أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7839
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إثر أحداث 14 جانفي دأبت الكثير من الأحزاب السياسية على التفتيش لها عن أصول وجذور في تاريخنا متوهِّمة أنها بذلك تحصل على شرعية، وقد تكفل بذلك بعض المنتسبين لهذه الأحزاب خصوصا منهم الذين انتقلوا من هذا التنظيم إلى ذاك، فراجت المسميات يمنة ويسرة دون ضبط لمضامينها أو محتوياتها، ولعلي لا أجانب الصواب إن قلت إن مصطلح الزيتونة تتنازعه كل التيارات تقريبا وتدّعيه لنفسها فحتى حزب حركة النهضة رغم أنه نبت أجنبي يدّعي اليوم أنه امتداد له.
في البدء نقول إن لفظ الزيتونة يُطلق على الجامع ويطلق كذلك على المؤسّسة التعليمية التي تمتدّ بجذورها إلى 14 قرنا خلت وهي الحاضرة في كامل أرجاء الوطن وخارجه بفروعها المنتشرة في طول البلاد وعرضها بحيث ليس هنالك من أسرة تونسية إلا ولها علاقة بالزيتونة التي استوطنت وجدان الشعب، فهي الظاهر الحاضر الدائم تعليما وقضاء وإمامة وصحافة وجمعيات ومسرحا.... ورموزا، لا يخلو قرن إلا وللزيتونة فيه بصمة، ورغم هذا الحضور الطاغي فإننا لم نسمع أبدا أن تيارا سياسيا أو فكريا ادعاها لنفسه إلا في هذه الأيام الغبراء، ففي سنة 1910 نظم طلبة الزيتونة مظاهرة نادوا فيها بإصلاح التعليم خطب فيها المناضل الوطني الكبير علي باش حامبة الذي تحدث عن كلية نمّت شعوره الإسلامي وقوّت عاطفته الملية أي الوطنية قال: "لست أيّها الإخوان بعيدا عنكم أو غريبا بينكم بل أنا أفتخر أن أعدّ نفسي زيتونيّا مثلكم فقد قضّيت عامين من المدّة التي كنت فيها تلميذا في المدرسة الصادقيّة أتلقى دروسا حرّة في الكلية الزيتونيّة المباركة، نعم إنني لم أحرز على جانب عظيم من العلوم الإسلاميّة ولكن ما أحرزته منها هو مدار الكفاية لأمثالي، إن المقدار الذي حصلته قد أفادني كثيرا من حيث تنمية شعوري الإسلامي وتقوية العاطفة المليَّة في صدري وهذا ما ترك لي في نفسي أجمل ذكرى لإخواني الزيتونيّين ولذلك فإني أدين لهذه الكلية المباركة بما لها عليّ من الجميل والامتنان"(1) وبيّن من هذا الكلام أن الزيتونة منذ ذلك الوقت اعتبرت مقوّما من مقوّمات الشخصية التونسية وليس هنالك من حاجة إلى إفرادها بالتعيين لأن توضيح الواضحات من الفاضحات.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ما هي طبيعة التيارات والأحزاب التي تفتّش لنفسها عن هذا الانتماء؟ وما أسباب ذلك؟ وهل أن هذا الادعاء يمثل إضافة لمدّعيه؟.
رغم أن حزب حركة النهضة نبت أجنبي فكرا وجهازا ورؤية ولم يطلع رئيسه على كتابات الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور إلا في فترات متأخّرة وفق ما قال وليس من بين مقرّراته الحزبية كُتّاب تونسيون فإنه اليوم وأتباعه يصدّعون رؤوسنا بإشاعة أنهم يمثلون امتدادا للزيتونة التي هي رافد من روافد حركتهم والحال أن العلم والتاريخ يُكذِّبهم لأنهم فيما يقولون يصدرون عن جهالة لا نظير لها وبيان ذلك:
1) بعد أن وُحِّد التعليم إثر الاستقلال مباشرة وأدمجت إطارات الجامعة الزيتونية بفروعها في الإصلاح التربوي ومؤسّساته انتفت الحاجة إلى الحديث عن الزيتونيين، لأن الإدارة التي كانت تعطيهم هذه الصفة أصبحت من بين إدارات وزارة التعليم فلم يعد هنالك من مبرّر للحديث عن الزواتنة بهذا المعنى وآخر طبقة من شيوخ الزيتونة درّست كاتب هذه السطور في الحي الزيتوني معهد ابن شرف لاحقا قبل 40 سنة كاملة رحمهم الله جميعا وأحسن إليهم.
2) صحيح أن الجامعة الزيتونية هي جامعة دينية إلا أنها كانت تموج بالأفكار المختلفة والمتناقضة في الكثير من الأحيان إذ نجد فيها داعية تحرير المرأة الطاهر الحدّاد ونجد فيها كذلك الشيخ راجح إبراهيم صاحب مقولة هذا على الحساب حتى أقرأ الكتاب، نجد فيها الشيخ عثمان ابن الخوجة أحد المنافحين عن قيام الجمهورية في تركيا والمنادين بسقوط الخلافة ونجد كذلك شيوخا يدافعون عن السلطنة العثمانية وترسلهم لأداء مهام رسميّة كالشيخ صالح الشريف، نجد فيها وطنيين من وزن عبد العزيز الثعالبي ونجد فيها كذلك من يمدحون المقيم العام ونعفّ بقلمنا عن ذكر أسمائهم، والمحصلة أن الزيتونة كانت حاضنة لمختلف التيارات والاتجاهات السياسية والثقافية في الوطن، وما ادعاء الانتساب إليها دون تعيين أو تحديد أو ضبط إلا تلبيسا على خلق الله، فإلى أيهما ينتسب مدّعي ذلك إلى الطاهر الحداد أو محمد الصالح بن مراد الزيتونيين اللذين ينتميان إلى مدرستين فكريتين مختلفتين.
3) على المستوى السياسي خصوصا بعد الاستقلال راج بين العامة أن الزيتونة وقفت ضد إصلاحات دولة الاستقلال وحشروا الخلاف بين بورقيبة وصالح بن يوسف في خلطة عجيبة لنصل اليوم إلى موقف يُقَدَّم فيه صالح بن يوسف مدافعا عن العروبة والإسلام وهو محض اختلاق وافتراء فالمتأمل في الأحداث التاريخية بعين الإنصاف يلحظ أن بورقيبة وصالح بن يوسف تكوّنا علميا وسياسيا في نفس المدرسة ولم ينشأ الخلاف بينهما إلا عند الوصول إلى مرحلة اقتسام السلطة عندها ظهر الخلاف واختُلقت له أسباب شعارها الاستقلال الداخلي خطوة إلى الوراء وعندها كذلك فتَّش ابن يوسف لنفسه عن حلفاء فوجد بعض الزيتونيين الذين أضيروا من إصلاحات دولة الاستقلال ممثلة في توحيد التعليم والقضاء وإصدار مجلة الأحوال الشخصية فحدث اللقاء بين طرفين لكلّ واحد منهما أسبابه وإن كان الهدف نفسه إسقاط أو إضعاف بورقيبة، علما بأن ابن يوسف الذي يقدّم اليوم مدافعا عن العروبة والإسلام لم نقرأ له كلمة واحدة في الموضوع قبل الخلاف، أما بالنسبة للزيتونيين فإن وقف بعضهم كالشيخ البدوي وصوت الطالب الزيتوني وغيرهما ضد دولة الاستقلال فإن بعضهم الآخر ساند بورقيبة ووقف معه كالشيخ الشاذلي النيفر ومحمود شرشور وعلى المعاوي والحبيب نويرة والعروسي المطوي وغيرهم والذي نخلص إليه أن الكتلة الزيتونية لم تكن كتلة متجانسة بل كانت تشقّها نفس الخلافات التي تشقّ المجتمع التونسي، أي أن الادعاء بأن الزيتونة تمثل رافدا لهذا أو لذاك كلام لا يسنده العلم والوقائع بل هو مجرّد هراء لا وزن له.
4) يضمر القول بأن الزيتونة رافد لهذا الطرف أو ذاك فهما مغالطا لطبيعة المعركة التي تقودها القوى الداعية إلى المحافظة على منجزات الاستقلال وتطويرها مفاده إشاعة الوهم بأن حرمان الخصوم من استعمال الأدوات الدينية كفيل بإضعافهم وهو ما اصطلح على تسميته في بعض الأدبيات بسياسة سحب البساط التي طبقت طوال العشريتين السابقتين ولكنها أثبتت فشلها بامتياز لأن ما سُمِّي بساطا لا يمكن سحبه من أي منتسب لهذا الوطن جميعنا نقف عليه ونستظل به، إنه الفضاء الثقافي الذي ضمنه يدور الحوار ويبدع الرسام ويكتب الشاعر... هو جزء من المكوّنات التي تجعل التونسي تونسيا مختلفا عن الجزائري والمغربي ويصبغ كل واحد بخصوصية متفردة، والذي نخلص إليه أن الزيتونة اليوم ليست إلا معطى تاريخيا وجزءا من ذاكرة الأمة وتاريخها بها الغث والسمين ما يوافق عصرنا واحتياجاتنا وما لا يوافق ومن الخَوَر أن يخصّ أحد نفسه بالادعاء أنها رافد من روافده إذ لا يخلو الحال عندها من أمرين اثنين لا ثالث لهما:
1) إما أنه يعيش حالة اغتراب عن هذه الأمة وهو ما عليه التنظيمات التي استوردت إيديولوجيتها من الخارج فتبحث لنفسها عن مسوّغ عثرت على بعضه في الزيتونة.
2) أو الانحراف بالمسائل عن وضعها الطبيعي حتى تختلط السبل وتضيع التخوم ليصبح الصديق خصما والعدو حليفا فنرجع إلى سياسة سحب البساط من جديد ونعود إلى اجترار نفس الهزائم.
فالحذر كل الحذر من هذه الدعوات المشبوهة التي أدّت بالبعض من القوى التي كنا نحسبها في صف الحداثة والتقدم إلى الانخراط الأهبل في خدمة حزب الحركة منذ عشرين سنة كاملة تحت مسمّى سحب البساط والدفاع عن الهوية والحال أن ما هو مشترك بين التونسيين غير قابل للقسمة، فارفعوا أيديكم عن الزيتونة والزموا حدودكم.
-----------
الهوامش
1)"من أعلام الصحافة العربية في تونس" لمحمد الصالح المهيدي، تحرير وإكمال أنس الشابي، دار سحر للنشر، تونس 2012، ص22.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: