د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8493
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قطرات قليلة من الحبر متبقية في قلمي، ادخرتها لِمَ قد يأتي من أحداث سارة في تونس، ما انفكت تداعب مخيّلتي بعد الثورة المباركة التي متعنا بها التاريخ الحديث ومنّى الله بها علينا. لا أنسى أننا، نحن جيل لم يعش يوما واحدا بدون أن يتألم بسبب ومن غير سبب.
غير أنّ ما نراه من أحداث لا ترقى في شكلها وفي مضمونها إلى آمال شعب دفع ثمن حريته باهظا. منذ تولّي الحكومة المؤقتة التي أفرزتها الانتخابات التأسيسية وأعناق التونسيين مشرئبة للتّغيير أو ما يشبه التّغيير. في مجتمع كنّا نصفه بالانتقالي وقد اتضح لكل ذي بصيرة أنّه في جملته لم يدخل بَعْدُ عام 1956، سنة الاستقلال، وهذه ليست مسؤولية حكومة الترويكا التي ورثت تركة اجتماعية ثقيلة جدّا.
من القواعد المتفق عليها، شرقا وغربا، أنّ من لم يتقدم يتأخر مقارنة بمحيطه الوطني والإقليمي والعالمي، انطلاقا من هذه القاعدة وبعد تكشف الحقائق بل المآسي الاجتماعية من فقر وخصاصة وتخلف صناعي وبطالة... الخ. يمكن القول بأنّ عديد الجهات في القطر التونسي العزيز لم تدخل إلى الآن القرن العشرين علاوة عن القرن الحادي والعشرين. لست أبحث عن الأسباب لأنها واضحة ولا أرغب في تحميل المسؤولية لزيد أو عمرو، لأنّ المسؤولية في مثل وضعنا المنهك، لا يمكن أن تكون إلاّ جماعية.
أبت قطرات الحبر المخزّنة في قلمي المغمد إلا أن تخطّ هذه الأسطر، في محاولة (أرجو أن لا تكون الأخيرة) لتحليل مسار الثورة التونسية، ثورة الكرامة التي تركت العمق واكتفت بالسطح. أحداث بسيطة، مسطحة يصّر البعض على تفخيمها والنّفخ في صورتها في محاولة لتهميش القضايا المحورية التي من شأنها رسم مستقبل الثورة والبلاد والعباد على حدّ سواء.
كل ما جرى ويجري في تونس الثورة هو عبارة عن تعبيرات شخصية و/أو فئوية و/أو حزبية، تزيد الانحراف الثوري انحرافا من ناحية والشأن العام تعقيدا من ناحية أخرى. انحرف المدّ الثوري عن مسار الفعل التاريخي الذّاتي، الخلاّق ليتحوّل إلى مسحوق تجميل (ماكياج)، يضعه مجتمع مسحوق على وجوهه ويقف على قارعة الطريق السيّارة المخصصة للشركات العابرة للقارات والاستثمارات الخارقة لجدار الصوت... في انتظار نظرة أو ابتسامة أو موعد في انتظار لقاء.
جماعات تتطاول على حدودنا بتسريب أسلحة ومواد مخدّرة ولولا يقظة الجيش الوطني ورجال الأمن الحدودي وأبطال الجمارك لتحولت البلاد إلى أفغانستان مصغّرة، بعد أن بدت طلائع الأفغان/التونسيين من الشبان ذكورا وإناثا، تسير في شوارعنا وتدخل مؤسساتنا وتتعلّم في كلياتنا وكأنهم فصائل قتالية، تتأهب لعمل مسلح ضدّ أهاليهم وأصحابهم وخلاّنهم.
في نفس السياق المنحرف، شاعت بين أبنائنا وبناتنا، ظاهرة الزواج العرفي معبّرة عن أزمات دفينة في نفوس الشباب التونسي. لا أحد ينازعهم حقهم في تلبية حاجتهم للجنس، الذي يبقى رهين مؤسسة الزواج في المجتمعات العربية الإسلامية التي تضمن لكل من " استطاع الباء أن يتزوج"(1). لكن بين الرغبة وإشباعها تقف عوائق مادية، جادة في مقدمتها البطالة. يقف مجتمعنا التونسي وهو مجتمع شبابي بالأساس أمام مخاطر اجتماعية وأخلاقية لا يكفي التّنديد بها فقط، بل يتوّجب على الدولة والمجتمع المدني الانكباب على دراستها بأسرع ما يمكن.
من حق الشباب والشابات أن يحبوا وأن يحلموا بالعيش السعيد في كنف أسرة متوازنة، تضمن حق الزوج والزوجة ومن قبلهما الأطفال، الذين يحتال عليهم أَبَوَيْهُمْ قبل مجيئهم. بدأ من وضع الأبناء الشرعي في تصورات الأبوين وهو غير شرعي عند الله ومن النّاحية القانونية يبقى أطفال هذه الزّيجات خارجين على القانون التونسي وبالتالي لن يسّجلوا في دفاتر الحالة المدنية ولن يمنحوا الجنسية التونسية ولن يدخلوا مدارس ولن يعالجوا عند الاقتضاء في المؤسسات الاستشفائية العمومية والخاصة ولن يحصلوا على بطاقات تعريف وطنية ولا جوازات سفر...
أبناءنا الأعزّاء، بناتنا العزيزات فكّروا قبل أن تقدموا على لذّة زائلة وعاطفة تضعف جذوتها مع الأيام، احذروا معصية هي من الكبائر، باسم فتوى زائفة لا يغفرها من في السماء ولا يرحمها من في الأرض... اذكروا أحباءنا الشباب أعراض آباءكم وأمهاتكم وأسركم وضعوا بين أعينكم مصير أبناء سيصبحون من قوم (البدون)(***)... أحبتنا في الله، تجنبوا سابقة ستتجرعون مرارتها ما دمتم على قيد الحياة وستلاحقكم لعنة الله والناس أجمعين... وتذّكروا قول الله تعالى: " وبشّر الصابرين "(2).
من انحرافات الثورة المميتة انتشار عدوى المطلبية التي تفشت في جسد القوة العاملة التونسية. مطالب نقابية وأخرى مهنية لا غبار عليها نتجت عن حلول ارتجالية لمسائل جوهرية أفقدت هذا الجسم مناعته الطبقية على مدى عقود من الزّمن، كان فيها عاجزا عن نيل جلّ حقوقه واكتفى بزيادة دورية في الأجور ما أسمنتهم وما أغنتهم من جوع.
ينفش الديكة ريشهم ويتعالى صياحهم (من القصبة إلى محمد علي ومن محمد علي إلى القصبة)، ومن لم يصلهم صياحهم تبلغه إليه وسائل إعلام مع نغمات طبول الحرب التي تلهب العلاقة بين الحليفين التقليديين، الحكومة والاتحاد العم التونسي للشغل. هذه أخطر أزمة تلوح في سماء تونس الملبّدة بسحب عابرة، تتهدّد الثورة من ناحية وتنذر بالتّفرقة الحقيقية بين فئات الشعب التونسي من ناحية أخرى. بداية الخلافات بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة وتبادل الاتهامات التي يمكن وصفها بالمجانية، بل لعلها تصفية حسابات داخلية، يريد كل كرف إثبات ذاته كديك أوحد بين ديكة ما إن نقفت من بيضها حتى بدأت تطالب بالزعامة.
يواجه الاتحاد التونسي للشغل منافسة منظمات شغيلة وليدة، تبحث عن موطن قدم في ما يشبه الطبقة، بان بالكاشف أنّها قابلة للتفرقة والتّشرذم. إنّ قليلا من الحوار والتّروي في هذا الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحرج مطلوب، لتهدئة نفوس ملتهبة من أجل تحقيق طموحات ثورية كبيرة وبلوغ آمال جماعية عريضة تفوق إمكانات البلاد المتواضعة. التّصرفات اللامسؤولة لا تزيد الوضع إلا تعقيدا وتأزّما في مرحلة تتميّز بالهشاشة والحساسية.أليس حريا بكل الأطراف التّعقل حفاظا على المنظمة العمّالية العريقة إلى جانب سلامة الدولة التونسية التي لا يستقيم وجودها إلا بمؤسسات قوية وفاعلة في الساحة السياسية.
كلما رتقنا الفتق المستحدث بين الطرفين، كانت النتائج في صالح المواطنين الذين هم أمانة في رقبة الطرفين. تونس اليوم في أشدّ الحاجة إلى شيء من التنازلات الجماعية من قِبَلِ كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الذين نسوا أنّ السياسة هي فنّ التنازلات و التّبصر والتّروي والكلمات المحسوبة التي تبقى مطلب الجميع حتى نجتاز هذه المحن المحدقة ببلادنا.
يكاد يضيع (المواطن) في خضم تجاذب سياسي غضّ بصره عن تردي الإدارة التونسية التي لم تقطع مع فساد الماضي القريب. الأجدر بالجميع معالجة التّضخم المالي الذي أرهق كل شرائح المجتمع التي أضناها ارتفاع الأسعار والاحتكار والجشع. طاقتنا الشرائية في نزول متسارع، إن تواصل سيضر بالاقتصاد، المتضرر أصلا من تجارة الأرصفة المستفحلة تحت عنوان السّعي وراء الرّزق.
من الأحداث التي يمكن اعتبارها من المتفرّقات، داعية وفد علينا لا يحترم آداب الضيافة، جماعات تساند وأخرى تندّد بموقفه من مسائل اعتقدنا أن المخيال الجماعي للتوانسة قد تجاوزوها، غير أنّ الواقع كذّب كل اعتقاداتنا بأنّنا مجتمع منفتح على الثقافات دون انحياز لهذه أو تلك. برهن بعض الشباب (شباب الثورة) أنّ العقلانية والموضوعية التي تعلموها في المدارس والجامعات لم تتجاوز مستوى (الأم الجافية)(3) من سحايا أدمغتهم . كيف يمكن لمتعلمين أن ينصرفوا عن العلم والبحث العلمي ليصغوا إلى مواضيع أبعد ما تكون عن الأهداف الرئيسية للثورة؟
من أغرب المآسي التي وقعت في مجتمع كان بالأمس القريب كرجل واحد ما تردّد من أخبار عن الاعتداء على مراكز تخزّين الإعانات الموجهة للمتضررين من الكوارث الطبيعية المتلاحقة التي أصابت جهات الشمال الغربي التونسي (تساقط الثلوج والفيضانات). تنهب مراكز التّخزين والإيواء وتسرق المواد الغذائية من طرف سكان المنطقة المتضررة ذاتها وتباع الإعانات والهبات، المتأتية من حركة تضامن اجتماعي تلقائي في سوق سوداء في الجهات نفسها تحت مرأى ومسمع قوات الأمن والجيش...
مهما تصورنا فظاعة الأمر ما كان ليخطر على بال أحد أنّ بعض التونسيين على هذا القدر من الانحراف الأخلاقي في نفس الوقت الذي تمتد إليهم يدّ التونسيين من الجهات الأخرى. إنّنا على طرفي نقيض، يدّ الرحمة مبسوطة ولا تزال ويد الإثم تتسلل بالإثم والعدوان... ولا ننسى النّزعة الاحتكارية التي استأنستها بعض النّفوس المريضة، لتمتص دماء الفقراء والمساكين، المحتاجين لقوارير الغاز والمواد البترولية الضرورية للطبخ والتدفئة...
تتعرض إحدى المدن المتضررة من الفيضانات إلى انتهاكات أمنية وفوضى عارمة من قبل أبنائها، سياسة البقاء للأقوى في ظل تراخي أمني ندّد به رئيس الحكومة المؤقتة وكأنه ليس المسؤول الأول في البلاد. تقتضي الأعراف الدولية في مثل هذه الظروف الكارثية المركّبة (طبيعة وانفلات أمني) تدّخل السياسي بتطبيق قانون الطوارئ الذي بدونه سيتواصل تطاول بعض المواطنين، فرادى وجماعات وتعديهم على هيبة دولة مثخنة بجراح الماضي، تبحث عن بلسم لم توفره لها الأحزاب عموما والأحزاب الحاكمة خصوصا.
يتصاعد الغضب الشعبي بالرّغم من التصريحات الرسمية وشبه الرسمية التي تأتي في أشكال متنوعة من ندوات ولقاءات وحوارات تلفزية وأخرى إذاعية، وهذا انحراف آخر للثورة. يبدو واضحا أنّ المسؤولين الجدد ووسائل الإعلام في ثوبها الجديد لم يستوعبوا أن الثورة التونسية هي ثورة الفعل على الخطاب السياسي والثقافي المُسَكِنِ و/أو المهدد؛ وأنّ المواطنين لن يقبلوا بغير الفعل، تماشيا مع روح ثورتهم. أبسط الإجراءات العملية وإن كانت ضئيلة، تكون مؤشرا يطمئن المجتمع بمختلف شرائحه على انطلاق العمل السياسي ويهدئ النّفوس ويبعث فيها الأمل ويروضها على صبر بدأ ينفذ.
الحكومة المؤقتة الحالية تحولت في التصورات الاجتماعية إلى شمّاعة يعلق عليها المجتمع حتى الكوارث الطبيعية ويكاد يحملها مسؤولية وقوعها. فلو أردنا تسمية الأشياء بمسمياتها لقلنا أن أنّ الدولة التونسية في حالة من الضعف البائن، تسيّرها حكومة تتلمس طريق الحكم والتّصرف، توشك أن تفقد الثقة في نفوس التونسيين، المتلهفين إلى قرارات عملية لم تأتي إلى الآن.
لم يدرك التونسيون بعدُ أن الفراغ الدستوري لا يزال يعطل العمل الحكومي حتى في وجود مراسيم لتسيير ما يمكن تسييره في حياتهم العامة. من هنا جاء القعباجي الذي لا ينفع معه حتى إقدام وحزم الدّغباجي. يكمن الحل في الإسراع بصياغة الدستور الذي سيعيد للدولة هيبتها وسيمكن مختلف أجهزتها من العمل بأقصى طاقاتها مهما كان اللون السياسي للحكومة المقبلة.
-----------
*) مصطلح فرنسي "Gabegie" دخل اللهجة العامية التونسية ويعني الفوضى
**) محمد الدغباجي أو محمد بن صالح الدغباجي (1885-1924) مناضل تونسي
1) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم
***) البدون فئة من الشعب الكويتي، يعرفون بهذا الاسم لكونهم "بدون جنسية" أي عديمي جنسية والتسمية القانونية لهم هي مقيم بصورة غير شرعية حيث تعنى بهم اللجنة التنفيذية لشئون المقيمين بصورة غير قانونية.
2) البقرة الآية 155
3) الأم الجافية، وهى غشاء سميك ليفى يبطن السطح الداخلي لعظام الجمجمة ويطلق على هذه الأغشية مجتمعة اسم الأغشية السحائية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: