لا يمكن أن ننكر اليوم أمام ما يحدث في العراق ولبنان والجزائر وقبله في السودان أننا أمام الموجة الثورية الثانية للربيع العربي الذي انطلق في تونس. هذا الإقرار يعني أنّ حركة الثورات لا تزال متواصلة وأنّ زخمها آخذ في الارتفاع وأن رقعتها الجغرافية بصدد التمدد بعد أن بلغت مناطق لم تبلغها خلال الموجة الأولى.
لم تنجح المشاريع الانقلابية التي قادتها الثورات المضادة وأذرع الدولة العميقة في كسر شوكة الشارع وفي ترميم جدار الخوف الذي أسقطته الجماهير خلال الموجة الأولى. فالشعوب لم تعد تخاف القتل والقنص وأجهزة المخابرات واستوى عندها الموت والحياة بل نراها تواجه بصدور عارية جحافل القناصة والمليشيات وفرق الموت التي تحرس النظام الاستبدادي الإقليمي.
هذا الوضع الجديد الذي يقوم على أنقاض نتائج الموجة الأولى يحمل جملة من العناصر والمكونات والفواعل التي تستوجب القراءة والتأمل لأنها لا تكتفي بصناعة مرحلة جديدة بل إنها تصحّح وتقوّم المرحلة السابقة المتمثلة في الموجة الثورية الأولى.
الفواعل والخصائص
لا تكاد الموجة الجديدة تختلف في بنائها وشكلها عن الموجة السابقة فالفاعل الرئيسي على الأرض هي جماهير الشعوب الغاضبة بسبب تردي أوضاعها السياسية والاجتماعية والمعيشية بشكل عام. مطلبها الأساسي هو محاربة الفساد والحدّ من سطوة العصابات التي باعت البلد وثرواته واستولت على كل المرافق الحيوية بشكل انتشرت معه البطالة وانهارت القدرة الشرائية وعجزت الدولة عن توفير المرافق الأساسية من ماء وكهرباء في دول غنية بالموارد الطبيعية مثل الجزائر والعراق والسودان.
أما الخاصية الثانية فهي الشعارات المرفوعة في هذا الحراك والتي تصدّرها شعار الربيع الأساسي " الشعب يريد إسقاط النظام " وهي بذلك تربط الموجة الثورية الثانية بالموجة الأولى من حيث طبيعة المطالب التي تعتبر الفاعل السياسي أو السلطة الحاكمة مصدر الأزمة التي تعيشها المجتمعات.
لم تكن الموجة الشعبية الجديدة موجة عنيفة أو مسلحة بل كانت كسابقاتها موجة سلمية شارك فيها الملايين من المدنيين وهم يؤكدون من خلال شعاراتهم على الطابع السلمي لمطالبهم. لكن رغم ذلك لم تتردد الأنظمة في قمع المظاهرات السلمية بنفس الطريقة التي قمعت بها الموجة الأولى حيث اعتلى القناصة أسطح المنازل وأخذوا في قتل المدنيين العزّل بدم بارد مثلما حدث في السودان على يد قوات الدعم السريع أو ما يحدث اليوم في العراق.
حافظت الموجة الأولى على طابعها الشعبي ولم تكن تحركها الأحزاب أو النخب أو الزعامات السياسية أو الدينية بل إنها كانت تحركات قاعدية بامتياز بشكل يجعل من احتوائها أو شيطنتها أمرا صعبا. كما تميزت الموجة الثانية بتراجع حضور الجماعات الإسلامية التي سيطرت على المشهد الثوري خلال الموجة الأولى بل إن جموع المتظاهرين حرصت على أن تكون تحركاتهم مطلبيّة وسياسية دون خلفية أيديولوجية مهما كان لونها.
خاصية أخرى تميّز الموجة الجديدة خاصة في بلدين مثل العراق ولبنان حيث تمثل المعضلة الطائفية حاجزا أساسيا أمام كل تغيير سياسي جدي لكنّ شعارات الموجة الثانية كانت شعارات فوق طائفية بامتياز. هذه الخاصية الجديدة تعتبر نُقلة نوعية في الوعي السياسي الجمعي بهذه الدول أولا وبكامل المنطقة ثانيا لأن النجاح في تجاوز العقدة الطائفية يمثّل قفزة نوعية وتحولا جوهريا قادرا على إعادة صياغة بنية هذه المجتمعات وبنية ممارسة السلطة داخلها. هذا التحوّل سيمنع كل أشكال الانزلاق الطائفي التي سقطت فيها من قبل سواء بعد الاحتلال الأمريكي الإيراني لبغداد أو خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
المآلات والمخارج
لكن السؤال الذي يُطرح في هذا السياق الجديد إنما يتعلق بمخارج الموجة الجديدة ومآلاتها ؟ فهل ستستطيع الموجة الثورية الثانية تجنّب المطبات التي سقطت فيها الموجة الأولى ؟ هل ستسمح الدولة العميقة وقوى الثورة المضادة في المنطقة وخارجها بنجاح الموجة الشعبية ؟ ما هو هامش الحركة الذي لازالت تتمتع به الدولة العميقة لكسر شوكة الموجة الجديدة ؟
إن أول ما يلاحظ في المظاهرات الجديدة هو قدرتها على تصحيح الموجة الأولى من خلال رفضها المطلق لتسييس الحراك الشعبي مهما كان مصدره وهو ما يُحصّنها ضد أي شكل من أشكال القرصنة أو التوجيه أو المزايدة.
هذا الوعي الجديد لن يترك المنافذ مفتوحة لسيطرة المجموعات المحسوبة زورا على التيارات الإسلامية أو الجهادية أو غيرها من القوى التي تعمل على اختراق الحراك الثوري وتحويره عن مساره الحقيقي. وهو الأمر الذي لن يمكّن قوى الثورات المضادة من جعل هذه الجماعات شماعة لمحاربة الثورات وتبرير الانقلاب عليها مثلما حدث في مصر وليبيا وسوريا.
هذا الأمر يُضيّق من هامش المناورة لدى قوى الثورة المضادة التي لن تستطيع إعادة تسويق قائمة الذرائع التي اختلقتها خلال الموجة الأولى ونجحت عبرها في تحويل الثورات إلى ساحات للعنف والفوضى والاقتتال. لم تحقق كل الأموال التي صُرفت من أجل إجهاض الثورات ومنع تجددها الهدف المرجوّ منها كما أنّ العنف الذي سُلّط على جموع المتظاهرين والمدنيين خلال السنوات الماضية لم يُثن شعوبا أخرى عن الخروج مجددا للتنديد بالقمع والفساد ونهب الثروات.
من جهة أخرى مثّل نجاح الثورة التونسية وقدرتها على رسم مسارها الانتقالي بشكل ديمقراطي حرّ دليلا جديدا على أن الديمقراطية العربية أمر ممكن وأنّ القول السائد بأن الشعوب العربية عاجزة عن تحقيق حكم ديمقراطي ليس إلا أكذوبة كبيرة.
لئن كان من الصعب اليوم التكهن بالمخارج الممكنة للموجة الثورية الثانية فإن الثابت الأكيد هو قدرتها على تصحيح مسارات الموجة الأولى من ناحية ومحافظتها على نفس ثوابت الحركة. الثابت أيضا هو أنّ حركة التغيير العربية لن تتوقف حتى تنجز الشروط التي من أجلها انطلقت ولو كلّفها ذلك أكثر من موجة واحدة لأنها في الحقيقة حركة تاريخية وهي ككل حركة تاريخية لابدّ أن تحقق أهدافها التي اندلعت من أجلها.
نقف اليوم على أبواب مرحلة جديدة من تاريخ الاستقلال الحقيقي الذي تبحث فيه شعوب الأمة عن التحرر من قبضة المستعمر الداخلي الذي فاقت جرائمه كل جرائم المستعمر الخارجي. إنها المرحلة التي تسبق مرحلة التحرر من أغلال الداخل والخارج معا وهي المرحلة التي تحقق فيها الأمة أولى شروط النهضة المتمثل في امتلاك قرارها السيادي وممارسة حقها في تقرير مصيرها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: