في الردّ على محسن مرزوق
المقدّمات الفاسدة لا تؤدي إلاّ إلى نتائج أفسد
أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1776
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نشر محسن مرزوق رئيس حزب المشروع الممثل في البرلمان التونسي ببعض النواب مقالا في جريدة المغرب بتاريخ 31 جانفي و2 فيفري 2021 يدعو فيه ما سماه الجيل السادس لبناء تونس الجديدة، وبالاطلاع على المقال وجدت أنه يحتاج إلى جملة من التصويبات من ناحية المعطيات التاريخية التي أوردها ومن ناحية النتائج السياسية التي ترتبت على مقدماته.
1) قال محسن: "لقد بدأت القصة الوطنية خلال القرن التاسع عشر بالأساس باكتشاف الذات اكتشاف (النحن) الوطنية في مقابل العدو المستعمر الغازي" الأمر الذي يعني أن الشعور الوطني بالانتماء إلى تونس ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهو كلام لا سند له فالشعور بالانتماء إلى إفريقية وتميّزها عن غيرها من البقاع الإسلامية ظهرت بواكيره منذ القرن الرابع للهجرة والعاشر ميلادي عندما خصّ أبو العرب القيرواني إفريقية القطر وتونس المدينة بالتأريخ لعلمائها في كتابه "طبقات علماء إفريقية وتونس" على غير عادة المؤرّخين الذين يؤرّخون للدول الإسلامية ككل مثل الطبري والمسعودي وغيرهما، ليظهر هذا الإحساس مؤشرا على بداية الشعور بذاتية متميزة آخذة في التشكل والتطوّر خصوصا في القرن السابع عشر عندما يخصّص ابن أبي دينار في كتابه " المؤنس في أخبار إفريقية وتونس" أبوابا للحديث عن إفريقية الأرض حدودها ومدنها... أو للحديث عمّا "تميّزت به الديار التونسية وما تفتخر به بين أحبابها" من عادات وتقاليد ليصل الأمر به إلى حدود التمييز بين التونسي والجزائري(1)، والمتأمل في المدوّنة الفكرية التونسية يلحظ أن تونس كانت حاضرة في العديد من الكتب كالحلل السندسية في الأخبار التونسية للوزير السراج أو نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأمصار لمحمود مقديش الذي خصّص ثلث كتابه للحديث عن تونس المدينة الأمر الذي يعني أن الذاتية التونسية والشعور بالانتماء إلى أرض لها حدود ومجموعة بشرية وحّد بين أفرادها التاريخ والعادات إنما هي عطاء ظروف تاريخية معقدة المضامين ومتشابكة الأحداث بُذرت بذورها على امتداد تاريخ الوطن ومن الخطأ ردّها إلى منتصف القرن الثامن عشر أو القول بأنها المقابل للمستعمر، فالشخصية التونسية متفرّدة صاغها التاريخ وعركتها الجغرافية فصنع منها كل ذلك كائنا أكسبه ثباته على هذه الأرض مضامين ثقافيّة وعقائديّة وعادات وتقاليد وآمال مستقبلية وَحَّدَت مشاعر التونسيين بما جعلهم يختلفون حتى عن أقرب جيرانهم فالحراك الاجتماعي في تونس مثلا هو غيره في مصر لوجود حركة نقابية قديمة ومؤثرة لدينا وهو غيره في لبنان لتوحّد التونسيين عرقا ولغة ودينا، فلا غرابة إن وجدنا الشيخ الثعالبي يقول بعد حديثه عن تاريخ الوطن والحضارات التي تعاقبت عليه: "وقد نشأ عن ذلك المزيج المتعاقب جنس ذو طابع خاص ومثل أعلى خاص رفض منذ قرون بكراهية كلّ محاولة ترمي إلى إدماجه وابتلاعه، إن الرغبة في إدماج التونسي وابتلاعه هي محاولة خيالية تشبه محاولة إدماج الفرنسي من طرف الياباني مثلا"(2) فالتونسي تونسي قبل الاستعمار وبعده.
2) طرح محسن سؤالا هو التالي: "لماذا تقدم الغرب وتأخرنا" حتى يمهّد لنفسه جوابا مُضمرا منذ البداية، والذي نراه أن هذا السؤال الذي دأب البعض من السلف على ترديده لا يحمل أي إجابة ولا يؤشر على وجود إشكال ينبغي حله بل هو تعبير عن الدهشة والبهتة لمّا قدم الآخر إلى بلادنا ممتطيا صهوة المدافع ومسلحا بالبنادق، ورغم الكتابات الكثيرة التي تناولت الموضوع فإنها لم تتمكن من حلّ هذه المعضلة لسببين اثنين:
أ ـ التقدم والتأخر وصفان مرتبطان بالفعل الإنساني وبحصيلة الجهد البشري في مختلف المجالات ولا علاقة لهما بالمكان أو بالجغرافيا.
ب ـ التقدم والتأخر قيمتان نسبيتان متداخلتان تجدهما في نفس البيئة لافتقادهما إلى مقياس مرجعي تتم العودة إليه.
غير أن الاستسهال أدى بالكثير ومن بينهم محسن مرزوق إلى القول بأن الإجابة عن هذا السؤال قسمت العالم العربي والإسلامي إلى شقين واحد يقول "لقد تأخرنا لأننا ابتعدنا عن الماضي وسيرة السلف الصالح.... أما إجابة الشق الثاني فكانت لأننا لم نحرر الإنسان بالتعليم والعلم والمساواة والحكم الصالح"(3) والحال أن هذا الجواب ملتبس هو الآخر لأنه استعمل مصطلحي التقدم والتأخر دون ضبط لهما وتحديد ففي الكتابات العربية الإسلامية يستعمل مصطلح المتقدمون للإشارة إلى السلف والمتأخرون للإشارة إلى من جاء بعدهم فتنقلب حركة الزمن ليصبح التقدم نحو الماضي والتأخر نحو الحاضر(4) والمستفاد مما ذكر أن هذه النظرة المانوية للأشياء تفسد النظر لمّا يتعلق الأمر بحركة البشر والفعل في التاريخ.
3) تبعا لما ذكر أعلاه قال محسن: "وإلى اليوم ما زال الصراع بين شق الإجابة ذات الطابع السلفي وشق الإجابة ذات الطابع المعاصر أو الحديث يلقي بكلاكله على المسألة الوطنية"(5) بحيث يذهب في ظن القارئ أن بلادنا عرفت صراعا كما ذكر والحال أن تونس لم تعرف هذا النوع من الصراع أبدا فجلّ الإصلاحات الحداثية التي عرفها الوطن ساهم فيها شيوخ الزيتونة ولم تجد معارضة منهم بل شاركوا فيها مشاركة فعالة بدءا بالمدرسة الحربية بباردو وتأسيس الرائد التونسي والصادقية إلى أن نصل إلى دولة الاستقلال حيث عرف الوطن جملة من الإصلاحات الهامة التي ساهم فيها منتسبو الزيتونة ولم تجد معارضة منهم بخلاف ما حصل في مصر حيث مارس الأزهر دورا معرقلا لكل نفس تقدمي استهدف الاتصال بالعصر وقيمه، أما المعارضات التي ظهرت لدينا في بعض الأحيان فسرعان ما تلاشت ولم تترك أثرا ككتاب الشيخ بن مراد عن الحدّاد أو حملة جريدة الاستقلال على مجلة الأحوال الشخصية بحيث يمكننا الجزم بأن فئة الشيوخ لدينا لم تكن مناهضة لمستجدات العصر فالزيتونيون ناضلوا وأضربوا من أجل إصلاح التعليم في مؤسستهم كما كانوا وقود الحركة الوطنية ومن الجدير بالإشارة إلى أن الزيتونة كما أنجبت قادة النهضة كالحداد والشابي والمهيدي وغيرهم فإن شيوخها تميز بعضهم بمواقف خالفت ما عليه جموع المؤسسات الدينية الرسمية في البلاد العربية والإسلامية فهذا الشيخ عثمان ابن الخوجة أحد أبرز شيوخ الزيتونة ينشر مقالا ناصر فيه كمال أتاتورك لمّا ألغى الخلافة العثمانية سنة 1924 قال الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور في حديثه عن الشيخ بأنه: "كتب في جريدة الزهرة يؤيد ما فعله الكماليون ويصرّح بأن الخلافة على وضعها الذي ألغيت به ليست دينية لفقدها الشوكة التي هي شرطها الأصل"(6) وذلك قبل أن ينشر علي عبد الرازق كتابه الذي أثار ضجة فشنت عليه حملة شارك فيها تونسيان بكتابين ومن الجدير بالملاحظة أن الصراع الذي تحدث عنه محسن دون أن يذكر تاريخه أو الفترة التي برز فيها لم يظهر على السطح إلا بظهور حركة الاتجاه الإسلامي التي تم استيرادها من الخارج في سبعينات القرن الماضي حيث نجد أن معارضتها لمجلة الأحوال الشخصية وغيرها من المسائل كتوحيد التعليم والقضاء وإلغاء الأوقاف لم يُصرَّح بها إلا بشكل خفي وباحتشام في ثنايا مقالات في مجلة المعرفة، ولكن الأمر اختلف بعد سنة 2011 كاشفا عن وجه قبيح وجد مقاومة وصدّا وردّا من قبل المدافعين عن المجتمع والدولة المدنية الذين هم أبناء مدرسة دولة الاستقلال.
4) تحدث محسن عن أجيال ستة في الحركة الوطنية وهو تقسيم اعتباطي لا سند له فالجيل الأوّل الذي ذكر من بين رموزه خير الدين وقابادو لم يتحدث عن تحرير المرأة فأغلب اهتماماته كانت منحصرة في تنظيم الدولة ومؤسساتها أما الجيل الثاني فذكر أن من بين رموزه بورقيبة وحشاد وهنا يخطئ محسن لأنه لم ينتبه إلى النخبة التي مثلها البشير صفر وعلي باش حامبة ومحمد الأصرم وغيرهم ودورهم الرئيسي في بعث الجرائد والجمعيات كحركة الشباب التونسي التي لعبت دورا أساسيا في إثبات الذاتية التونسية وساهمت: "أيّما إسهام في بلورة أوضح لمفهوم الأمة التونسية وفي الدفاع عنها"(7) من خلال جريدتها التونسي ومشاركة قادتها في المؤتمرات والكتابة في الجرائد عن التعليم وغير ذلك وهو ما أدى إلى تأسيس الحزب الحر الدستوري التونسي دون أن نغفل إنشاء الخلدونية وقدماء الصادقية والجمعيات المسرحية وغير ذلك فهذه المرحلة مفصلية في تاريخ تونس لأنها مهدت لبروز الجيل الذي سيقود معركة الاستقلال، وتتواصل رحلتنا مع هذا التفصيل العجائبي لنجد محسن يتحدث عن جيل ثالث من رموزه بورقيبة وابن علي والحال أن الرئيس السابق ابن علي لم يكن مبدعا أو منشئا مثل الزعيم بورقيبة بل كان متبعا واصل في نفس الاتجاه ولكن بدون جرأة سلفه ولا وضوح الرؤية والحسم فيها، أما الجيل الرابع فهو جيل محسن واليسار بصورة عامة الطلابي منه والنقابي أما الأضحوكة في مقال محسن فقوله بأن الجيل الخامس يمثله حزب النداء الذي أسّسه الباجي فيجهد محسن نفسه في تلميع صورته والتفتيش له عن الأعذار والمبررات للفشل الذي آل إليه يقول: "ولكن نخبة نداء تونس كان لها هدف رئيسي الإمساك بالسلطة فحسب"(8) دون أن يذكر السبب الحقيقي الذي أدى إلى فشل النداء وتشرذمه ممثلا في التحالف الموبوء مع حزب النهضة وهي نفس النتيجة التي يجنيها كل من اقترب أو تحالف مع الحزب المذكور، والمتأمل في الانتخابات التي جرت سنتي 2014 و2019 يلحظ بجلاء أن الشعار الذي رفعته القوى المدنية الحداثية هو إخراج حركة النهضة من دائرة الحكم وبهذا الشعار وحده فاز النداء وفاز ما يُسمى قلب تونس ولكن النكوص على الأعقاب مباشرة بعد إعلان النتائج يعود بالقوى المدنية قهرا إلى نقطة الصفر فهل يصحّ أن نطمئن لمن كان فاعلا في توافق سابق أدى بالبلاد إلى ما هي عليه من هوان؟، والغريب حقا أن محسن في حديثه عن الجيل السادس الموهوم الذي يقترح عليه بناء تونس الجديدة يحدد مهامه في قوله: "إن الصراع ضد الحركة الإخوانية ليس خيارا من الخيارات المتاحة أمام الحركة الوطنية التقدمية بل هو ضرورة لوجودها ومنذ وجودها لأن الحركات الإخوانية هي نقيض الفكرة الوطنية ذاتها"(9) وهو في قوله هذا يكشف عن انفصام مرضي بين القول والفعل لأن المتأمل في مسيرة محسن داخل الوطن وخارجه يلحظ بما لا يدع مجالا للشك أنه من بين الأعوان الذين اشتغلوا مع الإخوانجية وحلفائهم كقطر وغيرها وهو ما يفسر صعوده الصاروخي في توافق الباجي مع النهضة، واللافت للنظر أنه في فترة تأسيسه لحركته المشروع عاد إلى لوبانة اختلافه مع الإخوانجية جمعا للحرفاء والبُلّه ممن صدقوه ولكنه ما أن دخل مجلس النواب حتى اصطف وراء حليفه السابق والحالي راشد الغنوشي كما تدل على ذلك مواقف نواب حزب المشروع منه ومن بقائه على رأس مجلس باردو، غير أن المواقف العجائبية لمحسن تتجاوز كل الحدود حيث يقول: "الطريق الأفضل هو أن يتصدى لمهمة التغيير الكبرى المطلوبة جيش، نخبة منظمة"(10) وهو في قوله هذا يؤبّد بقاء الإخوانجية في الحكم فدعوة الجيش إلى التدخل في العملية السياسية محاذيرها كثيرة وخطيرة فجيشنا مهامه محدّدة لا تتجاوز حماية الوطن من أي خطر يتهدده وهو في هذه النقطة بالذات يختلف عن الجيش المصري الذي يحكم مصر منذ أيام محمد علي باشا إلى اليوم فهو العمود الفقري للدولة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا أما بالنسبة لتونس فالأمر مختلف تماما هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ذكر محسن النخبة المنظمة كطرف ثان للتغيير وهي النخبة التي يتم تدميرها بشكل منظم منذ سنة 2011 عن طريق المحاصرة والتجويع وهي جريمة ارتكبتها كل الحكومات المتعاقبة التي استهدفت الفعل الثقافي والتعليم في مختلف مراحله والإعلام إلا من رحم ربك فدجنت من رضي لنفسه أما من امتنع فهو يعاني من إكبات صوته والجرائم التي ارتكبت في حق الفكر والإبداع والتعليم لا عد لها ولا حصر.
قديما قال صالح عبد القدوس:
وإذا امرؤ لسَعته أفعى مرّة***تركته حين يُجَرُّ حَبْلٌ يَفرُقُ
الهوامش
1) "المؤنس في أخبار إفريقية وتونس" لابن أبي دينار، مطبعة الدولة التونسية 1286 هـ، ط1 ص287.
2) "تونس الشهيدة" ص284
3) جريدة المغرب بتاريخ 31 جانفي 2021 ص8.
4) دراسة بعنوان "مفهوم الزمن في الفكر العربي الإسلامي قديما وحديثا" لمحمود أمين العالم ضمن مؤلف جماعي عنوانه "دراسات في الإسلام"نشر دار الفارابي بيروت 1980،ط1 ص123.
5) المغرب نفس العدد ص8.
6) "الحركة الأدبية والفكرية في تونس" الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور، معهد الدراسات العربية العالية بجامعة الدول العربية، القاهرة 1956، ص127.
7) "تاريخ تونس" لمحمد الهادي الشريف، دار سراس للنشر تونس 1980، ص113.
8) المغرب نفس العدد ص9.
9) جريدة المغرب بتاريخ 2 فيفري 2021 ص11.
10) نفس الهامش السابق.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: