تونس هي مركز للتطرف الدولي وهي كذلك أكبر مصدّر للدواعش في العالم بل هي كذلك المغذي الرئيسي لمجموعات العنف العابر للحدود. تونس هي كذلك أكبر مصدّر لمقاتلات "جهاد النكاح" في سوريا والعراق وأغلب الجبهات الساخنة في المنطقة العربية ثم إن أغلب قيادات الجماعات الإرهابية تأتي من تونس. وهو ما يجعل من هذه البلاد دولة فاشلة ومرتعا للفوضى وانعدام الأمن.
هذه السرديات وغيرها كثير جدا هو ما تعج به عمدا منصات الإعلام العربي الرسمي أو ما اصطلح عليه على مواقع التواصل الاجتماعي " إعلام العار العربي" بأبواقه المختلفة. لكن المشكلة الأساسية التي تواجه القارئ المتتبع لا تتعلق بمدى صدق هذه السرديات بل تتعلق أساسا بالأسباب الأساسية وراء رواجها وانتشارها والهدف من التنصيص عليها عربيا ودوليا وحتى تونسيا. بادئ ذي بدء لا يمكن فهم الخلفيات الحقيقية وراء هذه الادعاءات دون التذكير بالسياق الخاص للتجربة التونسية وبخصائصه الفارقة مقارنة ببقية المنوالات العربية الأخرى:
تونس هي مهد ربيع الثورات وهي الأرض التي منها انطلقت حركة التغيير المباركة التي عصفت بأسس النظام الاستبدادي العربي وأسقطت ثلاثة من أهم أركانه في تونس وفي ليبيا وفي مصر. فهي بذلك مركز من مراكز الحركة الأساسية في المنطقة العربية ومحور من محاور التردد والدفع رغم صغر مساحتها وضعف عدد سكانها ووزنها الاقتصادي. إنها مصدر حيوي يهدد الهيكل السياسي للنظام الرسمي العربي بما هو وكيل للمنظومات الاستعمارية العالمية.
ثوريا نجحت تونس في الصمود أمام موجة الثورات المضادة التي استعادت كل المجالات الثورية الأخرى فعجزت الدولة العميقة فيها عن تحقيق المطلوب منها عربيا ودوليا بتصفية المنجز الثوري وإسقاط المسار الانتقالي في العنف والدم كما حصل ذلك في مصر وليبيا وسوريا. كما نجحت التجربة التونسية في تنظيم كل الاستحقاقات الانتخابية من رئاسيات وبرلمانيات وصولا إلى الانتخابات البلدية الأخيرة مؤكدة بذلك عن نضج سياسي كبير وعن قدرتها على الذهاب بعيدا في مسار التغيير الذي يصفي تدريجيا الإرث الاستبدادي ويؤسس للدولة المدنية في إطار ديمقراطي وبمعايير دولية.
بناء عليه فإن التجربة التونسية هي تجربة واعدة بكل المقاييس ورغم كل العثرات إذ تحمل في طياتها القدرة على تأسيس أول نظام سياسي عربي ديمقراطي يكذّب سرديات الاستبداد التي ترى أن قدر المنطقة العربية هي الأنظمة الشمولية وأن الشعوب العربية شعوب غير قابلة للديمقراطية أو هي غير ناضجة لممارستها. هذه القدرة على تسفيه الأطروحات الاستبدادية والاستعمارية ووسم الشعوب العربية والمسلمة بالدونية المدنية هي التي تشكل جوهر الخطر القادم من التجربة التونسية على النظام السياسي الرسمي العربي. تأسيسا على ما سبق فإن التجربة التونسية تشكل خطرا عظيما على كل القوى والهياكل والأبنية التي راهنت على موت الشعوب العربية والتي ربطت بين هذا الموت والعجز عن الفعل وبين مواصلة نهب ثروات الأمة والإبقاء عليها سجينة المنظومات القمعية التي تحكمها.
بعد فشل كل المحاولات الانقلابية كان لزاما على القوى المضادة للثورات السعي إلى ضرب النموذج التونسي وشيطنته وشيطنة كل من يرفض شيطنته أو كل من يمده بمصادر الصمود والمقاومة. في هذا الإطار تتنزل السرديات التي بدأنا بهذا هذا المقال وهي التي جعلت من تونس ومن التجربة التونسية مصدرا للشرور ومصدّرا للفوضى والخراب لأن شيطنة النموذج هدف عزيز يمهّد لنزع كل أنواع التعاطف والتحمس لهذه التجربة الوليدة التي قد تلهم غيرها بالنسج على منوالها واحتذاء طريقها وتتبع مساراتها.
أما عن علاقات المعطيات التي يروّج لها إعلام العار العربي عن التجربة التونسية بالواقع فكل من يعرف تونس وشعب تونس جيدا يدرك للوهلة الأولى أن كل الادعاءات كاذبة ومغرضة. كيف يمكن أن تتحوّل الدولة التي طالما نُعت أهلها بأنهم شعب متعلم مثقف خلوق إلى دولة إرهابية تصدّر الإرهابيين والدواعش؟ وإذا كان ذلك كذلك فهذا حجة للثورة لا عليها لأن هاته الأجيال هي نتيجة التعليم والتربية الاستبدادية لنظام القمع في عهد الرئيس الهارب بن علي. ثم إن كل مراحل الثورة التونسية ومسارها الانتقالي برهنت بما لا يدع مجالا للشك على سلمية شعب تونس رغم كل المجازر وكل العنف الذي مورس عليها طوال عقود من عمر المرحلة الاستبدادية التونسية. لم تنصب ثورة تونس المشانق ولا انتقم الضحايا من جلاديهم ولا سُحل المجرمون في الشوارع كما فعلت كل النماذج الثورية عبر التاريخ بل إن رموز الاستبداد أنفسهم لم يصدقوا في فترة ما أن يصفح عنهم شعب تونس بهذه السهولة.
الدرس الأساسي من كل هذه القضية إنما يتمثل في أن الهزات العنيفة هي وحدها القادرة على كشف معدن الشعوب وطبيعة علاقتها بالعنف سواء بالنزوع إليه أو بالترفّع عن ممارسته ونبذه. إن طبيعة المجتمع التونسي وتركيبته الداخلية وعلاقة مختلف المكونات ببعضها هو الذي يفسر الطابع السلمي الغالب على حركة هذه المجموعة البشرية وردود أفعالها في اللحظات التاريخية الحاسمة كما أن نجاحه في التخلص من الرواسب الطائفية والقبلية والعشائرية هي التي تفسر أيضا غياب النزعة الدموية عنه وعن ردود أفعاله عامة.
لا يخلو مجتمع ما من نزعات العنف والتحريض عليه وتغذيته سواء في شكله الفردي أو الجماعي خدمة لأجندات سياسية إقليمية ودولية ولا يمكن أن تحصّن مجموعة بشرية كاملة ضد خلايا التوظيف والتجنيد بشكل نهائي وهو ما يفسر تورط بعض العناصر التونسية في عمليات إرهابية هنا أو هناك. لكن السعي إلى توظيف الأعمال الفردية المعزولة الشاذة من أجل شيطنة شعب بكامله فتلك لعمري خطة بائسة تعيسة هدفها شيطنة الثورة الأكثر سلمية في التاريخ الحديث وهي ثورة الشعوب العربية انطلاقا من تونس.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
18-07-2018 / 08:27:12 طارق المنضوج
يتبع, تكملۃ للتعليق الأول .
... و لذلك الديمقراطيۃ التونسيۃ تجمع حولها قوی كثيرۃ من أعداء الشعوب و الثورات , من أجل الحريۃ و الكرامۃ . . الثورۃ التونسيۃ عبر قيمها الإنسانيۃ و أهدافها المعلنۃ , حريۃ , كرامۃ , عدالۃ إجتماعيۃ , ديمقراطيۃ , مرشحۃ لإحتواء كل أطياف المجتمع , ليكون الوطن المشترك , تونس, حاضن لكل أبتاءه و بناته . . هذا التجند الإعلامي لتشويه المجتمع التونسي هو في إيطار ضرب الثورۃ و الديمقراطيۃ الناشءۃ . . قوی الثورۃ المضادۃ يعرفون جيدا أنه لما لما يُضرب المسار الديمقراطي , يضرب بالأساس المسار التنموي و مسار القطع مع سياسات التهميش . . و هكذا يمكن مواصلۃ السيطرۃ علی الثراوات , و علی المصير المشترك . .
و هذا الموضوع سيبقی مفتوح ضرورۃ لأهميته و بما أنه يمس الفهم للظواهر الإجتماعيۃ , الإنتماءيۃ , الإنحرافيۃ , إرهابيۃ كانت أو غيرها .
18-07-2018 / 00:00:50 طارق المنضوج
الإرهاب صناعۃ الكبار لقتل الشعوب .
أعتقد أن جلنا يلتقي علی أن الإرهاب كفكرۃ محاربۃ و مجموعات لم ينشأ من عمق شعبي ناقم علی المجتمع و يريد التخلص من الأنظمۃ الدكتاتوريۃ . . الإرهاب في العراق , في سوريا , في ليبيا , في الدول الغربيۃ و تونس , ... لم يأتي ليعالج مظلوميۃ معينۃ .. و بذلك حيث وجد , إلا و إرتبط في عملياته و أهدافه بتقسيم المجتنع , قتل الأبرياء , و إفساد العيش المشترك العام , في كل المجتمعات التي ضرب فيها الإرهاب , بطريقۃ أو أخری . . كثير من أبناء الطبقات المهمشۃ كانوا أسهل إستجابۃ نفسيۃ لتقبل أفكار الإرهاب , لكن أيضا كثير من أصحاب الشهاءد العليا إلتحقوا بالتنظيمات الإرهابيۃ , و ليست الجنۃ الموعودۃ و الحور العين , هما الأمل الذي جعلهم يضعون خدماتهم تحت تصرف التنظيمات الإرهابيۃ . . و هنا كثير من الأسءلۃ تطرح . . هنا الكلام يطول , و التهميش الإجتماعي , الجغرافي , التربوي , ... عبر عقود من السياسات العموميۃ و التنمويۃ الجاءرۃ و الغير عادلۃ في حق عديد من أبناء المجتمعات التي تحكمها دكتاتوريات أو ديمقرطيات عريقۃ لكن توظف التمييز الإجتماعي , الإنتماءي , ... و هذا الجانب تكلم عنه سيادۃ الكاتب .. كلنا يعلم أن الجماعات الإرهابيۃ خدمت لبعيد إرادۃ تقسيم الدول الكبری , حتی تكون دويلات تستطيع العولمۃ التوسعيۃ المتوحشۃ التعامل معها و فرض شروطها , في السيادۃ علی الثروات , علی الماليۃ العموميۃ , علی القرار السيادي , و علی المصير القومي . فتلك السيادات تكون في يد أصحاب مشروع العولمۃ , من شركات عابرۃ القارات , و دول إمبرياليۃ , سابقا كانت إستعماريۃ . تقسيم سوريا سيكون لصالح من إذا تحقق ؟ كذلك بالنسبۃ للعراق, اليمن , ... في مصلحۃ العولمۃ الرأسماليۃ التوسعيۃ المتوحشۃ .. و هذا بالضبط و نفسه ما وقع في دول أوروبا الشرقيۃ بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي .. كانت حرب العرقيات , و حتی الأديان . وهو نفسه يحدث منذ سنوات في سوريا العراق اليمن بإسم المذاهب , ثم أيضا داعش هاجمت و قتلت و أسرت أصحاب ديانات غير الإسلام , مسيحيين , زيديين .. كل هذا حتی نجمع كل التوابل الازمۃ لشيطنۃ شعوب عاشت آمنۃ متظامنۃ عدۃ قرون .. أجندات العولمۃ الرأسماليۃ التوسعيۃ لا يهمها من يموت .
يجب أن نفهم أن النظام الرأسمالي العالمي إستعمل عديد أسلحۃ لبسط هيمنته علی الثراوات التي علی الكوكب , و علی مصير الشعوب . من هذه الأسلحۃ :
- الإستعمار ,
- الإمبرياليۃ ,
- العولمۃ .
في كل الحالات و الفترات , كانت الآلۃ العسكريۃ تخدم بطريقۃ أو أخری.
تحيا الثورۃ التونسيۃ .
تحيۃ للكاتب .
18-07-2018 / 08:27:12 طارق المنضوج