يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
من أساطير العرب الأقدمين أنهم كانوا يزعمون أن عظام القتيل الذي لم يؤخذ بثأره تصير طائرًا يصيح عند قبر هذا القتيل، ويردِّد طلب السقيا. فإذا أُخِذَ بالثأر شال ذلك الطائر وغاب، فيسكن الصوت الصائح الخصيم.
وأذكر اليوم ذلك لمناسبة ما ورد من اعتداءات اليهود على العرب، ومن أن مؤتمرًا عُقِدَ للِجَان الهدنة العربية بدمشق، للنظر في أمور اللاجئين ومصائرهم وطرائق غوثهم، وما قد يقع عليهم من عدوان. وقد ألمحت الجرائد إلى تمسُّك هؤلاء اللاجئين العرب بالعودة إلى ديارهم في فلسطين، وبمطالبتهم بتجنيد فريق منهم ليصبحوا نواة جيش لتحريرها. ولَعَلَّ في هذا المطلب ما يدل على الحالة النفسية التي يجب أن يكون منها مركز الهداية الصحيحة لمن يريدون أن يتصدَّوْا للنظر في أمر اللاجئين. وليست مسألتهم بعيدة عن الخاطر، أو غائبة عن الضمائر، ومحنتهم ليست من المحن التي يسهُل على الأيام أن تُسدَل عليها ستارٌ من النسيان، فقد تكونت جمعيات لغوثهم، وتألفت منظمات لتزويدهم بالغذاء والكساء والإيواء، ونشطت هيئات لرفع ثقافاتهم وتنشيط معنوياتهم. وما خلت الأرض يومًا من أهل النخوة ولم تقحل من الخيِّرين الذين يألمون لمن يألم، ويتغبطون بنعمة من ينعم.
على أنني أفترض أن أهل البِر من الجماعات والأفراد قد بلغوا الغاية العليا من تحقيق هدفهم في إسداء البر والمعروف، وإيصال أطيب العون لمن يستحقُّون، وتزويدهم بخير ما يزود به الإنسان من وسائل التثقيف والتهذيب، أفيجدي ذلك في تخفيف الآلام عن نفوس تتحرق لوعة، وتذوب حنينًا لتعود إلى ديار لا يعوضهم عنها شيء مهما عَلَت قيمته؟ وهل من جدوى للهناء إذا خفت آلام الإشباع، وظلَّت تتحسر النفوس والأرواح؟ وعلى ذلك فإن أي اقتراح لا يُبنى على أساس ما يحسه اللاجئون ويطلبونه من ضرورة العودة إلى بلادهم، لا يكون أساسًا سليمًا لما يُقَرَّرُ في أمور اللاجئين، بل إن أغنى ما يُعرَض عليهم من وسائل العون والتنعيم لا تغنيهم شيئًا عن العودة إلى أوطانهم، بل إن وجودهم فيها في أقسى الحرمان أرضى لنفوسهم وأصلح لقلوبهم من اغتراب مفروض.
إن الدعوة إلى المبادئ الإنسانية في التوحيد بين بني البشر وفي تعميم السلام بين الناس، لا تتم ما لم يحترم البعض وطنية غيرهم، ويقدروا ولع هذا الغير بدياره، وتعلقه بآثاره.
وإنه ما لم يكن لذلك أكبر التقدير في عمل من يعملون لأجل اللاجئين، فسيكون منهم ومن نسلهم من يحملون البغضاء، وتتحرك منهم نوازع العداء، ويطالبون كما تطلب هامَة العرب بالثأر وبالدماء، وكما تصيح وتهتف يصيحون ويهتفون:
يا عمرو إلَّا تدع شتمي ومنقصتي***أضربْك حتى تقول الهامة اسقوني
------------
جريدة الأهرام
١٢ يوليو ١٩٥٢
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: