البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبمقالات رأي وبحوثالاتصال بنا
 
 
   
  الأكثر قراءة   المقالات الأقدم    
 
 
 
 
تصفح باقي إدراجات الثورة التونسية
مقالات الثورة التونسية

الرئيس والعميد و"فلسفة التشريع"

كاتب المقال عادل بن عبد الله - تونس   
 المشاهدات: 2283



في أوائل هذا القرن، وعلى عهد المخلوع، أصدر العميد الصادق بلعيد كتابا وسماه بـ"القرآن والتشريع: قراءة جديدة في آيات الأحكام". وهو كتاب يعكس ما يسميه أنطونيو غرامشي بـ"الخط التحويلي" الذي تقوم السلطة بمقتضاه بـ"الهيمنة على الثقافة كوسلية للإبقاء على الحكم في المجتمع الرأسمالي". فالسلطة تقوم بتحويل بعض "المثقفين التقليديين" (مثل أساتذة الجامعة) إلى "مثقفين عضويين"، أي إلى ناشرين لأيديولوجيتها ومدافعين عن شرعيتها ومشروعيتها.

وقد كان "تجديد التراث" جزءا من استراتيجية سلطة المخلوع في صراعه ضد أطروحات الإسلاميين الطاعنة في المنظومة التشريعية وما يؤسسها من فلسفة سياسية داخل الدولة- الأمة في لحظتيها الدستورية والتجمعية، كما كان "العميد" المختص في القانون أحد الجامعيين الذين بحثوا في مقاصد الشريعة ليؤكدوا تهافت "المشروع الإسلامي" وصوابية "المشروع التحديثي" وترسانته التشريعية الموافقة لـ"روح الإسلام".

كان "العميد" الصادق بلعيد أحد الجامعيين - أو أحد تقنيي المعرفة في المجال القانوني - الذين احتاجت الدولة لخدماتهم لشرعنة النظام الحاكم والدفاع عن خياراته السياسية والثقافية، وكذلك لتبرير "الانقلاب على الدستور" عبر تنقيحات كانت تهدف إلى تأبيد حكم المخلوع وإعادة إنتاج التجربة البورقيبية (الحكم مدى الحياة) دون التنصيص على ذلك صراحة في الدستور. وبعد الثورة، كان "العميد" أحد "الخبراء" الذين لم يُخفوا انحيازهم لورثة المنظومة القديمة، فساهم في تغذية الانقسام السياسي على أساس التقابل بين الحداثيين والإسلاميين. وعاد بذلك إلى ممارسة دوره القديم باعتباره جزءا من النخب الحداثية التي تتبنى بصورة ضمنية أو صريحة مقولة "الاستثناء الإسلامي"، أي تلك النخب اللائكية التي تصادر على استحالة التوفيق بين الإسلام (وبالتبعية الإسلاميين) وبين الديمقراطية والفلسفة السياسية الحديثة.

إن المواقف السياسية لأغلب المنتمين للنخب "الحداثية" بمختلف مرجعياتهم الأيديولوجية؛ ليست فقط تعبيرا عن مخاوف من بروز نخب بديلة أو من فقدان المكاسب المادية والمكانة الاعتبارية بظهور نخب متحررة من هيمنة النسق الاستبدادي ومرتبطة بالثورة وباستحقاقاتها، بل هي مواقف ترجع أساسا إلى مضمرات أيديولوجية راسخة ترتبط بـ"اللائكية الفرنسية" وبمبادئ الجمهورية الفرنسية؛ التي لم يكن "النمط المجتمعي التونسي" وأساطيره التأسيسية إلا مجرد تَونسة مشوّهة لهما.

ونحن لم نتحدث عن العميد الصادق بلعيد إلا باعتباره عينة أو نموذجا من النخب "الوظيفية" التي حافظت على الأدوار ذاتها رغم تغير النخب الحاكمة، بل رغم الانكسار البنيوي الذي مثله الحدث الثوري، ورغم "تصحيح المسار" الذي يبشر بولادة جمهورية ثالثة.

لقد كان العميد الصادق بلعيد قبل الثورة جزءا من النخبة التي كانت وظيفتها إثبات عدم الحاجة إلى الإسلاميين في فهم "روح الإسلام" ومقاصده، أو في بناء المشترك الوطني أساسه التجانس "الإكراهي" بين القوى الحداثية واعتباره الإسلاميين "الخارج المطلق" (حسب عبارة جاك دريدا)، ذلك "الآخر المطلق" الذي يُعرّف المجموعة الوطنية ويكرس وحدتها، كما كانت وظيفته الدفاع عن عقلانية الخيارات السلطوية حتى لو مرت عبر الانقلاب على الدستور وعلى مبدأ التداول السلمي على السلطة. أما بعد الثورة فكانت وظيفته - مثل أغلب النخب الوظيفية - التحذير من خطر الإسلاميين على النمط المجتمعي التونسي وعلى المشروع التنويري "المتخيل" والموضوع في خدمة سلطة جهوية زبونية تابعة. ولم يكن "تصحيح المسار" بعد 25 تموز/ يوليو الماضي ليستغنيَ عن خدمات العميد وأقرانه من "تقنيي المعرفة القانونية"؛ لشرعنة مراسيمه ومشروعه لتعديل الدستور والنظام السياسي برمته.

إذا كان كتاب "القرآن والتشريع" مساهمةً في شرعنة السلطة القائمة قبل الثورة والدفاع عن خياراتها اللاوطنية الكبرى، فإن "روح" ذلك الكتاب ظلت سارية في العميد بعد الثورة. فقد بقي الإسلاميون عنده - مثلما هو عند أغلب النخب الحداثية - في موضع الخصم أو العدو الذي يتم اختزاله في تهديد وجودي للدولة المدنية ومكاسبها، كما يتم حصره في دور النقيض الموضوعي لكل القيم الحداثية التي انبنى عليها المشترك الوطني منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وهو سبب من أهم أسباب فشل الانتقال الديمقراطي في بعده السياسي، وحال دون تسويات أو توافقات صلبة بين القوى الحداثية وبين الإسلاميين منذ رحيل المخلوع إلى وقتنا هذا. وإذا كانت القراءة الجديدة لآيات الأحكام قد جعلت العميد يتماهى مع خيارات السلطة زمن المخلوع، فإن القراءة الرئاسية "الانقلابية" لفصول الدستور وللمنطومة السياسية قد جعلت العميد يتقارب مع الرئيس ومشروعه دون أن يتماهى معه.

لو بحثنا في الخيط الناظم لمواقف العميد قبل الثورة وبعدها لوجدنا أنه الانحياز للسلطة التي تعكس قيم الجمهورية الفرنسية ومبادئ اللائكية الفرنسية، وهو ما يفسر مساندته لـ"تصحيح المسار" والمساهمة فيه دون أن يتخلى عن مسافة نقدية منه، أو بعبارة أصح دون أن يجد نفسه مضطرا لاتخاذ موقف نقدي منه.

فـ"تصحيح المسار" هو خيار محمود إذا اختزل الصراع إلى صراع ضد الإسلاميين - أي ضد حركة النهضة - دون أن يتحول إلى صراع ضد كل النخب "الحداثية" وتهديد لدورها "الوظيفي". كما أن "تصحيح المسار" هو مشروع "وطني" و"حداثي"، بشرط ألا يتحول إلى بديل شامل وأن يرضى بدور الشريك للقوى "الحداثية" بعد إقصاء حركة النهضة وحلفائها. وإذا كان انقلاب ٧ تشرين الثاني/ نوفمبر قد وفر مساحة واسعة لتشريك النخب الوظيفية في مواقع القرار وفي تحقيق مكاسب مادية ومكانة اعتبارية مرموقة، فإن خطر "تصحيح المسار" هو في أنه يبشر بولادة نظام كلياني قد يلغي الحاجة إلى النخب الوظيفية التقليدية وإلى الأجسام الوسيطة كلها، تلك الأجسام التي تُعتبر قاعدة خلفية أو حليفا استراتيجيا أو "مؤجرا" للنخب الوظيفية، والتي سيكون إلغاء الحاجة إليها تهديدا وجوديا للمثقف الوظيفي ذاته.

إن مناط الخلاف الأساسي بين العميد والرئيس ليس في استصحاب اللائكية الفرنسية لبناء "الجمهورية الثالثة"، وليس أيضا في معاداة الإسلاميين ورفض إشراكهم في بناء المشترك الوطني أو "الكلمة السواء"، وليس الخلاف بينهما في الموقف السلبي من مسار مأسسة الثورة ونظامها السياسي، بل إن الخلاف الأصلي هو في أن العميد يريد "جمهورية ثالثة" تضمن للنخبة الحداثية أدوارها ومكاسبها وتضمن لأجسامها الوسيطة دورا في السلطة، أما الرئيس فإنه يريد "تشريعا" (أي دستورا ومنظومة سياسية) يكون هو المتحكم فيها عبر نظام رئاسوي وبرلمان تابع ونخب بديلة تهدد دور النخب التقليدية وامتيازاتها. ولكن، رغم هذا الاختلاف فإن المشترك الفكري/ السياسي الأعمق بين العميد والرئيس هو أنهما لا يمكن أن يطرحا مسألة التشريع وفلسفته إلا من منظور "اللائكية الفرنسية"؛ وما يعضدها واقعيا في محور الثورة المضادة ووكلائه المحليين الراغبين في استعادة الجمهورية الأولى عبر مجاز "الجمهورية الثالثة" وبوابة "الديمقراطية المجالسية".


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

إنقلاب قيس سعيد، تونس، الإنقلاب في تونس،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 7-01-2022   الموقع الأصلي للمقال المنشور اعلاه المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك
شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
الهيثم زعفان، د. ضرغام عبد الله الدباغ، محمد العيادي، سلام الشماع، رمضان حينوني، عمار غيلوفي، رضا الدبّابي، أحمد النعيمي، مجدى داود، أشرف إبراهيم حجاج، عراق المطيري، د- محمود علي عريقات، عبد الله زيدان، خبَّاب بن مروان الحمد، د. أحمد محمد سليمان، د - محمد بن موسى الشريف ، رافع القارصي، إياد محمود حسين ، فتحي العابد، حميدة الطيلوش، د.محمد فتحي عبد العال، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، الهادي المثلوثي، د - المنجي الكعبي، يحيي البوليني، منجي باكير، علي الكاش، ضحى عبد الرحمن، د - مصطفى فهمي، د - الضاوي خوالدية، أبو سمية، د - شاكر الحوكي ، طلال قسومي، د- جابر قميحة، محمود فاروق سيد شعبان، محمود طرشوبي، د. صلاح عودة الله ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، أحمد الحباسي، حسن عثمان، رشيد السيد أحمد، أحمد ملحم، محمد عمر غرس الله، سلوى المغربي، محمد يحي، جاسم الرصيف، محمد الياسين، فتحـي قاره بيبـان، صفاء العراقي، عبد الغني مزوز، رحاب اسعد بيوض التميمي، سامر أبو رمان ، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، د. عادل محمد عايش الأسطل، د - محمد بنيعيش، د - عادل رضا، كريم فارق، د- هاني ابوالفتوح، ياسين أحمد، فوزي مسعود ، علي عبد العال، صالح النعامي ، ماهر عدنان قنديل، نادية سعد، وائل بنجدو، حسن الطرابلسي، سليمان أحمد أبو ستة، أحمد بن عبد المحسن العساف ، محمد اسعد بيوض التميمي، أحمد بوادي، أنس الشابي، صلاح الحريري، سيد السباعي، إسراء أبو رمان، عبد الرزاق قيراط ، مصطفي زهران، محمود سلطان، محمد الطرابلسي، تونسي، عمر غازي، رافد العزاوي، محمد شمام ، د. خالد الطراولي ، محرر "بوابتي"، فتحي الزغل، مراد قميزة، حسني إبراهيم عبد العظيم، صفاء العربي، عبد الله الفقير، كريم السليتي، فهمي شراب، عواطف منصور، سامح لطف الله، يزيد بن الحسين، أ.د. مصطفى رجب، حاتم الصولي، د. مصطفى يوسف اللداوي، الناصر الرقيق، د. أحمد بشير، د- محمد رحال، خالد الجاف ، العادل السمعلي، د. طارق عبد الحليم، محمد أحمد عزوز، صباح الموسوي ، د. عبد الآله المالكي، سفيان عبد الكافي، سعود السبعاني، د - صالح المازقي، المولدي الفرجاني، صلاح المختار، مصطفى منيغ، عزيز العرباوي، إيمى الأشقر،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضات من طرفه أومن طرف "بوابتي"

كل من له ملاحظة حول مقالة, بإمكانه الإتصال بنا, ونحن ندرس كل الأراء