د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8514
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أذّكر في بداية هذا المقال بعنوان أحد مقالاتي المنشورة على هذا الموقع الموقر: "عظيم أنت أيها الشعب". وما الخطوة التي تمّ انجازها في الثاني والعشرين من نوفمبر الجاري في بلد شرارة الربيع العربي (وليست هذه التسمية من باب المّن أو التعالي على أمتنا العربية العظيمة)، إلا دليلا جديدا على عظمة الشعب التونسي، العربي، المسلم، الصغير في حجمه، العظيم برجاله. الخطوة المعنية هنا هي انعقاد الجلسة التأسيسية للمجلس الوطني التأسيسي في تونس. إنها أول خطوة ثابتة يقطعها الشعب التونسي بكل شرائحه وأحزابه، على تباين أفكارهم وتنافر أرائهم السياسية وربما الإيديولوجية على طريق الديمقراطية. طريق شائك، مفروش بالصعاب والمطّبات، يخبئ كما الزمان في مقبل أيامه ولياليه، مفاجآت متنوعة، متلونة ومتفاوتة في حسنها وسوئها. في هذا الإطار نشهد ومن حولنا العالم، توّحد كلمة الشعب من حيث المبدأ على خوض غمار مغامرة الديمقراطية.
تونس تضع بل وضعت بالفعل اللّبنة الأولى في صرح الحرية بعد أن دفع شبابها مهرها غاليا. كانت كل المؤشرات قبل الانتخابات الماضية تؤكد بما لا يقبل الشّك، أن المجتمع الثائر الذي أسقط المدّنس (نظام الحكم الفاسد) وعانق في عشق لامتناهي، المقدّس (الدولة)، لن يفرط في معشوقته (الحرية) التي ضمّها برموش عيونه الباكية. بكاء العاشق المحروم، بكاء المنتصر الذي تنهمر دموعه غزيرة على شهداء لم يسعفهم الأجل ليفرحوا فرحة العمر.
لم ينسى المجتمعون وهم نوّاب الشعب في أول جلسة جمعتهم على خط الانطلاق، تقديم عربون الوفاء لتلك الأرواح الزكية التي آثرت الواجب على الحق، لننعم جميعا بلحظات مفعمة بالعواطف والأحاسيس الجماعية، فارتفعت الأيادي داخل قاعة المجلس ومعها أيادي المشاهدين بالابتهال والدعاء وأصوات تردد فاتحة الكتاب ترّحما على أرواحهم تخنقها العبرة.
بعد انقضاء الفترة البروتوكولية وما يميزها من أدبيات وأخلاق الاستقبال والإنصات لكلمة رئيس الدولة المؤقت، عايشنا أول مشادة كلامية وأول "صراع" ديمقراطي بين النّواب؛ حين رفضت مجموعة من النّواب ما جاء في كلمة رئيس المجلس التأسيسي المؤقت، ذلك الشيخ الوقور والسياسي المعارض الذي بدا وكأنه يريد تمرير خطاب ذو نزعة أبوية، وصائية، شكلا ومضمونا، استلهمها من تقدّمه في السّن. لم يتفطن الشيخ الجليل إلى تبدّل الخطاب السياسي، بل لعله لم يع بعد، أنّ هذا الخطاب بشكل عام قد تجاوزه التونسيون عموما والمسؤولون الجدد خصوصا.
كانت عشرون دقيقة من الجدل السياسي (المنهجي)، معبرّة على عمق وعي أعضاء المجلس التأسيسي بالتّغير المنهجي الجاري في البلاد التونسية، وفي ذات الوقت، كانت تلك اللحظات (في رأيي) هي نقطة الفصل بين الجمهورية الأولى والجمهورية الثانية. لحظات هدمت النزعة الأبوية التي لطالما مارسها الرئيس الراحل "الحبيب بورقيبة" على شعب قنع من استقلاله بالطاعة والامتثال للأب/الآلهة، الذي لا يعصى له أمر. كانت لأوامر "بورقيبة" رحمه الله، صبغة قدسية استمدها من قدسية الدولة في وجدان مجتمع نُشِّئَ على احترام الآباء والأمهات وكل من تقدّمت بهم السّن إلى اليوم.
نحن في تونس ننادي كبار السّن من الرجال "بابا" ومن النساء "أمي" حتى ولو لم تكن بيننا قرابة أو سابق معرفة. لقد أثّر هذا السلوك الأخلاقي المتميّز في بناء شخصيتنا الجماعية والفردية على حدّ سواء، فكانت عبر الأزمنة شخصية طيّعة، مسالمة وفي نفس الوقت مهادنة؛ غير أن الوضع قد تغيّر بعد الثورة ورفع التونسي رأسه، رافضا كل أشكال الوصاية، في أدب وفي غير أدب، كما بدا عليه المشهد في أول لقاء ضمّ النّواب المنتخبين، فكان على قدر كبير من الحدّة، شارفت ما اعتبره بعض المشاهدين (قلّة أدب).
من زاوية سوسيو-سياسية وفي مناخ ديمقراطي غير مألوف، لا اعتبر ما حدث في بداية هذا اللقاء التاريخي، المشهود، إلا أول مظاهر الصراع السياسي المرتقب، الذي سينزل على مجتمعنا بردا وسلاما كما ينزل البلسم على جرح طال تعفنه وبات ينذر بالخطر. لقد برهن الشيخ، رئيس الجلسة على حنكة في إدارة الحوار وضرب أرقى الأمثلة في رحابة الصدر وتقبّل الرأي الآخر.
في سنة 1959 لجأ "الحبيب بورقيبة" إلى بعث أول مجلس تأسيسي للدولة الوطنية، ومن خلال القراءة الموضوعية لمَ جرى في جلسات ذلك المجلس، تتبيّن للباحث وبكل وضوح، بصمة "الزعيم" في توجيه قرارات تلك الهيأة السياسية التي كانت في ظاهرها حرّة غير أن باطنها كان ينبئ بميلاد (طاغوت) ما فتئ يتغلغل في جميع أرجاء الدولة الفتية. لقد هادن "الرئيس" في ذلك التاريخ على مضض، رغبة المجلس في تحديد هوية المجتمع التونسي، الذي أقرّ بأن لغة المجتمع اللصيق بتقاليده وعاداته، هي اللغة العربية وأن دين الدولة هو الإسلام. جاءت قرارات "الحبيب بورقيبة" وممارساته السياسية معاكسة للنّص الدستوري، مخالفة لكل الثوابت الإسلامية المتجذّرة في عمق الشخصية الأساس للتونسيين؛ فعمل جاهدا على تجفيف المنابع الثقافية للمجتمع ولم يترك للإسلام إلا شكله الفولكلوري بعد أن جردّه من عمقه العقدي، تاركا له مجموعة من التعبيرات والسلوكيات التي كانت تتردّد في مناسبات يطلق عليها مجازا (أعياد واحتفالات دينية) خصصت لها أيام راحة، ينصرف فيها الناس إلى الأكل والشرب. تحدّى "بورقيبة" وميوله الغربية، مشاعر شعب لم ينبس ببنت شفة، فكانت تلك المناسبات عبارة عن تمظهرات احتفالية قائمة على البطن أساسا، بعيدة كل البعد عن عمقها الروحي.
أما اليوم، فقد أُقِيمَ المجلس التأسيسي ومنذ اللحظة الأولى على الندّية بين الجميع، فلا فضل لهذا على ذاك إلا بالعمل على إرساء قواعد اللعبة الديمقراطية. هذا ما أوحت لنا به تلك الجلسة التأسيسية الأولى في ظل غياب أغلبية حزبية من ناحية وقيادة ثلاثية الأطراف، قدرها أن تتآلف وتلتقي على أرضية التنازلات السياسية، عملا بالمثل الشعبي التونسي "إلّي إطيّح من روحو ما يتسماش مغلوب".
لنا في علم الاجتماع وعلم الاجتماعي النّفسي مفاهيم عديدة في هذا المعنى، يتحتّم على الجميع داخل المجلس الوطني التأسيسي، خاصة من ليس له تكوين في هذا المجال، أن يعلمها بل أن يتعلّمها ويعمل بها. من تلك المفاهيم ما يسميه أهل الاختصاص الحلّ الوسط "compromis" الذي يمكن تشبيهه بزيت المحرك الذي يمنع دواليبه من الاحتراق ومنه إلى الانفجار. اللجوء إلى الحلول الوسطى (برأيي) ما لم تمّس بالمبادئ الجوهرية لكل طرف، هي التي ستمكن "التروكيا الحزبية" المهيمنة على المجلس الوطني التأسيسي؛ وهم حزب النّهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتّكتّل، ما دامت الأقليات الحزبية، التي لم تحظى بمقاعد نيابية تضمن لها دورا فاعلا في اتخاذ القرارات أو في صياغة الدستور، فاختارت أن تكون في المعارضة على إثر هزيمتها الانتخابية في أكتوبر 2011.
ماذا عن تمثيلية شباب الثورة في المجلس الوطني التأسيسي في تونس؟ لم يكن الشباب التونسي الذي فجّر الثورة في تونس والبلاد العربية غائبا عن مقاعد هذا المجلس. كان الشباب ممثلا في مختلف الأحزاب الفائزة إلى جانب آخرين من المستقلين (حتى وإن كانوا قلّة)، فبدت هذه الشريحة السياسية (الطرية)، كمن يلاحق فرصة ضاعت من بين يديه. لقد كانت الثورة ثورتهم فجاءت خالية من كل قيادة و/أو زعامة تقود أفرادها وترشدهم إلى ما يجب قطعه من خطوات تمكّنهم من السيطرة على مكسبهم التاريخي. في لحظة تاريخية، شاهدنا وعايشنا توقف المد الثوري في تونس على عتبات قصر الحكومة بالقصبة، مرة أولى وثانية... وكان الثوار يقفون في كل مرّة موقف المستجدي ممن أطاحوا بنظامهم طورا ومستعطفين من مسكوا "بالسلطة المؤقتة" طورا آخر. كنت أرقب في وجوه الشباب/النّواب النضرة، من خلال النّقل المباشر للتلفزة الوطنية، براءة الطفولة المحاصرة بدهاء من أسميتهم بـــ "بارونات السياسة في تونس" وقد كنت حذّرت منهم ومن خبثهم السياسي، في كتابي (ثورة الكرامة، جوان 2011 عن الدار المتوسطية للنشر)، باعتبارهم من المخاطر المحدقة بالثورة والتي تهددها في عفويتها وتحيط بتلقائيتها وتحاول افتضاض عذريتها التاريخية، كما حدث في الشقيقة مصر.
لقد تقاسمت الثلاثية الحزبية السلطة في تونس ولم تترك للشباب من المناصب القيادية، ما يليق بإنجازهم في تغيير المشهد السياسي التونسي، فهم من حقق ما عجز السّاسة والمثقفين جميعا عن تحقيقه رغم نضالهم وثباتهم على مبادئهم وتمسكهم بمواقفهم في مقاومة الظلم والطغيان خلال ما اصطلحوا على تسميته بسنوات الجمر. لا أحد ينكر على كل من ناضل نضاله، لكن كل ذلك النضال لن يرقى إلى درجة ثورة الشباب ولن يبلغ أبدا (في هذا المجال) مرتبة الشهادة من ناحية ولن يخوّل لكائن من كان أن يتسلّل إلى دوائر الحكم المطلق باسم النّضال والوقوف في وجه الطاغية من ناحية أخرى.
لعلي استبق الأحداث وقد أقطع يد السارق قبل أن يسرق، فإني أتوقع أن تخرج علينا التشكيلة الحكومية الائتلافية المرتقبة، دون أن تنصف هؤلاء الشباب الذين أصبحوا لا (ينتظرون، يرجون، يأملون...) إلا أن يكون لهم حضور وتمثيل في السلطة التّنفيذية، كما منحتهم صناديق الاقتراع حق الدخول والتّمثيل في المجلس التأسيسي الذي سيؤمن في نفس الوقت دور السلطة التّشريعية قبل الانتهاء من بناء الجمهورية التونسية الثانية التي لا مزية لأحد في بنائها إلا دماء الشباب الزكية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: