انتخاب سعاد عبد الرحيم: بين حداثة النخبة وحداثة الشعب
سمية الغنوشي المشاهدات: 3118
ليس من المبالغة القول بأن انتخاب سعاد عبد الرحيم، مرشحة حركة النهضة، على رأس بلدية العاصمة تونس؛ يمثل حدثا استثنائيا في العالم العربي، ليس فقط من جهة تولي امرأة لهذا المنصب الرفيع، لأول مرة منذ تأسيس مشيخة الحاضرة سنة 1789 (والتي سُميت بلدية تونس عام 1858)، بل الأهم من كل ذلك ما يحمله هذا الحدث من رمزية سياسية أشمل وأعم تتعلق بالتوجهات الحداثية والديمقراطية في تونس، وربما في العالم العربي الأوسع.
صعود سعاد عبد الرحيم، الصيدلانية التي قدمت للعاصمة في بواكير طفولتها من مدينة المطوية التابعة لولاية قابس في الجنوب التونسي، إنما يعكس من جهة تحولات التركيبة والاجتماعية التي تمر بها العاصمة وعموم البلاد التونسية نتيجة مجموعة من العوامل المتداخلة، مثلما يعكس دخول ديناميكيات اجتماعية وثقافية جديدة إلى عموم المشهد التونسي.
من بين هذه العوامل اتساع حركة الهجرة الداخلية، وخصوصا باتجاه العاصمة والمدن الكبرى، وانتشار التعليم والتمركز الحضري واقتحام المرأة سوق العمل والفضاءات العامة وغيرها، بعدما كانت الحاضرة حكرا على شريحة ضيقة من سكانها؛ تسمى فئة البلدية، ظل رموزها يتداولون على رئاسة بلديتها منذ أن أنشئت قبل 299 عاما.
صاحب انتخاب سعاد عبد الرحيم سجال واسع غمر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي؛ حول مدى أحقية امرأة بتولي هذا المنصب الرفيع، ثم حول مشروعية تبوؤ شخص من خارج العائلات العريقة للعاصمة رئاسة بلديتها.
فقد غدا من قبيل البديهيات أن يكون هذا الموقع حكرا على الرجال أولا، وأبناء الطبقات الأرستقراطية للعاصمة؛ التي فقدت بعامل الوقت قاعدة الوجاهة والامتياز الاجتماعي مع اتجاه العاصمة نحو الاختلاط والتعدد، شأنها في ذلك شأن كبريات المدن التونسية.
ومن المفارقات العجيبة أن من اعتبروا أنفسهم حاملي مشروع الحداثة والتنوير والتقدم هم من انبرى للاعتراض على انتخاب عبد الرحيم بحجج واهية، حتى قال ممثل عن حزب نداء تونس: "للأسف نحن مجتمع مسلم، وكيف يمكن لامرأة في منصب رئيس بلدية أن تدخل جامع الزيتونة للاحتفال بليلة القدر؟"، فيما اعترض المسرحي المعروف رجاء فرحات قائلا: "كيف يمكن قبول تولي من هو من غير فئة البلدية لهذا الموقع الرفيع؟".
وعلى الجهة الأخرى، نجد أن حركة النهضة التي يدعي خصومها بأنها معادية لمشروع الحداثة وتحرير المرأة؛ هي التي صعدت ما يزيد عن 40 امرأة من أصل 60 (ما يفوق ثلثي النساء الفائزات) لتولي رئاسة المجالس البلدية في مختلف جهات البلاد، بما في ذلك في بعض الدوائر البلدية في مدن الداخل والتجمعات السكانية الصغيرة التي تسود فيها ثقافة ذكوريّة محافظة، تماما مثلما قدمت العدد الأكبر من النساء في المجلس التأسيسي، ثم البرلمان.
الحقيقة هي أن حركة النهضة، كقوة اجتماعية فاعلة، هي التي تقوم بالدور الأكبر في مسار إقحام المرأة في الحياة العامة؛ ومنحها موقعا وصوتا في إدارة الشأن العام. وهي اليوم الرافعة لتطوير الثقافة العامة باتجاه تحررية نسوية تنساب في أعماق المجتمع، دون ضجيج الخطابات وصخب الشعارات وجلبة صالونات النخب... إنها بمعنى آخر المحرك الرئيسي لمشروع الديمقراطية وإقحام أوسع الكتل في الحقل السياسي والمشاركة العامة.
ثمة مسافة هائلة تفصل بين ما يمكن تسميته بأيديولوجيا الحداثة، وبين الحامل التاريخي والفعلي للحداثة، كما في الديمقراطية.
المفارقة هي أن الكثير ممن يدعون الحداثة أو يسعون لاحتكار خطابها هم في الواقع عقبة كأداء أمام امتدادها، وعائق أمام استفادة من هم خارج أسوارهم العالية من ثمارها.
في المقابل، يمثل من يصنفون، في إطار التجاذبات السياسية والأيديولوجية، على أنهم "معادون للحداثة"، المحرك الرئيسي لمشروع الحداثة الفعلية.
الحداثة بمعناها الواسع، تعني في وجه من وجوهها الرئيسيّة مشاركة عامة الشعب في إدارة الشأن العام، وإعطائه سلطة في اختيار ممثليه. وهي تحرير لإرادة المرأة من سلطة الإكراه الرجولي (سلطة الأب والزوج والابن) وتقرير مصيرها بنفسها.
وهي بهذا المعنى فعل وإنجاز تاريخي، لا محض شعارات نخبوية أو خطابات تجميلية.
الحداثة نضال عملي وميداني لتنزيل المطالب التحررية على أرض الواقع، وفي الميدان، قبل أن تكون مقولات نظرية مجردة ومعلقة في السماء.
لقد تبين جليا أن القوى التي تدعي تبني مقولات التنوير وشعارات النسوية تدافع واقعا عن حداثة احتكارية ونخبوية، وتقف في وجه مشروع الحداثة الفعلية والأفقية، متجندة لإبقائها ناديا مغلقا تنحصر عضويته عليها هي.
إن تجربة التحديث في العالم العربي، لاعتبارات تاريخية معروفة، ومنها امتزاجها في حالات كثيرة بموجة الاجتياح الاستعماري، قد ارتبطت في بدايتها بالوجاهة الاجتماعية وامتيازات بعض فئات المدن دون غيرها.
وقد بقيت حكرا على هذه المجموعات النخبوية الحضرية الضيقة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالإدارات الاستعمارية أولا، ثم بامتيازات الدولة المركزية لاحقا، مقابل أغلبية اجتماعية مهمشة مفقرة غير متعلمة. لذا ترى هذه النخب في المشاركة الشعبية واقتحام الكتل الجماهيرية الفضاءات العامة تهديدا لمواقعها "الحداثية" الحصينة.
ورغم امتداد مسار الحداثة، تناسبا مع انتشار التعليم وانخفاض معدلات الفقر والعوز وامتداد مستوى التمركز الحضري في المدن، إلا أن ذلك لم يخرج هذا المشروع من طابعه الفئوي المحدود، سواء تعلق الأمر بالنخب ذات الحظوة الاجتماعية، أو نخب الحكم وحاشيتها.
المعضلة الكبرى أمامنا اليوم، وهي لا تعني تونس فقط بل عموم المنطقة العربية، تتعلق بالقدرة على تفكيك الأسيجة الاحتكارية للحداثة، بغية تعميم مكاسبها على المجتمع برمته، أو على أوسع نطاق منه، مثل المشاركة السياسية وتحرر المراة وتعميم التعليم، وغيرها. فالعنوان الرئيسي للحداثة هو الديمقراطية والمشاركة العامة، وتحرر النسوة من الضغوطات والإكراهات المجتمعية.
إن ما نشهده في تونس، من تجربة للحكم المحلي وإعطاء صوت للجهات المحرومة والفئات المفقرة في إدارة شؤونها المحلية، قفزة هامة باتجاه افتكاك ثمار الحداثة من نخب الحظوة والجاه وتعميم ثمارها إلى عموم الشعب.
كما أن اختيار سعاد عبد الرحيم لرئاسة المجلس البلدي لمدينة تونس، كبرى مدن البلاد وعاصمتها، مؤشر بليغ على تصدع الجدر السميكة لأيديولوجيا الحداثة وتهاوي قلاعها المنيعة، لصالح حداثة فعلية جادة غير معنية بالشعارات الرنانة الطنانة، متصالحة مع ثقافة المجتمع، ملتصقة بهمومه معبرة عن أولوياته..
وبهذا المعنى تمثل حركة النهضة الحامل التاريخي والفعلي لمشروع الحداثة في تونس، تقود مشروعا تتجاوز صلاحيته المحلي إلى الإطار العربي الأوسع، تماما كما كانت الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر المحرك الرئيس للأفكار ومسالك الحياة الجديدة التي اقتحمت المجتمعات الإسلامية وسطرت وجهتها المستقبلية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: