الوسطية لا التميعية
د. جعفر شيخ إدريس
قلت في مقال الشهر الماضي: إن بعض الناس ـ اليوم ـ يعمدون إلى ألفاظ عربية إسلامية فيفرغونها من مدلولاتها الإسلامية، ثم يحشونها بمدلولات كلمات غربية يجعلونها ترجمة لها. من هذه الكلمات: كلمة الوسطية، التي شاع في هذه الأيام استعمالها عند أمثال هؤلاء بمعنى لكلمة moderate. نعم، إن المعنى اللغوي لكلمة مودريت قريب من معنى المعتدل وغير المتطرف، لكن ينبغي أن نتذكر أن الاعتدال والتطرف من المفاهيم النسبية التي لا يتضح المقصود منها إلا حين توضع في إطـارها التصـوري؛ فالله ـ تعالى ـ يدعونا لأن نأخذ ديننا بقوة، وأن نعتقد أن ما جاءنا به رسوله هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن ما خالفه لا يكون إلا باطلاً وضلالاً. لكن المسلم المودريت عند الغربيين ولا سيما الأمريكان، هو الذي لا يأخذ دينه بقوة، بل يجامل فيه ويداهن، ويغير ويبدل بحسب ما تقتضيه أهواء الثقافة الغربية، بل ومصالحها السياسية والاقتصادية. فهو إنسان لا يأخذ النصوص ـ ولاسيما نصوص السنة النبوية ـ مأخذ الجد إلا ما كان منها موافقاً لهواه، ويرى الحوار مغنياً عن جهاد القتال، فيطلب من المسلمين أن يظلوا يحاورون ويحاورون، ويحاورون... حتى لو كانت قنابل من يحاورونهم تتـسـاقـط على رؤوسهم، ولا يدعوهم لأن يحاوروا فحـسب؛ بل يطلب منهم أن يكون حوارهم مع الآخر مبنياً على الاعتراف به. فهو حين يحاور يقول للكافر أو المنافق متلطفاً: هذا رأيي وهذا اعتقادي، ولا حرج عليك في أن ترى غيره، وتعتقد سواه، فنحن جميعاً طلاب حقيقة، يدرك كل منا قدراً منها، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه قد وجدها كلها.

مما يدلك على نسبية هذه المفاهيم أن بوش لم يكن يرى نفسه، ولا رآه الغربيون، بل ولا رآه عبيدهم ممن يدعون الليبرالية في بلادنا، لم يره واحد من هؤلاء متطرفاً حين ألقى قبل أيام خطاباً في غاية الحماسة، دعا فيه دفعة من الضباط من خريجي الأكاديمية العسكرية بكلية وست بوينت: أن يستعدوا لقتال عدوهم ـ الإسلام الراديكالي ـ لأن هذه ستكون أعظم مهامهم، ولا حين قال لهم: إن أمريكا لن تنتظر حتى تهاجم، بل ستبادر بالهجوم على من يستعد للهجوم عليها، وتقضي عليه في الخارج لئلا تضطر لمواجهته ف...