البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

ابن جني والمتنبي: تآلف العبقريتين

كاتب المقال أحمد البان   
 المشاهدات: 1507



يعرف المهتمون بالأدب أنه كانت هناك آصرة ود قوية بين أبي الفتح عثمان بن جني أبرز علماء اللغة في القرن الرابع الهجري وبين أبي الطيب المتنبي أشهر شعراء العربية المعاصر له، وهي علاقة مشهورة جدا، وقد نقلها كل من ترجم للرجلين من أصحاب الطبقات، ولعل أصرح ذلك قول الثعالبي في اليتيمة، يعني ابن جني: “صحب المتنبي دهرا طويلا”.

ورغم شهرة تلك العلاقة بين الرجلين إلا أن قليلين كلفوا أنفسهم عناء البحث فيما وراء تلك العلاقة من دوافع موضوعية وذاتية، فما الذي يجمع شاعرا يتنقل بين البلاطات وعالما منقطعا لدروسه ومباحثه، وقد عنَّ لي بعد روية أن هناك سببان ربما يكونان الخيط الذي نظم تلك الشخصيتين فائتلفتا تلك الألفة القوية.

أ-تآلف العبقريتين

فقد كان الرجلان عبقريي زمانهما، وجد كل منهما في الآخر نُشْدته، كان ابن جني يبحث عن شاعر يفتق اللغة فوجده في المتنبي، وكان المتنبي يبحث عن عالم واسع العطن يؤطر أبنيته وتراكيبه الغريبة في متن اللغة الفصيحة فوجده في ابن جني.

ب- الخروج على السائد ونبذ التقليد.

فكلا الرجلين كان يبحث عن جديد يبدعه. لم يتبع ابن جني في آرائه اللغوية أيًّا من المدرستين السائدتين؛ الكوفة والبصرة، بل اختط لنفسه -مع آخرين- مذهبا سماه شوقي ضيف في أخريات الدهر بـ”مذهب البغداديين”، ولم يكن المتنبي آخذا نفسه بما درج عليه الشعراء قبله من سنن في التعبير والتركيب بل كان مذهبه قريحتَه،

تلك العبقرية المتقدمة على زمانها وتلك الروح الثورية الطُّلَعة للتجديد مما يمكن أن يعتبر من أسرار الألفة وقوة العلاقة بين الرجلين اللذين لا يردان نفس المنهل في ظاهر الأمر.

ولم تكن ثقة ابن جني في المتنبي مقتصرة على الشعر واللغة بل تجاوزت ذلك إلى توثيق روايته وتزكية خلقه، فقد منحه درجة (الصدق)، وليس ذلك بالشيء القليل من عالم ثقة رزين مثل أبي الفتح يعيش ذلك القرن الذي استوى فيه الإسناد وعلم الرجال على سوقه، ويدرك خطر التوثيق في النقل وما يترتب عليه، وقد نقل هو نفسه عن المتنبي أشياء من كلام الأعراب واحتج به في بعض مقارباته اللغوية، قال: “حدثني المتنبي شاعرنا -وما عرفته إلا صادقًا-“.

ويظهر أن ابن جني كان حريصا على إقناع علماء الصرف والنحو بأن المتنبي يصدر عن علم مكين فيما يعتسفه من اللغة ، وقد كانت بينه وبينهم جفوة سبَبُها ما يرتكبه في شعره من زيغ إعرابي وخروج على قواعد الاشتقاق الصرفي المعتادة، وقد كان أبو علي الفارسي أحد هؤلاء الذين يجفون المتنبي لذلك السبب ولما في زيه وحاله من كبرياء، وكان ابن جني غير راض بأن يكون شيخه جافيا لصديقه الذي يكبره.

وقد روى البديعي في الصبح المنبي قصة طريف تذكر سعي ابن جني لإقناع شيخه أبي علي بالمتنبي، قال:

“كان أبو علي الفارسي إذ ذاك بشيراز وكان ممر المتنبي إلى دار عضد الدولة على دار أبي علي الفارسي، وكان إذا مر به أبو الطيب يستثقله على قبح زيه، وما يأخذ به نفسه من الكبرياء، وكان لابن جنى هوى في أبي الطيب، كثير الإعجاب بشعره، لا يبالي بأحد يذمه أو يحط منه. وكان يسوءه إطناب أبي علي قي ذمه، واتفق أن قال أبو علي يومًا اذكروا لنا بيتًا من الشعر نبحث فيه، فبدأ ابن جني وأنشد:

حُلْتِ دون المزار فاليوم لو زرتِ**لحال النحولُ دون العِناق

فاستحسنه أبو علي، واستعاده، وقال:

لمن هذا البيت؟ فإنه غريب المعنى، فقال ابن جنى: للذي يقول:

أزورهم وسوادُ الليل يشفعُ لي***وانثنى وبياضُ الصبح يُغرى بي

فقال والله هذا حسن بديع جدًا، فلمن هما؟ قال للذي يقول:

أمضى إرادتهِ فسوف له قدٌ***واستقرب الأقصى فثَم له هُنا

فكثر إعجاب أبي علي، واستغرب معناه، وقال لمن هذا؟ فقال ابن جني: للذي يقول:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا***مضرُّ كوضع السيف في موضع الندى

فقال وهذا والله، وقد أطلت يا أبا الفتح، فأخبرنا من القائل؟ قال هو الذي لا يزال الشيخ يستثقله، ويستقبح زيه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام اللب؟

قال أبو علي: أظنك تعني المتنبي؟ قلت نعم.

قال والله لقد حببته إلي”[1].

وقد أثمرت هذه الخطة وتوطدت العلاقة بين أبي علي الفارسي والمتنبي بعد ذلك وكان ينزل عنده أحيانا، وقد منح أبو علي الفارسي المتنبي شرف إدراج شعره في تذكرته التي لا يكتب فيها إلا مختاراته ومنتقياته، والأبيات هي قول المتنبي:

سأطلبُ حقي بالقنا ومشايخ***كأنهمُ من طُول ما التثموا مُردُ

ثقال إذا لاقوا خِفافٍ إذا دُعوا***كثير إذا شَدُّوا قليل إذا عُدُّوا”

وقد قال الربعي بعدما سرد قصة كتابة البيتين في التذكرة: “فهما مثبتان في التذكرة بخطي، قال: وهذا من فعل الشيخ أبي علي الفارسي عظيم، قال الربعي: وكان قصد أبي علي الفارسي نفعه لا التأدب والتكثّر، وأيّا قصد فهو كثير”[2].

وقد كان ابن جني أحد أبرز رواد حلقة أبي حمزة البصري التي كانت صالونا أدبيا بمفهومه المعاصر خاصا بشعر المتنبي، صالونا أقامته الطبقة الوسطى من المثقفين في بغداد لما جاء المتنبي قادما من مصر وأساءت الأوساط الرسمية في بغداد استقباله، وفيها أملى الشاعر آخر نسخة منقحة من ديوانه إذ كانت وفاته بعد ذلك بسنين معدودة.

وحين توفي المتنبي كان صاحبه أبو الفتح حريصا على أن يوفيه حق الصحبة بعد موته، فوقف مدافعا عنه في وجه الحملة الشرسة التي كان خصوم المتنبي يقودنها، وكان ابن جني أول من شرح ديوان صديقه في كتابين أحدهما: “الفسر الكبير” والثاني: “الفسر الصغير، وقد ترك الفسران أثرا بالغا في الشروح التي جاءت بعدهما، فلم يستطع أحد من شراح ديوان المتنبي تجاوز ما كتبه أبو الفتح ابن جني عنه.

تلك إطلالة موجزة عن العلاقة بين اثنين من عباقرة القرن الرابع الهجري ألفت بينهما العبقرية وإن باعدت بينهما مجالات الاشتغال ومسارات الحياة، فقد كان أبو الفتح عالما يأنس بالتنقيب عن حل العويصات وبنشر العلم والمعرفة، بينما كان المتنبي شاعرا يجد أنسه في ضجيج موائد البلاطات ومواكب الأمراء.

---------
[1] ـ الصبح المنبي عن حيثية المتنبي 161
[2] ـ بغية الطلب في أخبار حلب 2/671


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

ابن جني، المتنبي، البلاغة، اللغة العربية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 3-07-2019   المصدر: إسلام أو لاين

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
أحمد ملحم، أحمد بن عبد المحسن العساف ، محمد يحي، إيمى الأشقر، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، صفاء العربي، فتحـي قاره بيبـان، د. خالد الطراولي ، عمار غيلوفي، د- هاني ابوالفتوح، خالد الجاف ، ياسين أحمد، ضحى عبد الرحمن، تونسي، الهيثم زعفان، د. مصطفى يوسف اللداوي، د - المنجي الكعبي، طلال قسومي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، مراد قميزة، صباح الموسوي ، سليمان أحمد أبو ستة، سلام الشماع، رافد العزاوي، نادية سعد، د. عادل محمد عايش الأسطل، د. صلاح عودة الله ، سيد السباعي، أبو سمية، إياد محمود حسين ، عبد الله الفقير، سامح لطف الله، علي الكاش، د. أحمد محمد سليمان، رمضان حينوني، د - محمد بن موسى الشريف ، مصطفى منيغ، محمد أحمد عزوز، محمد عمر غرس الله، المولدي الفرجاني، محمد اسعد بيوض التميمي، عبد الرزاق قيراط ، أ.د. مصطفى رجب، د.محمد فتحي عبد العال، عمر غازي، عواطف منصور، د- محمود علي عريقات، حسن الطرابلسي، د - الضاوي خوالدية، فوزي مسعود ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، مجدى داود، محمود سلطان، يزيد بن الحسين، منجي باكير، سفيان عبد الكافي، د. أحمد بشير، الهادي المثلوثي، سعود السبعاني، أنس الشابي، جاسم الرصيف، أحمد الحباسي، رضا الدبّابي، محمود فاروق سيد شعبان، إسراء أبو رمان، صلاح المختار، كريم فارق، د - عادل رضا، محمد الياسين، د. عبد الآله المالكي، العادل السمعلي، د- جابر قميحة، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، محمد شمام ، د- محمد رحال، د - محمد بنيعيش، رحاب اسعد بيوض التميمي، عبد الغني مزوز، حسني إبراهيم عبد العظيم، عزيز العرباوي، محمود طرشوبي، عبد الله زيدان، د. طارق عبد الحليم، سلوى المغربي، فهمي شراب، أشرف إبراهيم حجاج، سامر أبو رمان ، فتحي الزغل، وائل بنجدو، ماهر عدنان قنديل، كريم السليتي، محرر "بوابتي"، د - مصطفى فهمي، محمد العيادي، حميدة الطيلوش، فتحي العابد، أحمد بوادي، علي عبد العال، صالح النعامي ، د - صالح المازقي، رافع القارصي، صلاح الحريري، حسن عثمان، الناصر الرقيق، صفاء العراقي، يحيي البوليني، رشيد السيد أحمد، حاتم الصولي، عراق المطيري، أحمد النعيمي، د - شاكر الحوكي ، مصطفي زهران، خبَّاب بن مروان الحمد، محمد الطرابلسي،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة