فوزي مسعود - تونس المشاهدات: 93 محور: الفرد التابع
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
منذ أقل من ساعة، مررت أمام محل في جهة "المنزة" بالعاصمة، ورأيت رجلا مع من تبدو إبنته وهي لاتكاد تجاوز ثلاث سنوات من العمر
كان يقدم لابنته كأسا من العصير، ويعينها على شربه، وكان يخاطبها بفرنسية متأنّقة، بلكنة الفرنسيين وقال لها: "هل تريدين شربه أم تريدين...
(Tu veux la boire ou tu veux...)
وقد رأيت من قبل في بعض المحلات أمهات وآباء يصحبون معهم أبناءهم وهم يخاطبونهم بالفرنسية حين الحديث معهم في احتياجات شراءاتهم
ويمكنك بيسر ملاحظة تعثّر الطفل الصغير في نطق الفرنسية حين رده على الأم أو الأب الذي يصر على مخاطبته بالفرنسية ويصر على تعليمها له ووجوب إتقان الطفل لها، ويصر أخيرا على أن ينطقها بلكنة الفرنسيين
ويمكنك ملاحظة أن الام والاب من هؤلاء، يتصرف مع ابنه أو ابنته كأنه رهينة لديه كُلف بإخضاعه لعملية تحويل ذهني عنيفة، ودافع ذلك حرص دفين على اقتلاع الطفل من بيئته وإبعاده من أن يكون متجانسا مع واقعه الذي يستعمل العربية في سائر حياته
وغير بعيد عن هذه السلوكيات المشبعة كرها للذات، نجد كذلك الذين نشّؤوا ابناءهم وعوّدوهم على استعمال لفظ papa الفرنسي عوض اللفظ المحلي العربي أي "بابا" ومشتقاته، حين مناداة الأب
هؤلاء الآباء يتحركون بما يشبه العمل الرسالي الإيديولوجي مع ما يسبق ذلك من دافع قوي وهو هنا كره الأب والام للانتماء لهذه البلاد وكره هويتها ممثلة هنا في اللغة المحلية أي العربية وكل ما يمت لها بصلة
أي أننا إزاء عينات لأناس هم أنفسهم ضحايا عمليات قصف وإقتلاع لامادي وتصوري تعرض لها التونسسون طيلة عقود، من خلال منظومات التشكيل الذهني من تعليم وتثقيف وإعلام، أسسها وأشرف عليها منتسبو فرنسا ممن حكمنا ومازال طيلة عقود
نحن الان وصلنا مرحلة متقدمة من فاعلية منظومات الإقتلاع الذهني، وهو تحول الضحايا لكيانات تكره ذواتها ثم أنها تسعى لاعادة ترويج التبعية للاجنبي والاقناع بها وتتبنى دلالاتها مثل كره اللغة العربية والاسلام واحتقار الذات والاعتقاد بحتمية التبعية للاجنبي
وبعض عينات ذلك هؤلاء الذين يلزمون ابناءهم باستعمال الفرنسية واقناعهم باستبعاد العربية، ولازم كل ذلك هو القول الضمني للطفل وتبليغه رسالة مفادها حتمية التبعية لفرنسا واعتبارها نموذجا ووجوب تبعيتنا لها واننا لاشيء أمامها
--------
كل هذا هو بعض مما تحدثت فيه من قبل حول خطر الربط اللامادي مع فرنسا والغرب عموما، وهو البعد الذي يتم تجاهله حين تناول الغرب
وهذا أيضا بعض من أخطار منظومات التشكيل والتحويل الذهني وعمليات الاقتلاع التي تعرض لها التونسيون طيلة عقود من طرف منظومة منتسبي فرنسا، وهو الموضوع الذي يتم تجاهله لسبب غير مفهوم
وكل هذا هو بعض مبررات قولي أن من أراد أن يصلح تونس ويؤسس مشاريعا سياسية جدية، فعليه أن يعيد النظر في التأسيسات الأولى لتونس الحديثة التي أوجدتها فرنسا وفرضتها علينا من خلال منتسبيها الذين حكمونا وتوارثوا حكمنا
بالمقابل فإن من يبني مشاريعه الفكرية والسياسية فوق الموجود من دون مساءلة بداياته، فإنه عمليا يكرس الواقع ويساهم في تدعيم مسار الاقتلاع والإلحاق بالغرب