مع إقرار مجلس النواب العراقي لقانون الحشد الشعبي (الشيعي) نكون قد غادرنا حقبة عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي ودخلنا مرحلة دولة المليشيات الإيرانية فبموجب القانون الجديد الذي حظي بتصويت 170 نائبا من أصل 208 نواب حضروا جلسة البرلمان البالغ عدد أعضائه 328 في ظل مقاطعة معظم النواب السنة باتت فصائل وتشكيلات الحشد الشعبي "كيانات قانونية تتمتع بالحقوق وتلتزم بالواجبات باعتبارها قوة رديفة وساندة للقوات الأمنية العراقية ولها الحق في الحفاظ على هويتها وخصوصيتها مادام ذلك لا يشكل تهديدا للأمن الوطني العراقي، وقد اعتبر نواب تحالف القوى العراقية (السني) إقرار البرلمان للقانون "نسفا للشراكة الوطنية".
لم يكن ممكنا تحول العراق إلى دولة مليشيات شيعية دون المرور بحقبة عراق ما بعد الاحتلال التي وطدت أركان نظرية "الإرهاب السني" فقد عمدت الولايات المتحدة كقوة إحتلال إلى تفكيك الدولة والمجتمع العراقي عبر استثمار التعدد العرقي الإثني والديني المذهبي كعامل هدم من خلال بناء العملية السياسية على أسس هوياتية مزدوجة عبر تأكيد الهويات العرقية الإثنية وانقساماتها بين عرب وكرد بصورة أساسية وترسيخ الاختلافات الهوياتية الدينية المذهبية بين السنة والشيعة بشكل رئيسي وفي الوقت الذي مكنت فيه الولايات المتحدة الكرد من إدارة إقليم شبه مستقل تمت مكافأة الشيعة وتمكينهم من الحكم بعد مساندة مرجعياتهم للاحتلال أما السنة فقد جرى تهميشهم كإجراء عقابي لانخراطهم في النظام السابق ومعارضتهم للاحتلال وعقب خروج قوات الاحتلال الأمريكي من العراق باتت الدولة العراقية رهينة للسيطرة الإيرانية التي سارت على ذات النهج الهوياتي بالتنسيق مع دكتاتورية المالكي الذي دفع بالمسألة الطائفية إلى حدودها القصوى وخليفته العبادي الذي أصبح أسيرا للمليشيات.
دولة المليشيات الشيعية لم تكن ممكنة لإيران دون مساعدة الولايات المتحدة ودون التلاعب بالمكونات الشيعية ومرجعياتها الدينية فقد استثمرت إيران فتوى "وجوب الجهاد الكفائي" التي أصدرها آية الله العظمى علي السيستاني في 13حزيران/ يونيو 2014 لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" بعد سيطرته على الموصل حيث تم تأسيس لجنة لـوحدات الحشد الشعبي منبثقة عن مكتب رئيس الوزراء لإضفاء الطابع المؤسساتي على التعبئة الشعبية والطابع الرسمي داخل "قوات الأمن العراقية" وقد استثمرت إيران الفتوى لتشكيل جيش رديف للجيش العراقي وعملت على تنظيمه والإشراف عليه رغم أن قيادتها الدينية والسياسية لم تكن على اتفاق مع مرجعية النجف بسبب الاختلاف حول نظرية "ولاية الفقيه" والموقف من الثورة الإيرانية فمرجعية السيستاني تمثل امتدادا فكريا لمرجعية سلفه الخوئي وغيره من المرجعيات أمثال محسن الحكيم.
هكذا فإن إيران تلاعبت بفتوى "الجهاد الكفائي" وتشكيلات "الحشد الشعبي" لصالح مشروع "الولي الفقيه" وتولت تأسيسه والإشراف عليه من خلال الجنرال قاسم سليماني الذي أعاد بناء المليشيات الشيعية المرتبطة بإيران ومرجعيته وقد تنبهت مرجعية السيستاني لاستثمار الفتوى مبكرا فبعد ثلاثة أيام من صدور الفتوى أكدت أن فتواها كانت فتوى جهاد دفاعي لا بدائي لأن الأخير من شأن الإمام المنتظر وعندما استغلت الفتوى لتشكيل "الحشد الشعبي" عبرت المرجعية عن قلقها في 4 تموز/ يوليو2014 وقالت: "نؤكّد مرّةً أخرى ضرورة تنظيم عملية التطوع وإدراج المتطوعين ضمن تشكيلات الجيش والقوات الأمنية الرسمية" وفي 11 تموز/ يوليو2014 إعادت التأكيد بالقول: "لقد أوضحنا أكثر من مرة أن الدعوة للتطوع في صفوف القوات العسكرية والأمنية العراقية إنما كانت لغرض حماية العراقيين من مختلف الطوائف والأعراق وحماية أعراضهم ومقدساتهم من الإرهابيين الغرباء ومن هنا نؤكد على جميع المقاتلين في القوات المسلحة ومن التحق بهم من المتطوعين.. جميعاً ضرورة الالتزام التام والصارم برعاية حقوق المواطنين جميعاً وعدم التجاوز على أي مواطنٍ بريءٍ مهما كان انتماؤه المذهبي".
لقد خرجت فتوى مرجعية السيستاني عن مقاصدها وعملت إيران على التلاعب بالفتوى وباتت مليشيات الحشد الشيعي جيش رديف بقيادة إيرانية وبهذا تم تهميش الجيش العراقي على الرغم من أن معظم مكوناته شيعية لكن ولاءاته مختلطة ومع إقرار قانون "الحشد الشعبي" فقد أصبح لإيران جيش بمواصفات "الباسيج" يتفوق على قوات الجيش والشرطة ويحتفظ بولائه لإيران وولاية الفقيه.
دولة المليشيات الشيعية كانت أمرا واقعا في عراق ما بعد الاحتلال لكنها احتاجت شرعنة قانونية وأغطية سياسية فمليشيات "الحشد الشعبي" التي يبلغ عدد أفرادها 110 آلاف شخص الممتلكة إيرانيا تتكون من عدد من المليشيات النافذة أمثال "منظمة بدر" بقيادة هادي العامري الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق التي تضم قرابة 20 ألف مقاتل وقد عملت على إحكام سيطرتها على محافظة ديالى وحولتها لإمارة تابعة لـها تقع خارج سيطرة الدولة كما أنها تمتلك نفوذا واسعا على وزارة الداخلية التي يديرها محمد الغبان وهو أحد مساعدي العامري، أما المليشيات التي يقودها أبو مهدي المهندس والتي يبلغ عددها حوالي 20 ألف مقاتل فهي تتبع قاسم سليماني مباشرة وعلى الرغم من كون المهندس مدرج على لائحة الولايات المتحدة للإرهاب لكن ذلك لم يمنع من التعاون معه أمريكيا وهو يعمل جاهدا على تحويل لجنة رئيس الوزراء لـوحدات الحشد الشعبي إلى وزارة دائمة على غرار قوات "الباسيج" أو "الحرس الثوري الإيراني".
أما المكونات الأخرى للحشد الشعبي فهي "عصائب أهل الحق" بقيادة قيس الخزعلي وهي مليشيا منشقة عن "جيش المهدي" التابعة للتيار الصدري عملت على دعم نظام الأسد والقتال مع حزب الله اللبناني وتتبع ولاية الفقيه آية الله الخامنئي، وتعتبر مليشيا "سرايا السلام" أحد مكونات الحشد خرجت من رحم "جيش المهدي" فقد أعلن مقتدى الصدر الاسم الجديد في 11 حزيران/يونيو 2014 ، وهناك مليشيا "كتائب حزب الله ــ العراق" ويقلد أفرادها آية الله الخامنئي ويحظى بدعم إيراني وحزب الله اللبناني، ومن المليشيات المكونة للحشد الشعبي "حركة حزب الله ــ النجباء" وهي حركة كانت قد انشقت عن "عصائب أهل الحق" خلال عام 2013 ويقودها أكرم الكعبي، وثمة عدد من المليشيات الأصغر المجاميع أمثال "سرايا عاشوراء" و"سرايا أنصار العقيدة "و"سرايا الجهاد" وهي تعمل تحت راية المجلس الأعلى، إلى جانب المليشيات المعروفة السابقة تكونت مجموعة من المتطوعين الشيعة في إطار "الحشد الشعبي" الذي ويبلغ عددها حوالي 40 ألف مقاتل يعمل نصفهم تحت قيادة رئيس الوزراء ووزير الدفاع وتضم ما يُسمى "قوات الفتوى".
على الرغم من محاولة الولايات المتحدة تقليص حجم ونفوذ الحشد الشعبي إلا أن ذلك لم يكن ممكنا تحت ضغط المليشيات التابعة لإيران فقد أسفرت المفاوضات على الميزانية العراقية لعام 2016 عن نجاح أبو مهدي المهندس وهادي العامري بموافقة رئيس الوزراء حيدر العبادي على تخصيص ميزانية أكبر للحشد الشعبي بلغت 2 مليار دولار رغم التخفيضات الشاملة التي أقرت في ظل برنامج التقشف في العراق حيث ارتفعت رواتب أفراد الحشد لتشمل 120 ألف شخص.
يحفل سجل مليشيا "الحشد الشعبي" الشيعي في العراق تحفل بانتهاكات ترقى إلى جرائم تطهير عرقي بحق السنة في المدن التي تمت استعادة السيطرة عليها من تنظيم الدولة الإسلامية بحسب منظمات حقوقية محلية ودولية فقد اتهمت أطراف سنية عراقية ومنظمات حقوقية وهيئات دولية على رأسها الأمم المتحدة الحشد الشعبي بارتكاب جرائم عدة على خلفية طائفية ضد المدنيين السنة خلال الفترة ما بين 2014 و2016 تنوعت بين التعذيب والإخفاء القسري وقتل مدنيين وأسرى تحت التعذيب ونهب مدن وبلدات قبل حرق ونسف آلاف المنازل والمحال بها ولم تسلم مساجد السنة من التدمير والحرق على أيدي الحشد الشعبي إضافة إلى تدمير قرى بالكامل ومنع النازحين من العودة إلى مدنهم وقراهم بهدف تغيير التركيبة السكانية لتلك المدن لكن ذلك لم يكن كافيا في عراق ما بعد الاحتلال الذي بات فيه للسنة هوية إرهابوية مستباحة وحيوات عارية من حقوق المواطنة تبرر استدخال الحشد الشيعي رغم التحفظات المكررة على مشاركتها في القتال.
خلاصة القول أن إقرار قانون الحشد الشعبي يؤشر على نهاية عراق ما بعد الاحتلال وبروز عراق المليشيات الشيعية ويمثل تجسيدا للسيطرة والهيمنة الإيرانية المطلقة على ما تبقى من العراق ويعتبر نهاية لأوهام الشراكة السنية وخرافات العملية السياسية ويكشف عن بؤس سنة المشاركة ويؤسس لتدشين مكونات سنية إيرانية ويدفع إلى مزيد من تأكيدات الهوية السنيّة ويقود إلى مزيد من الخيارات الراديكالية السنية وهكذا فإن كافة الطرق العراقية تقود إلى تنامي أطروحات تنظيم الدولة الإسلامية.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: