المشهد السياسي التونسي بعد الثورة ..تطور نحو الأفضل أم إعادة إنتاج لواقع قديم؟
عبد العزيز الرباعي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7743
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لقد هدفت الثورة التونسية فيما هدفت إليه القطع مع المنظومة السياسية التسلطية التي سادت طيلة النصف قرن الماضية من تاريخ تونس المعاصر والتي كرست هيمنة الحزب الواحد والفرد الواحد والرأي الواحد والذي أدى فيما أدى إليه إلى تغول الهياكل الحزبية للحزب الحاكم وتحكمها في كل مفاصل الدولة واكتسابها لحصانة 'غير مشروعة' جعلتها فوق المساءلة وفوق القانون مما مكنها من استباحة البلاد ونهب ثرواتها دون حسيب أو رقيب. هذه التجربة المرة التي تجرع حنظلها الشعب التونسي طيلة خمسة عقود كاملة كانت حاضرة في وجدان التونسيين عند قيامهم بثورتهم وتجلى ذلك في المطالبة بتكريس التعددية الحزبية وحرية التنظم مما أفرز طفرة غير مسبوقة في عدد الأحزاب على الساحة الوطنية فاقت المائة حزب كما ظهر ذلك في الفسيفساء الحزبية التي شكلت المجلس التأسيسي (رغم تفاوت نسب النجاح) ثم في تشكل الحكومة المؤقتة من ائتلاف يظم ثلاثة أحزاب.هذه المؤشرات الأولية 'ورغم أنها أثارة الحيرة لدى الناخب التونسي خلال انتخابات المجلس التأسيسي'إلا أنها اعتبرت خطوة إيجابية على طريق تشكل مشهد سياسي تعددي يرتكز على أقطاب سياسية كبرى تضمن التوازن السياسي المطلوب حتى لا نعيد تكرار نفس التجربة الماضية المقيتة.
أما اليوم وبعد مرور ما يقارب السنة والنصف على نجاح الثورة في الإطاحة بالنظام الدكتاتوري النوفمبري الفاسد فإن المشهد السياسي على الساحة الوطنية أصبح يدعو إلى الحيرة أكثر مما يؤشر للتفاؤل؟ فما هي تجليات هذه الحيرة؟ وأين يكمن مأزق المشهد السياسي الحالي وما هي تداعياته على مستقبل تحقيق أهداف الثورة على المدى القريب والبعيد؟
منذ ظهور نتائج انتخابات المجلس التأسيسي لاح الارتباك على المشهد السياسي الوطني وقد بدأ ذلك منذ محاولة ضرب فصيل سياسي شكل مفاجأة كبيرة للجميع بتحقيقه لنتائج لم يكن يتوقعها أحد والمتمثل في 'العريضة الشعبية' ثم ومنذ شروع المجلس التأسيسي في مناقشة التنظيم المؤقت للسلط ظهر الاستقطاب الحاد بين قطبي الحياة السياسية المتمثل في السلطة 'الترويكا' والمعارضة ثم وبعد تشكل الحكومة من طرف التحالف الثلاثي'والتي مثلت حركة النهضة عمودها الفقري' دخلت هذه الحكومة بقيادة النهضة في مواجهات مختلفة وعلى واجهات عديدة في محاولة منها لفرض رؤيتها وترويض معارضيها باستخدام سياسة العصا والجزرة أو حتى بدونها 'أي الجزرة' في كثير من الأحيان وذلك بالاعتماد على نقاط قوتها 'على المستوى المادي والتنظيمي وتوظيف الخطاب الديني' واستغلال نقاط ضعف الآخرين وحالة الإرباك التي تبعت فشلهم في الفوز بالانتخابات برميهم بتهم مختلفة مثل تدبير مؤامرة ضد الحكومة أو وقوفهم وراء الاعتصامات والإضرابات وتعطيل عجلة الاقتصاد كما عمدوا إلى اتباع سياسة التحقير والتقزيم بوصفهم جماعة الصفر فصل وفاقدي البرامج والمبادرات والغير قادرين على منافسة الحزب الحاكم..وعلى صعيد آخر وبالتوازي مع محاولة ضرب المعارضة تم استهداف الإعلام وخاصة منه العمومي بشكل غير مسبوق من أجل إخضاعه لسلطة الطرف الأقوى على الساحة السياسية والمتمثل في حركة النهضة و'حليفيه'. ويبدو أن هذه الخطة المحكمة والتي تستميت حركة النهضة في إنكارها قد بدأت تؤتي أكلها وذلك من خلال ما نلاحظه من مشاكل وانشقاقات وتصدعات صلب أحزاب المعارضة الرئيسة والتي فشلت محاولات تجميعها ولم تسلم منه حتى الأحزاب التي فضلت الدوران في فلك النهضة. مما جعل الساحة تخلو تقريبا من منافسين جديين لحركة النهضة ونحن مقبلون خلال أشهر معدودة على خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية للانتقال من مرحلة الحكم المؤقت لهذه الفترة الانتقالية 'والذي تتأفف منه الحكومة ' إلى الوضع الدائم.
فما هي تداعيات الواقع السياسي الراهن على مستقبل نظام الحكم في تونس وعلى تحقيق أهداف الثورة وتحقيق طموحات المجتمع التونسي في غد أفضل يحقق الحرية والكرامة لكافة أبناء الشعب وكافة جهات الوطن؟
إن المتتبع الحصيف لأداء حركة النهضة والتي تمثل اليوم قطب العملية السياسية الوطنية وركيزة الحكومة الانتقالية يلاحظ وجود منهجية واضحة في التعامل مع الواقع الراهن بإشكالاته وتناقضاته ومحاولة الاستفادة منه إلى أبعد الحدود.وذلك في إطار سعيها لتهيئة كل الظروف التي تمكنها من الانفراد بالسلطة في المرحلة المقبلة والتسريع في تنفيذ رؤيتها للمجتمع التونسي الذي ترى أنه في قطيعة مع دينه وحضارته ولا بد من إعادته إلى الجادة. لقد نجحت حركة النهضة في تقديم نفسها للداخل والخارج على أنها حركة معتدلة تقبل المشاركة السياسية والتحاور مع المعارضة وتقدم تنازلات مؤلمة'مثل التخلي عن المطالبة بتطبيق الشريعة في الدستور' وتسعا إلى تحقيق أهداف الثورة رغم العراقيل الضخمة التي تضعها أمامها معارضة الصفر فاصل ومع عدم تجاوب الإعلام معها وخضوعه لليسار المعادي والمتحامل وأزلام النظام البائد؟؟؟ هذه الحركة كانت مستهدفة في زمن الدكتاتورية وهي اليوم وبعد وصولها إلى الحكم مازالت مستهدفة وتحتاج إلى التفاف المجتمع حولها إنها ضحية الماضي والحاضر رغم أنها تملك كل الوصفات الناجعة اللازمة لحل كافة مشاكل الشعب التونسي .إن تعثر التنفيذ ليس ذنبها بل هو ذنب المعارضة البنفسجية والعلمانية واليسارية الفاشلة؟؟؟
إن نجاح النهضة في الترويج لهذا الخطاب لأبعد الحدود جعل صروح المعارضة تتهاوى مما يمكننا من أن نتكهن ودون عناء كبير نتائج العملية الانتخابية المقبلة بين أحزاب منقسمة مهزوزة ومشوهة وبين حزب منظم مدعوم من قوى عربية وإقليمية 'ماديا ومعنويا' ويستغل المشاعر الدينية في استقطاب الأنصار والمؤيدين.. ما من شك أنه سيكون الطرف المهيمن على الحياة السياسية للمرحلة المقبلة وبدون منازع وإن شرَك بعض الأطراف الأخرى من أجل الإيحاء بأنه لا يتفرد بالحكم مثلما هو الشأن الآن ومثلما كان الحال عليه نظام الحكم في الماضي...فهل من أجل هذا قامت الثورة التونسية؟ وكيف يمكن تفادي هذا السيناريو الخطير؟
إننا نريد أن نقول للشعب التونسي إنه ليس من الحكمة في شيء 'وضع كل البيض في سلة واحدة' ولو كانت الثقة كبيرة في أي طرف من الأطراف. لأنه في السياسة لا يمكن الحكم على الأشخاص والأحزاب إلا بعد فترة من الزمن ليست بالقصيرة وإذا كان الاختيار خاطئا فإن أقل مدة يمكن أن يتم خلالها تحقيق تغيير بشكل سلمي ديمقراطي هو خمس أو ست سنوات حسب ما ينصص عليه القانون أما إذا كان الحاكم غير قابل لإرادة الشعب ومتمسكا بالسلطة ومهيمنا على كل مفاصل الدولة مثلما كان عليه الحال في الماضي فإننا سنعيد تكرار نفس التجارب السابقة وإن بوجوه أخرى وتمشيات مختلفة. إننا مطالبون كشعب صاحب مشروع ثوري بالتنبه لكل محاولات الارتداد إلى الماضي وإفراغ الثورة من مضمونها لأن 'السلطة المطلقة مفسدة مطلقة' لذلك لابد من الدفع نحو تشكيل مشهد سياسي يرتكز على أكثر من طرف واحد بما يحقق التوازن المطلوب ويخدم مصلحة الشعب الذي يصبح محور العملية السياسية حيث يحاول كل طرف تقديم الأفضل لخدمته لأنه يعلم أنه ليس اللاعب الوحيد على الساحة وأن الحكم بيد الشعب .أما إذا تقديم صك على بياض إلى طرف وحيد مهما كانت نزاهته فإنه سيؤدي بنا إلى دكتاتورية جديدة وهذا ما نحذر منه ونخشى وقوعه..أيها الشعب التونسي إن مصير ثورتك بين يديك فلا تعجل برمي المنديل...فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا . فل نواصل تيقظنا من أجل حماية ثورتنا والوصول بها إلى بر الأمان.
عبد العزيز الرباعي
ناشط نقابي وسياسي
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: