أ.د. علي عثمان شحاته - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1420
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الرزق ليس شطارة ولا مهارة، بل هو عطاء من الله تعالى، تعقبه مسئولية، ثم يترتب عليه جزاء، وليس معنى ذلك إنكار الشطارة والمهارة في السعي على الرزق، فهي أمور مطلوبة شرعا وعرفا بضوابطها، مع العلم أنه لا يترتب عليها حتمية الرزق، فقد أسعى كثيرا، ويقل العطاء، وقد أسعى قليلا ويزداد العطاء.
فالذي يعطي ويمنع، ويرفع ويخفض، ويفاضل بين الناس، هو الله سبحانه وتعالى لحكمة يعلمها، قد يُظهر للناس بعضها وقد يٌخفي الآخر، فلا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، قال تعالى: ﴿واللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ﴾ النحل من الآية:71.
يقول صاحب التحرير والتنوير: إنَّ الرِّزْقَ حاصِلٌ لِجَمِيعِ الخَلْقِ، وأنَّ تَفاضُلَ النّاسِ فِيهِ غَيْرُ جارٍ عَلى رَغَباتِهِمْ، ولا عَلى اسْتِحْقاقِهِمْ، فَقَدْ تَجِدُ أكْيَسَ النّاسِ وأجْوَدَهم عَقْلًا وفَهْمًا مُقَتَّرًا عَلَيْهِ في الرِّزْقِ، وبِضِدِّهِ تَرى أجْهَلَ النّاسِ وأقَلَّهم تَدْبِيرًا مُوَسَّعًا عَلَيْهِ في الرِّزْقِ، وكِلا الرَّجُلَيْنِ قَدْ حَصَلَ بِهِ ما حَصَلَ قَهْرًا عَلَيْهِ، فالمُقَتَّرُ عَلَيْهِ لا يَدْرِي أسْبابَ التَّقْتِيرِ، والمُوَسَّعُ عَلَيْهِ لا يَدْرِي أسْبابَ تَيْسِيرِ رِزْقِهِ، وذَلِكَ لِأنَّ الأسْبابَ كَثِيرَةٌ مُتَوالِدَةٌ ومُتَسَلْسِلَةٌ ومُتَوَغِّلَةٌ في الخَفاءِ؛ حَتّى يَظُنَّ أنَّ أسْبابَ الأمْرَيْنِ مَفْقُودَةٌ، وما هي بِمَفْقُودَةٍ، ولَكِنَّها غَيْرُ مُحاطٍ بِها،
ومِمّا يُنْسَبُ إلى الشّافِعِيِّ:
ومِنَ الدَّلِيلِ عَلى القَضاءِ وكَوْنِـهِ ... بُؤْسُ اللَّبِيبِ وطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ
وأقول: إن من تمام الفهم لمسألة الرزق - من وجهة نظري- أنه:
# على المرء أن يطلب الرزق بالسعي والعمل، دون تجاوز لحدود الله.
# إذا نتج عن السعي عطاء، شكر الله تعالى، وأدى حقه في هذا العطاء.
# وإذا وجد بعد السعي منعا، حمد الله تعالى ورضي بما قسم له، ثم صبر على قضاء الله وقدره، ومن ثم واصل السعي والعمل، مع دعاء الله تعالى أن يفتح له أبواب فضله.
وعن تحرير قضية التفاوت بين الناس وبعض حكمها، يقول الله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الزخرف: 32.
قال الإمام الطبري: "يقول تعالى ذكره: بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا، فنجعل من شئنا رسولا ومن أردنا خليلا، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا؛ من الأرزاق والأقوات، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة، بل جعلنا هذا غنيا، وهذا فقيرا، وهذا ملكًا، وهذا مملوكًا. وقوله تعالى: ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ أي: ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل، فيجعل تعالى ذكره بعضنا لبعض سببا فى المعاش في الدنيا".
وأقول: إذا كان العطاء والمنع من الله، وما على المرء إلا السعي والعمل، فعلى من منحه الله الفضل أن يُهَوِّن على نفسه فيتواضع لربه، وألا يستخدم العطاء للتكبر والتعالي والظلم، وألا يزهو بنفسه بطرا ورياء، فهو من ملايين البشر؛ سعى كسعيهم فكان ممن اقتضت حكمة الله إعطاءه ومنحه، وهذا العطاء قد يكون منحة وخيرا، وقد يكون محنة وشرا، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ الأنبياء من الآية: 35.
وقد ذكر لنا القرآن الكريم طريقة مثلى للتعامل مع نعمة المال، حين ذكر قصة قارون الذي أعطاه الله المال فطغى وبغى وتكبر، ونسي المنعم سبحانه وتعالى، فكان أول الظلم والبغي أن أسند هذا العطاء لنفسه، ومن ثم ظن ظنا خائبا أنه طالما أنه بعلمه ومهارته مدبر هذا العطاء وموجده، فهو حر التصرف في هذا المال دون رقيب ولا حسيب.
وهنا تدخل الصالحون من قومه ليعيدوه إلى الطريق الصحيح، والمسلك القويم في التعامل مع هذه النعم، فكان حديث القرآن الكريم عن ذلك، في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡآخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ وَأَحۡسِن كَمَاۤ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾ القصص: 76، 77.
فينبغي على الإنسان ألا يبطره المال فيفرح به فرح بطر وتكبر، بل عليه أن يدخره أو جزء منه للآخرة، ولا مانع من أن يبتغي به ما أحله الله تعالى في الحياة الدنيا، وأن يحسن به إلى خلق الله كما أحسن الله إليه؛ فأعطاه وأغناه، وألا يستخدم النعم في الإفساد في الأرض؛ فيكون قد غير وبدل، فقابل الإحسان بالإساءة، والعطاء بالمنع، والخير بالشر، ولا شك أن هذا مسلك لا يرضي الله تعالى، ولا بد من العقاب في الدنيا؛ حتى يكون الدرس عمليا حيا، والمثال واضحا والاستفادة كاملة.
قال تعالى: ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةࣲ یَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِینَ وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِینَ تَمَنَّوۡا۟ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ یَقُولُونَ وَیۡكَأَنَّ ٱللَّهَ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُۖ لَوۡلَاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَیۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَیۡكَأَنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ القصص ٨١-٨٢.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا من فضله، وأن يهدينا بهذا الرزق شكرا وتواضعا لخلقه، ثم أداء لحق الله فيه، وألا يحرمنا الأجر في الآخرة. إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
-----------------
أ.د. علي عثمان شحاته
القاهرة – جمهورية مصر العربية
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: