د. خــالد الطراولي
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10347 ktraouli@yahoo.fr
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يسرنا انضمام الدكتور خالد الطراولي إلى كوكبة كتاب موقع بوابتي، والدكتور الطراولي مفكر تونسي معروف، يتميز بعمق تحاليله وأصالة توجهاته، و المقال الذي بين أيدينا هو باكورة مقالاته بموقعنا.
مشرف موقع بوابتي
دور الفرد في تحول الأمم وتحضرها
المجتمع تكتل أفراد، والحضارة ثمرة سلوكيات ومواقف وممارسات جماعية وفردية، حيث لا يهيمن صنف على صنف، بقدر ما للمجموعة من تأثير على مسار التحضر، فإن للفرد بصماته التي كثيرا ما تكون أساسية في انطلاقة مشوار حضاري وتمكنه وتواصله.
لن نختلف على دور النخبة في الإقلاع، إلا أن هذه الدفعة الأولى الضررورية لإيجاد حركية في المجتمع، يمكن أن تموت أو تنحصر أو يقل إشعاعها وتأثيرها، إذا لم يتبعها الفرد ويستلم منها مسؤولية الحراك والإبداع في مواقفه وسلوكياته وأفكاره.
ليس الفرد القائد لقاطرة التحضر هو فقط ذلك الشخص المنعزل في غرفة القيادة والتسيير، ليس فقط الماسك بالمقود والمسئول، ليس فقط الحاكم صاحب السلطة والصولجان ولا المحكوم صاحب الصيت والدرجات العلى، إنما الفرد كل ذلك وأقل. هو الفرد في بيته، في مخبره، في مصنعه، في متجره في مزرعته، هو الفرد في السوق، في الطريق، في الشاطئ، في الملعب، هو الفرد الفقير المعوز والغني المترفّه، هو الفرد الصغير والكبير، هو الحاكم والمحكوم، هو السائل والمسئول، هو المعلم والتلميذ، هو الأب والابن، هو الزوج والزوجة، هو كل ذلك وزيادة! ذلك هو الفرد العادي والعادي جدا في المجتمع، لبنة صالحة مصلحة، إذا أحسنت دورها وعرفت موقعها، وأجادت مساهمتها، وفقهت بيئتها ومحيطها.
لم تبنَ الحضارات بالنوايا الحسنة ولا بالتنظيرات الهلامية ولا بالآمال الفضفاضة ولا بالأوامر الفوقية، ولكن بالدور الفعال والجاد والمتواصل للفرد الواعي والفرد المسئول والفرد الحامل لمنظومة قيمية حازمة... ذلك هو رجل الحضارة كما يعرفه مالك بن نبي رحمه الله: "عندما يتحرك رجل الفطرة ويأخذ طريقه لكي يصبح رجل حضارة فانه لا زاد له سوى التراب والوقت وإرادته لتلك الحركة" [1] ولكم في تاريخنا الطويل في أيام مجده وفي ليالي نكوصه أمثلة عن هيمنة الدور الإيجابي للفرد في فترات التحضر، ثم انسحاب هذا الفرد عن دائرة الفعل ودخوله الدهاليز وخروجه من التاريخ، فخرجت أمة كلها من التاريخ!
كانت ثقافة المسؤولية وعقلية المبادرة الفردية غرسا أثبته المقدس القولي والفعلي حيث "لاتزر وازرة وزر أخرى" وحيث "يا فاطمة بنت محمد اعملي فلست أغني لك من الله شيئا" وحيث "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله"... فكانت هذه الشذرات وغيرها دعامات هذا البرنامج التكويني للفرد الصالح والمبادر والمصلح والذي سعى بعد حين لبناء حضارة.
ولكم استوقفتني تلك الآية العجيبة والجامعة لقوانين التغيير الاجتماعي [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم] حيث تلتقي الصيغة الفردية للتغيير، فلكل فرد نفس يغيرها، مع الصيغة الجماعية في تغيير المجموعة لهذه الأنفس مجتمعة. هذه المنهجية السليمة التي فقهها أجدادنا في أيام ماضية فتعلقوا بالثريا، ثم لما تناسوها أو تجاهلوها سقطوا على الثرى ولا زلنا نواصل معهم هذا السقوط إلى حين!!
لقد كان هذا الفرد المسئول حاضرا في التاريخ، عبر بيئته ومحيطه الصغير فساهم بلبنته الصغيرة في بناء الصرح الأعظم فكانت مؤسسات الوقف في التاريخ الإسلامي أكبر تجليات هذه المساهمة الفردية الخيرية رغم طابعها الجمعياتي، ووقفنا مندهشين على أكثر من باب ونحن نسمع عن طرائف تقترب من ألأسطورة أو الأحلام لو لم يثبتها قلم المؤرخ والمدقق، ومنها دون الحصر أوقاف "لعلاج الحيوانات المريضة أو إطعامها أو لرعيها حين عجزها" وأوقاف" لتحسين أحوال المساجين ورفع مستواهم وتغذيتهم بالغذاء الواجب لصيانة صحتهم..."[2]
ثم غابت شمس المسؤولية والوعي الفردي والجماعي، فغابت معها شمس الأمة ودخلت السراديب وأغلقت النوافذ حتى لا يدخل النور أو النسيم العليل! ولم تعد تجد سوى قصص الرداءة والتخلف، واتقلت عجلة الزمان إلى ضفاف أخرى وأقوام ليسوا من جنسنا...ولعله بتطابق مذهل بين هذه القصص وهي تحكي أيام المجد وأيام النكوص، وبين ما يعيشه اليوم قوم من غير أرضنا وسمائنا وهم يخطون حضارتهم بأنسجة من ذهب، وما يعيشه الفرد في ديارنا من غيبة لا تزال منعقدة وغيبوبة لا موقظ لها. وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بفاعلين آخرين...
لا تقرأوا فقط قصص الرواد والناجحين والعلماء والقادة و لا تقتصروا على دور النخبة في عمارة الأرض وما ساهم فيه رواد عصر النهضة والثورة الصناعية التي تلتها من إشعاع وتغيير وإصلاح، ولكن اقتربوا من تلك الصور الجميلة للفرد البسيط وهو يحاول أن يبني محيطه ويثوّره ويساهم في تطوره وديمومته، اقتربوا من الفرد وهو يحرص أن يضع نفاية سيغارته، أو قطعة من الورق، أو زجاجة شراب في أقرب حاوية، حتى لا يوسّخ الشارع الذي هو محيطه الذي يشاركه فيه آخرون.. انظروا إلى ذلك الفرد وهو في سيارته يتوقف أمام أضواء المرور الحمراء في مفترق طريق قروي في ساعة متأخرة من الليل حيث لا بشر غير أشباح الأشجار ولا رقيب غير رقابة الضمير، ويبقى ينتظر حتى يسمح له الضوء الأخضر بالمرور! والقائمة تطول...
هذه عينات لامستها عن قرب ورأيتها بأم عيني، وهي ليست انبهارا حتى لا نقذف من هذا الباب، فهي ليست بلاد جن ولا ملائكة، ولكن بلاد المسؤولية إلى حين، وهو أيضا تذكير بأن الحضارة مواقف وسلوكيات أفراد، وأنه رغم الخلل الذي نلمسه ولا شك في هذه الحضارة، غير أن قوى الوقوف والبناء لا تزال هي المهيمنة والغالبة وأن معقلها الأول والأساسي هو الفرد. ويوم ينهزم الفرد وتقل مسئوليته ويرتج دوره فإن كل البناء سوف يسقط كما تسقط أوراق الخريف بعد فصول الاخضرار والحياة.
الفرد المسئول هو الذي يصنع الحدث ليدخل بقومه التاريخ من أوسع باب، والفرد المهزوم لا يولد إلا مجتمعات فاشلة، وهذه المسؤولية لا يمكن أن تجد مرتعا خصبا وأداء فعالا إلا لم يصطحبها إطار من الحرية. ولهذا كانت ولا تزال عملية تغيير المجتمعات وليدة تهيئة إطار سليم وقابلية فرد ومجموعة وهيمنة ثقافة وتشكل عقلية.
د. خــالد الطراولي
ktraouli@yahoo.fr
هـــوامش :
[1] مالك بن نبي "شروط النهضة" دار الفكر سورية، الطبعة الرابعة، 1987، ص: 67.
[2] مصطفى السباعي "من روائع حضارتنا" دار الوراق ودار السلام الطبعة الأولى، القاهرة، 1998، ص: 98 ـ 99.
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
20-12-2007 / 11:20:40 ben hassine
C'est claire; en fait on est tous responsable quelque part pour assumer la reussite de notre civilisation et de notre culture arabo musulmane...mais je pense le fait d'affirmer ceci c'est de la theorie et ça ne peut porter nulle part; à part le fait qu'il ya des ecrits et de la litterature..à mon avis il nous manque les outils et les methodes pour l'adapter à notre réalité et à notre situation..ceci aussi n'est possible que si tout le monde participe democratiquement à donner son avis et ses idees et que tout le monde sorte de la passivité...ce qui est le rôle principal des politiques et des institutions du pays..b h
18-12-2007 / 06:58:42 أبو محمد
السيد الدكتور الطراولي،
كنت كلما قرأت لمفكرين تونسيين اشمأزت نفسي، ففريق يدعو إلى العلمانية و الإلحاد و إلى اتخاذ الدين لعبا و لهوا و آخر يدعو إلى دولة إسلامية تكوينها أقرب إلى الخيال و كأنهم يقولون للشيئ كن فيكون و الواقع أن مطالبهم بالأساس سياسية مصبوغة بألوان الدين.
أنتم سيدي الفاضل مسكتم العصا من الوسط فقلتم أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر و أن الجميع مخطئ حاكما كان أو محكوما و الجميع مسؤول عن التغيير، قد عبرتم سيدي عما يختلج في نفسي و في نفس الكثير فشكرا جزيلا.
رجائي أن تتحفونا بالمزيد من مقالاتكم فكم نحن في حاجة إليها في زمن كدنا نفقد الأمل في المفكر التونسي
20-12-2007 / 11:20:40 ben hassine