يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في مثل هذه الأيام سنة 2003 باشرت جحافل البغي والشر معاودة جريمتها الكبرى بحق العراق الأشم أرضا وشعبا وجيشا ونظاما وتاريخا وحضارات لتصب جام حقدها العنصري الوحشي عبر استهداف بلاد الرافدين على كل العرب؛ ولقد استنفذ الطغاة البغاة مخزونهم الحربي القاتل وجهزوا مختلف قدراتهم التدميرية الفتاكة لتمزيق العراق وتقطيع أوصاله وأثخنوا جراحه.
لقد ارتكبت قوى الاستعمار المتكالبة في العراق ما لم يخطر ببال بعد نجاح الامبريالية والصهيونية في تغييب الضمير الإنساني وتركيز النظام العالمي الجديد أحادي القطبية بعد تفتيت الاتحاد السوفييتي وتحييد كل الأقطاب المزعجة ولو باستحياء كالصين والبرازيل والهند وغيرهما؛ حيث ضربت عرض الحائط بكل الشرائع والمواثيق والأعراف مندفعة لما بين النهرين بنهم في التقتيل والتشريد والاغتصابات وزرع الفتن بتلاوينها المختلفة والمتخلفة معا على شاكلة النزاعات المذهبية والطائفية والعرقية وغيرها من الخلطة الفسيفسائية التي تميز العراق.
فلم تتورع عواصم الحداثة والحضارات الكاذبة ومن رفعوا الشعارات البراقة الرنانة طويلا؛ عن استخدام الأسلحة المحرمة دوليا من يوارنيوم وأسلحة إشعاعية شديدة الفتك يضيق المجال لتعدادها ولكن يكفي التذكير بأنها كانت معدة لمنازلة الاتحاد السوفييتي وهي ما تعرف بالأسلحة الاستراتيجية؛ وتفصح أعداد الشهداء الخيالية المفزعة وما نتج عن ذلك العدوان البربري الغادر من أمراض سرطانية مستحدثة تظهر لأول مرة؛ عن الوجه القبيح الحقيقي لهذا الغرب اللاديمقراطي المتأصل في الوحشية والكراهية والانحطاط الروحي والمستهتر بأبسط حقوق الشعوب والأمم الأخرى.
لقد هيأ الأمريكان بقدراتهم الإعلامية الهائلة الرأي العام الدولي وحتى العربي لتقبل غزو العراق وتدميره بعد أن فبركت علاقة نظامه وقيادته بالإرهاب خصوصا بعد مسرحية أحداث سبتمبر أيلول 2001؛ وخيل للمتابعين أن إدارة المجرم بوش ذاهبة لخوض حرب مقدسة بأمر من الرب وقد زاره في المنام؛ لذلك ورغم مساعي الأحرار في العالم لمعارضة تلك الهجمة الشعواء؛ أقدم الأمريكان على ما عزموا عليه ليغرق العراق في بحور من الدماء وسلسلة من الفوضى والمآسي التي لا تنتهي.
وبالعودة لحيثيات تلك الجريمة؛ نستذكر تبريرات إدارة بوش الصغير وذرائعها حيث بشرت العراقيين بنعيم من الديمقراطية والرفاهية والحداثة والحرية؛ كما وعدت المجتمع الدولي بعالم أكثر أمنا ورخاء برحيل صدام حسين ونظامه الديكتاتوري الدموي. وبعد هذه السنوات؛ ما الذي جناه العراقيون وكيف غدا حال العالم؟ ببساطة واقتضاب شديدين؛ تتحدث حالة العراقيين أفضل من كل الكتابات والتحليلات وتكشف قوافل الموتى وأعداد الثكالى والأرامل والأيتام والأسرى والنازحين والمهجرين والمنفيين عن الحقيقة عارية؛ وهو ما ثبت حالة من الحسرات والندم الكبير لدى عموم العراقيين الذين باتوا يحنون لأشد أيامهم سوء (إن وجدت) مع نظام صدام حسين؛ بل ويا لسخرية الأيام؛ فأعتى معارضي نظام العراق الوطني بل ومبغضوه باتوا يعضون أناملهم أسفا لما ارتكبوه بحق بلدهم وأنفسهم ولا يترددون عن تراشق الاتهامات فيما بينهم ويعير بعضهم بعضا فيقارنون بينهم وبين صدام حسين ورفاقه ليقروا بخستهم ووضاعتهم ودناءتهم معترفين بسمو خصومهم وبطولاتهم وأمانتهم..
وبالقدر ذاته؛ اكتشف العالم بعربه وعجمه حجم التضليل والخداع الذين مارستهما الامبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية والدوائر السابحة في أفلاكهما؛ وقد تأكدت فضيحة تقرير المجرم باول في الأمم المتحدة وعلاقة نظام العراق بالقاعدة؛ ويكفي للتدليل على همجية قرار غزو العراق؛ الإحالة على الملصقات الدعائية الانتخايية العملاقة للحزب الديمقراطي يجرم من خلالها الحزب الجمهوري وسياساته وهي ملصقات لصور شهيد العراق والعرب والعالم الحر صدام حسين. وتتحدث تلك الملصقات عن أن العالم كان سيكون حقا أكثر أمنا لو لم يعدم صدام حسين ولم يستبح العراق ولو تكف آمريكا عن انتهاكها للقوانين وتحترم سيادة الدول وخيارات الشعوب.
أطلق الأمريكان عنوان "الصدمة والترويع" رهانا منهم على العامل النفسي لكسر روح شعب العراق وحمله على الاستسلام؛ لكنهم فوجئوا بأن العراقيين جيشا وقيادة وشعبا لم يستقبلوا الغزاة وعلوجهم بأكاليل الغار والورد كما زعموا؛ بل على العكس تماما عالجهم نشامى بلاد ما بين النهرين وحرائرها بالبنادق والنار وشراسة المقاومين الصابرين المؤمنين فتساقطت جيف علوج المعتدين وتناثرت وتبعثرت أعناقهم على امتداد سواد أرض بابل وحمورابي وأكاد من أم قصر لزاخو..وانطلقت كتائب مقاومة العراق العظيم منذ اليوم الأول للغزو تسطر الملحمة تلو الملحمة في بغداد والأنبار والفلوجة وصلاح الدين وديالى وبعقوبة وواسط وسامراء والكوت وغيرها ما دفع الأمريكان رغم الاختلال في موازين القوى اختلالا لا لبس فيه للفرار من جحيم المستنقع العراقي ليوكلوا مهمة إتمام المخطط الجهنمي للفرس الصفويين المجرمين الحاقدين. وبالقدر الذي تحولت استراتيجيات العدو وتكتيكاته؛ كانت المقاومة تتفاعل بثبات ومرونة وإدراك وذكاء أسطوري لتثخن في الفرس ونغولهم طالجراح غائرة ومفتوحة أبديا..
إنه من الضرورة بمكان أن نقف عند الصدمة والترويع عنوان حملة الغدر الجديدة التي انطلقت في 2003؛ فهي لم تكن تعني أبدا العراق ولا تتوقف عند حدوده وهذا ما حذر منه العراق وحزب البعث العربي الاشتراكي دون استثمار ذلك ولا التدبر فيه؛ فالصدمة والترويع كانت أشمل وأكبر وأوسع مدى وهي حملة مخصصة للأمة العربية كان العراق منطلقها..
لا غرو في القول ولا شطط إن أكدنا على أن الدمار والخراب المفزع الذي ضرب أمصار الأمة الأخرى وإن كانت نتيجة حتمية لاستباحة العراق فإنها تكملة طبيعية لتلك الخطة المبتكرة بمسمى الصدمة والترويع. وإن الفوضى العارمة التي تجرف سورية وليبيا واليمن وبقية الأقطار بدرجات أقل عنفا لهي الحجة الدامغة على ذلك؛ حيث شكلت التنظيمات الارهابية الدموية الغادرة أدوات الترويع وآلة الصدمة بيد رعاة الجريمة الدولية وخصوصا داعش وما سيتولد من رحمها. ولكن وكما امتص العراقيون الصدمة والترويع وأجهضوا مراميها فإن جماهير شعبنا العربي ستمتص تلك الدسيسة وستتجاوز مخلفاتها مهما غلت التضحيات.
---------
تونس في 20/3/2016
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: