يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في تاريخنا العلمي والفكري كثيرا ما اقترن التألق العلمي بعزة النفس والشموخ والكبرياء المشروع.
لقد كان الخديوي عباس حلمي الثاني (1291-1363هـ/1874-1944م) يقول عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة (1266-1323هـ/1849-1905م) (إنه يدخل علي كفرعون) وكان جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/1838-1879م) يداعب تلميذه محمد عبدة فيقول له: (قل لي ابن أي ملك من الملوك أنت) ؟!
ولقد ورث الشيخ محمد مصطفى المراغي (1298-1364هـ/1881-1945م) عن أستاذه محمد عبدة (مع العلم والاستنارة، شموخ العلماء الكبار)
لقد قامت الثورة المصرية الكبرى عام 1919 والشيخ المراغي يعمل قاضيا بالسودان..وكانت السلطة الحقيقية في السودان للاستعمار الإنجليزي –الذي قامت الثورة ضده في مصر- ورغم حساسية وظيفة القضاء إلا أن المراغي قاد الثورة الشعبية في السودان ضد الإنجليز وأصدر مع الثوار الذين قادهم نشرة عنوانها "اكتتاب لمنكوبي الثورة بمصر" كانت بمثابة صوت الثورة المصرية في السودان .. وطلب منه نائب الحاكم العام للسودان المستر(دن) إيقاف النشاط الثوري فرفض المراغي..فلما قال له مستر (دن):
- إني أكلمك كرئيس! رد عليه الشيخ غاضبا:
- كنت أفهم أنك تعلم واجبك .. إنه ليس لي رئيس هنا فإن الحاكم العام معين بأمر ملكي، وهو الحاكم السياسي، وأنا معين بأمر ملكي من الخديوي، وأنا قاضي القضاة، ولا إشراف لأحد منا على الآخر..
ولما بلغت أخبار هذا الحوار إلى الحاكم العام الإنجليزي للسودان .. علق عليه بالقول: لقد قلت للإنجليز هنا وفي لندن: إن الشيخ المراغي لا يمكن مناقشته، أو التغلب عليه ومن الصعب إقناعه إن الشيخ المراغي يعد من دهاة العالم !..
ولقد كتبت صحيفة (التايمز) البريطانية معلقة على نشاط المراغي في السودان، فقالت: أبعدوا هذا الرجل فإنه أخطر على بلادنا من ويلات الحرب.
ولقد مضى الشيخ المراغي في قيادة العمل الثوري بالسودان فقاد –وهو قاضي القضاة- مظاهرة كبيرة .. وأخذ يجمع التوقيعات من المصريين والسودانيين تأييدا لزعامة سعد زغلول باشا (1273-1346هـ/1857-1927) للثورة وتوكيلا له ولصحبه في المطالبة بالاستقلال.
وتصاعد غضب الإنجليز على النشاط الثوري للمراغي .. فاقترح بعضهم سجنه .. وأقترح آخرون اعتقاله ونفيه.. لكن الحاكم العام للسودان خشى غضبة الشعب السوداني فقرر منح المراغي إجازة عاجلة ومفتوحة .. فعاد إلى مصر عام 1919 ، ليواصل دعمه لثورة مصر من أجل الاستقلال.
ومع هذا الشموخ في مواجهة الاستعمار والطغيان كان الشيخ المراغي نموذجا لتواضع كبار العلماء.. سئل عام 1941.. وهو شيخ للأزهر من أحد الصحفيين: ما هي عيوبنا؟ .. فقال: إنها كثيرة ولكن، لماذا تسألني عن عيوب الناس؟. سلني عن عيوبي أنا فإنني وأنا في هذه السن المتقدمة وفيما أنا عليه من ضعف الصحة أقبل عملا من الأعمال العامة وكان يجب أن أتركه لشباب يستطيعون تحمل أعباءه أكثر مما أستطيع أنا .. وهذا عيب كثير ممن لا يتركون أماكنهم لمن هم أصلح منهم، ولو أن كل واحد منا ترك مكانه لمن هو أجدر به لأصبحنا في خير عظيم.
أما بقية عيوبي فإن الله يعرفها وأسأله تعالى أن يغفرها لي..!
هكذا اقترن الشموخ بالتواضع.. واقترنت العزة بنقد الذات في حياة هؤلاء العلماء الأعلام