د. ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2422
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قبل نحو عشرة سنوات، كنت أشاهد تقريراً في التلفزيون الألماني عن نمط معين من الدعارة في إحدى البلدان الأوربية المتقدمة. وهذا النمط كارثي يفوق في أضراره الاجتماعية المعروف عن الدعارة، ومن هنا بدأت أنتبه للبرنامج الذي يعرف المشاهدين والمستمعين عن أنواع عديدة من الدعارة.
والمشكلة تبدأ ليس من الدعارة المسموح بها، بحسب القانون الذي يتيح للإنسان أن يستخدم جسده كما يشاء في العمل، وحتى بعض الدول الأوربية صارت تكتب في حقل الوظيفة والعمل في هوية العاهرات كلمة (مومس ــ Prostitution) أي الاعتراف بها كمهنة. بيد أن ما تناوله التقرير التلفازي هو أن : فتيات قاصرات بعمر يتراوح بين 12 ـ 17 يمارسن الدعارة مرة واحدة في اليوم للحصول على ثمن سيكارة حشيش أو أصناف المخدرات، ولكن الأمر غالبا لا يتوقف عند هذا الحد بعد الإدمان، بل يتحول لأن تصبح القاصرة (الطفلة) عاهرة من أجل كسب أكثر للمال، وليس نادراً أن ينجم عن هذه الممارسات العشوائية لطفلة صغيرة عن حمل وولادة. في عاصمة أوربية هناك مراكز تسمى (رعاية الأمومة المبكرة)، ولدى الاستفسار عن عدد هذه المراكز في عاصمة تلك الدولة تبين أنها تقارب العشر مراكز ...!
التقرير الذي شاهدته يحث السلطات والجمعيات على بذل اهتمام أكبر، والآن يدور الحديث عن محاولة ضبط عملية الدعارة، أي الاهتمام بصحة الطفلة / الأم وإرشادها لوسائل منع الحمل وتجنب مأساة أن تكون الطفلة نفسها أم لطفلة، فأي طفولة هذه وأي أمومة ..؟ وفي وقتها دونت المعطيات والأرقام بدقة وأرسلتها لصحفي صديق في إحدى الأقطار العربية، ونشرها وفاز بالمرتبة الأولى لأفضل تقرير اجتماعي.
ولكن هناك أصعدة أخرى لممارسة الدعارة، فمن المعروف أن أسراب كثيفة من الفتيات من دول أوربا الشرقية ولا سيما أوكرانيا وبولونيا ورومانيا وحتى روسيا، هاجرن إلى الغرب، وخاصة ألمانيا بحثاً عن العمل وعن الثراء السريع. والعديد من هؤلاء الفتيات لديهن تأهيل جامعي، والكثير منهن طبيبات، وأعدادهن بالآلاف جئن إلى ألمانيا، ولكن الشهادات التي يحملنها غير معترف بها، فلم يتبق لهن إلا العمل المحدود جداً كمنظفات وخادمات في المستشفيات بأجور ضئيلة، أو اللجوء إلى البغاء والدعارة وهو طريق سهل ولا يحتاج لتأهيل وتدريس.
في البدء الفتاة المهاجرة بحاجة إلى المال النقدي لكي تغطي نفقات مجيئها إلى أوربا (ألمانيا وغيرها من الدول المتقدمة)، وتكاليف الإقامة الفورية من إيجار وشراء ثياب وأدوات الزينة، وهذه لوحدها يرتب على الفتاة ديناً قدره بضعة ألاف من اليورو، والمال تؤمنه جماعات (لنقل عصابات) يقدمون المال مقابل سحب جواز سفرهن، وتقديم السكن الذي هو عبارة عن ماخور (Bordel) والطعام واللباس، وهناك شيئ أهم بل هو النقطة الجوهرية، وتكمن في تقديم الحماية لهن، وثمن الحماية يكون نسبة مئوية من عائداتهن من الدعارة، وباقتطاع هذه النسبة، ودفع السكن والتأمين الطبي، واحتياجات أخرى، سوف لن يتبق للفتاة التي انزلقت تدريجياً إلى وادي الأحلام بالثراء، لتجد نفسها في هاوية الدعارة التي يصعب خلاصها منها، وكلما يمر الوقت، يزداد التصاقها بهذه البؤرة من السقوط، حتى يستسلم الكثير منهن لأقدارهن، ولكن هناك من يكافحن للخلاص من هذه الدوامة، والقليل جداً منهن يفلحن في تكوين مبلغ لا بأس به لتعود به إلى بلدها، وتفتتح لنفسها حياة جديدة.
راقبت مرة برنامجاً تتحدث فيه فتاة رومانية أنها هاجرت إلى إحدى البلدان الأوربية المتقدمة، وعملت بالدعارة لدرجة استنزفت صحتها ولكنها تمكنت واعتبرت نفسها موفقة وشاطرة، وذلك بأنها وفرت بعض المال وعادت إلى رومانيا واشترت شقة وفتحت دكاناً بسيطاً وتزوجت وأنجبت الأطفال، واعتبرت هذه الفتاة أنها قامت بعمل جيد .
هناك بين العاهرة والزبائن فئة من القوادين، والعصابات التي تمنع أو تسمح بممارسة البغاء في منطقة بعينها، وتقدم الحماية للعاهرات من الاعتداء عليهن بالضرب وحتى القتل أحياناً بدوافع مختلفة، وهذه تمارس على نطاق أكثر تنظيماً في الولايات المتحدة حيث تنظمها مافيات تجني منها ملايين الدولارات، وفي أوربا تجري ربما على نطاق أضيق من الولايات المتحدة، ولكن الابتزاز موجود على أية حال، وهذه عملية فساد يشترك فيها أصناف أخرى كرجال البلدية والحراس ..الخ
والدعارة لا تقتصر على النساء، بل والرجال أيضاً ليس على سبيل (القوادة) فهذه تمارسها النساء أيضاً، ولكن هناك دعارة الشذوذ الجنسي، وهذه يشترك بها الأولاد لممارسي الشذوذ الجنسي.
كما أن هناك صنفاً آخر من الدعارة، وذلك بأن يضع شبان / رجال قوتهم الجنسية للبيع، فهناك سيدات طاعنات في السن، يصعب عليها أن تجد صديقاً شاباً، أو أنها سيدة مجتمع، تريد توفير رغبتها الجنسية مع رجل مجهول، تمارس معه الجنس مقابل المال مرة واحدة ويختفي من حياتها، وبذلك تأمن عدم ابتزازها أو التشهير بها، وهؤلاء (الشبان / الرجال) يضعون أرقام هواتفهم في صفحات الإعلانات في الصحف والمجلات.
ولعالم الجنس وتجارته، ينتمي أيضاً ألاف المحلات المختصة ببيع مواد جنسية لا حصر لها، تبدأ بالمجلات والأفلام، وتنتهي بالحبوب التي تساعد على الجنس، أو أدوات جنسية من البلاستيك وغير ذلك من المواد تباع في ألاف المحلات المنتشرة في الشوارع، ويرتادها الناس رجالاً ونساء بلا حرج ويقتنون منها ما يشاؤون. وقد قرأت مرة أن هناك بضع مئات من أنواع الأعضاء التناسلية الذكرية، وهناك مثلها من الأنثوية بالإضافة إلى دمي ...وفقرات لا نهاية لها وتجد اعلاناتها في الصحافة والتلفاز.
من كل ذلك نصل إلى نتيجة، أن الجنس قد غدا صناعة، وهي تسمى هكذا، وإلى قطاع اقتصادي يشتغل بها ملايين الناس، والعاهرات (المومسات، من النساء والرجال) هن الفقرة الأضعف والمتعرضات للأستغلال الفضيع من فئة القوادين، وعصابات حماية الدعارة (مافيات وما أشبه) وهو ما تحاول بعض الحكومات الأوربية التدخل وإنقاذهن (العاهرات والعواهر) مما هم فيه من استغلال وابتزاز، وهي عملية لا تخلو من تعقيدات، وقوى متنفذة في الحياة الرأسمالية، تحول دون مثل هذه النوايا الطيبة ...! فبيع السلاح علناً في الولايات المتحدة له أضاره المعروفة وتشكو منظمات كثيرة منه، لكن الحكومة لا تصدر قانوناً بمنع بيعه، لأن شركات بيع الأسلحة لها (اللوبي) الخاص بها يدعمها في الكونغرس الأمريكي. يحول دون إصدار قوانين المنع، والمافيات لهم (اللوبيات) الخاصة بهم، ونفوذ رجال المال في السياسة قوي وله فعاليته.
في حين خطت بعض دور أوروبا خطوات نحو قانون حظر شراء الجنس، لا تزال ألمانيا بعيدة عنه. في عام 2002 صدر قانون ينظم ممارسة الدعارة داخل البلاد، لكن هذا القانون لم يوفر حماية أفضل للنساء والفتيات من الاستغلال. وهناك من يؤكد أن النساء يرغمن إرغاماً على الدعارة، وهدف القانون هو حماية تلك الفئة من النساء. كما لا يزال حظر الدعارة بعيد فهو يتعلق بحرية الإنسان استخدام جسده، واستخدام قوته.. وكما أن الإنسان يؤجر قواه للعمل والعيش، فهو يستخدم جسده في الربح عن طريق الجنس.
وتقول إحدى ضحايا ما يعرف بـ "طريقة الفتى المُحب"- وهذا هو الاسم الذي يُطلق على طريقة الاحتيال هذه، والتي تعرف انتشاراً واسعاً. أخذ الرجل الضحية إلى بيوت الدعارة، حيث كان على الشابة تقديم المتعة الجنسية إلى ما بين 400 إلى 500 رجل خلال أربعة أسابيع، كما ذكرت الفتاة (الضحية)، التي تبلغ اليوم، 29 عاماً، على منصة المؤتمر العالمي من أجل مناهضة التعذيب والاستغلال الجنسي للنساء والفتيات.
خلال المؤتمر، الذي يُعقد في مدينة ماينز الألمانية في الفترة من بين 2 إلى 5 أبريل/ نيسان، قالت الضحية: "في مرحلة ما يتوقف المرء عن الإحساس بذاته، إنه شعور يشبه إلى حد ما تدمير نفسك بنفسك". وحضر هذا المؤتمر حوالي 350 رجلاً وامرأة من مختلف المنظمات الدولية وجميعهم لديهم هدف واحد وهو حظر الدعارة في ألمانيا وإلغائها بشكل تام على المدى الطويل.
منذ تركها عالم الدعارة، تعمل الضحية أيضاً من أجل حظر الدعارة، و في مقابلة مع DW قالت: "يجب النظر للدعارة كما هي عليه: إنها عنف وانتهاك لكرامة الإنسان". وضم المشاركون في المؤتمر صوتهم إلى صوت نوراك مطالبين بحظر الدعارة، لأنها تبدأ دائماً بسبب الحاجة وتنتهي بالإكراه والاستغلال الجنسي للمرأة. وقالت إحدى راعيات مؤسسة مجلةEMMA النسوية، والتي شاركت في المؤتمر أيضاً: "الرجال لا يشترون الجنس، بل يشترون السلطة". وأضافت: "نحن نعيش في بلد، مجتمعه يتقبل الدعارة".
خلال المؤتمر، تحدث المشاركون عن الآثار النفسية والجسدية للدعارة. كما شاركت النساء، ممن تركن عالم الدعارة، تجاربهن. وفي نهاية المؤتمر، سيتم اعتماد بيان مشترك، مطلبه الرئيسي هو تبني ألمانيا مشروع قانون مكافحة الدعارة وتجارة الجنس، كما سبق وأن فعلت العديد من الدول الأخرى. ومن هذه الدول: فرنسا في عام 2016، إيرلندا في عام 2017. وفي السويد منذ 20 عاماً. ويتضمن القانون حظر شراء الجنس وهذا يختلف عن حظر الدعارة، إذ يُجرم شراء الخدمات الجنسية، ويعاقب من يحصل على الجنس لقاء المال، وليس بائعة الهوى.
كما من الصعب الإجابة عن مدى تقليص القانون السويدي للدعارة. في حين يقول بعض الخبراء أن الدعارة قد تحولت من الشارع إلى الشقق أو الإنترنت، هناك دراسات تتحدث عن تقلص سوق الجنس بشكل عام.
حتى عام 2002، كانت الدعارة في ألمانيا أمراً مخالفاً للآداب والأعراف. لكن بعدها عزز قانون الدعارة، حقوق بائعات الهوى وسن قوانين لتنظيم الخدمات الجنسية. ومنذ عام 2017، يوجد قانون حماية الدعارة، الذي يهدف إلى حماية النساء من العنف والإكراه. وبعده أصبحت بيوت الدعارة تحتاج إلى تصريح للعمل، كما ينبغي على المومسات تسجيل أنفسهن والحصول على شهادة للعمل. في السنة الأولى بعد بدء العمل بالقانون، لم يتم تسجيل سوى حوالي سبعة آلاف امرأة، من عدد الداعرات المتراوح بين مئتي ألف ومليون مومس في ألمانيا. ولا يزال قانون الدعارة في ألمانيا، واحداً من أكثر قوانين الدعارة ليبرالية، إذ تعد ألمانيا "ماخور أوروبا". وذلك لأن ما بين 80 و90 % من بائعات الهوى يأتين من الخارج، وقد وصل العديد منهن ألمانيا عبر التهريب في ظروف قسرية وغير إنسانية.
الحكومة الألمانية ترى أن حظر شراء الجنس قد يكون أمراً خاطئاً، كما قال متحدث باسم وزارة شؤون الأسرة قبل بضعة أيام، بأن الخطر يكمن في "تعرض بائعات الجنس للاستغلال بطرق غير قانونية ووقوع مخاطر هذه المهنة على عاتقهن من دون حماية".
يجد المشاركون في المؤتمر هذه الحجة، ساذجة وكذلك الحجة الواسعة الانتشار، والتي تفيد بأن العديد من النساء يمتهن الدعارة بمحض إرادتهن. وتقول سيدة من مؤسسة "جمعية التضامن مع النساء في محنة":(SOLWODI) "أعتني بالنساء اللائي تعرضن للاستغلال منذ أربعة وثلاثون عاماً". وأضافت في مقابلة مع DW: "اليوم أقول: ليس هناك امرأة واحدة تفعل ذلك بمحض إرادتها".
من جهته يرى مؤسس "جمعية الفقر والصحة في ألمانيا"، أن الفقر هو الدافع القوي للامتهان الدعارة، ويقول: "نحن نعلم أنه باستمرار هناك نساء يمارسن الدعارة، من أجل العيش فقط، لأن المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الدولة لم تعد كافية حقاً للعيش في هذا المجتمع". كما دعا ترابرت إلى إلغاء الدعارة وإعادة النظر إلى صورة المرأة داخل المجتمع: "نحن بحاجة إلى صورة مختلفة عن المرأة، خاصة لدى الشباب: إنها ليست كائن لإشباع الرغبة، وإنما كائن مستقل وأنه لا علاقة للحب، باستغلال المرأة وممارسة العنف بحقها".
اتفق المشاركون في المؤتمر على المطالبة بحظر شراء الجنس. كما حظيت إمكانية رفع دعوى دستورية بثناء واسع. ويرى المشاركون أن لوبي الدعارة يقف وراء منع التشريعات الأكثر صرامة في ألمانيا. وتقول نوراك: "هذا القانون يعطي للرجل الحق في ممارسة الجنس وأنه بإمكانه استخدام المرأة في أي وقت ثم التخلص منه كعلبة سجائر".
في ألمانيا تعمل جمعيات (Hydra) و(BUFAS) على مساواة العمل في الدعارة مع أشكال العمل الأخرى تدريجياً. حظر شراء الجنس أو حظر الدعارة يرفضونه بشكل صارم. وتقول إحدى المهتمات بهذا الوضع " أنه لم يعد بإمكان النساء الدفاع عن أنفسهن بشكل صحيح، لأنهن يعملن ضمن نطاق غير قانوني ومنبوذات اجتماعياً . وإذا وضع المرء في زاوية قذرة ولم يستطع أو يسمح له بالتحدث، فهو غير محمي. لهذا تجد النساء أنفسهن في ظروف أكثر صعوبة".
ودائماً هناك أراء مختلفة، وتقول مهتمة أخرى على موضوعة أن ممارسة الدعارة تكون دائماً بالإكراه، وقالت: "هناك بعض النساء لا يفكرن في القرار بشكل صحيح، لهذا تُسأل النساء في الاستشارة الأولية دائماً عن دوافعهن. لكن لا أرى أن الدعارة تؤذي جميع النساء. ويمكن للبعض التعامل بشكل جيد مع الوسط، ووضع الحدود للآخرين، مما يجعلهن يعشن في حالة جيدة " .
وترد أخرى لها تجربتها الخاصة على مثل هذه التصريحات، وتقول: "ما رأيته منذ ست سنوات هو أنه لا وجود لما يسمى بالدعارة الجيدة"، وأنها لم تكن مقبولة أبداً لأي امرأة التقت بها.
اليوم، تدرس صاحبة التجربة القانون، وتريد نسيان فترة عملها في الدعارة. تشعر اليوم بأنها أفضل، كما قالت في حديثها. "لكن لا يمكن نسيان ما حدث بالفعل".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ أستفدنا من بعض مواد وكالة الأنباء الألمانية (معلومات وإحصاءات) ............. الكاتب
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: