحة السياسية التونسية اليوم.

تونس أيضا لم تكن بمنأى عن دور المحور الإقليمي، بقيادة السعودية والإمارات، المصمم على غلق ملف ثورات الربيع العربي، وفق معادلة واضحة وبسيطة، وهي إما نحن أو الجحيم:

إما أن تستمر منظومة الاستبداد والحكم الفردي.. أو الفوضى والخراب والحروب الأهلية.

تعيش تونس هذا التقلب بين موجات الثورة، المدعومة أساسا من الفئات الضعيفة والمتضررة من حكم ابن علي، وقوى الثورة المضادة التي تتغذى من مراكز النفوذ والمصالح الكبرى، في تقاطع مع قوى يسروية فوضوية تحركها نوازع العمى الأيديولوجي.


كما أن الثورة التونسية ما زالت تعاني من هوة كبيرة بين المكتسب السياسي وحجم الإنجاز الاقتصادي التنموي.

فالجهات الداخلية المهمشة والمفقرة والفئات الضعيفة من أبناء المدن لم تلمس تحسنا ملحوظا في مستوى عيشها وحياتها اليومية. بل إن التقلبات السياسية والأزمات الاجتماعية قد أثرت على وضعها العام بصورة سلبية، فزادته تدهورا.

كما أن تقلبات الجوار المباشر وخاصة مع ليبيا ما انفكت تلقي بظلالها السلبية أمنيا وسياسيا واقتصاديا على تونس، بحكم الترابط الوثيق بين البلدين.

والحقيقة أن فشل التونسيين في حل هذه المعادلة بين السياسي والتنموي يجعل تجربتهم هشة وضعيفة. لكن ما يدعو لبعض التفاؤل هو أنهم رغم كثرة تذمرهم من الوضع الحالي، عازمون على الحفاظ على منجز ثورتهم، مدركون حجم التربص الإقليمي بها.

كما أن الطبقة السياسية شديدة الوعي بالأولوية الاقتصادية الاجتماعية بعد استكمال بناء المؤسسات السياسية.

فهل تنجح الثورة في استكمال الأميال الأخيرة المتبقية والوصول بتونس لبر الأمان؟

وهذا رهان مهم ليس لتونس فقط، بل للعمق العربي الأوسع المبتلى بالأزمات والحروب الأهلية، وتغول حكومات العنف والتسلط.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، الثورة التونسية، الثورة المضادة،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 17-01-2019   المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
سعود السبعاني، رافد العزاوي، سامح لطف الله، فوزي مسعود ، فتحـي قاره بيبـان، أحمد بن عبد المحسن العساف ، محمود سلطان، علي عبد العال، د. مصطفى يوسف اللداوي، د. خالد الطراولي ، رمضان حينوني، حسن الطرابلسي، مصطفى منيغ، حسني إبراهيم عبد العظيم، مصطفي زهران، صالح النعامي ، الهيثم زعفان، د. صلاح عودة الله ، فتحي الزغل، صفاء العراقي، د. عادل محمد عايش الأسطل، أبو سمية، ماهر عدنان قنديل، عمر غازي، صفاء العربي، ضحى عبد الرحمن، محمد الياسين، د- هاني ابوالفتوح، د.محمد فتحي عبد العال، عبد الله زيدان، سيد السباعي، حميدة الطيلوش، أنس الشابي، د- جابر قميحة، علي الكاش، إياد محمود حسين ، د - شاكر الحوكي ، عبد الله الفقير، عبد الغني مزوز، د - المنجي الكعبي، أحمد ملحم، محمود فاروق سيد شعبان، د. أحمد محمد سليمان، أشرف إبراهيم حجاج، محمد أحمد عزوز، وائل بنجدو، محمد شمام ، ياسين أحمد، سفيان عبد الكافي، تونسي، د - صالح المازقي، عمار غيلوفي، صلاح المختار، نادية سعد، كريم فارق، منجي باكير، جاسم الرصيف، عواطف منصور، أحمد الحباسي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، حاتم الصولي، محمد عمر غرس الله، عبد الرزاق قيراط ، صلاح الحريري، محمد العيادي، خالد الجاف ، فتحي العابد، د. طارق عبد الحليم، الهادي المثلوثي، د- محمود علي عريقات، د. أحمد بشير، محمود طرشوبي، الناصر الرقيق، محمد اسعد بيوض التميمي، رحاب اسعد بيوض التميمي، خبَّاب بن مروان الحمد، مراد قميزة، سلام الشماع، رشيد السيد أحمد، أ.د. مصطفى رجب، رافع القارصي، أحمد النعيمي، د - عادل رضا، سليمان أحمد أبو ستة، د- محمد رحال، مجدى داود، رضا الدبّابي، محمد الطرابلسي، إسراء أبو رمان، العادل السمعلي، د - مصطفى فهمي، عراق المطيري، د - محمد بنيعيش، يزيد بن الحسين، د. عبد الآله المالكي، حسن عثمان، عزيز العرباوي، سلوى المغربي، فهمي شراب، د - الضاوي خوالدية، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، طلال قسومي، إيمى الأشقر، محرر "بوابتي"، يحيي البوليني، صباح الموسوي ، د - محمد بن موسى الشريف ، المولدي الفرجاني، سامر أبو رمان ، أحمد بوادي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، كريم السليتي، محمد يحي،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة