الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أمــا بعــد :
كان من طبيعة عمر بن عبد العزيز - يرحمه الله – (1) وهو أمير للمؤمنين أن يحاسب ولاته – على الأقاليم والبلاد التابعة للدولة الإسلامية - حسابا دقيقا، ويراقب أعمالهم وتصرفاتهم، ويتابع شؤون البلاد والعباد، استشعارا منه لمسؤلية ولي الأمر تجاه من يلي أمرهم، يروى عنه أنه سأل يوما " يحيى ابن سعد " وكان أميرا على مصر ..سأله عمر عندما قدم إليه من مصر : كيف تركت الناس في مصر ؟ يسأله عن أحوال الشعب من خلفه، عن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ومستوى معيشتهم، فأجاب يحى قائلا : ياأمير المؤمنين تركتهم بخير حال والحمد لله :غنيهم موفور....وفقيرهم مجبور...وظالمهم مقهور ...ومظلومهم منصور (2)،
وإذا ما أعدنا التفكير في تلك الكلمات النيرات التي صاغها يراع هذا الوالي المؤمن واصفا أحوال الرعية في ولايته، لوجنا أنها إنما تصف لنا مجتمعا مثاليا أو على الأقل أقرب ما يكون إلى المثالية،
نحن أمام نموذج من نماذج " دولة الرعاية " Welfare State كما نصفها بالتعبير الحديث، تلك الدولة التي ترى نفسها مسؤولة مسؤولية كاملة عن رعيتها ومواطنيها الذين يعيشون في كنفها، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وانثاهم، برهم وفاجرهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، بل حتى ظالمهم ومظلومهم،
إنها الدولة التي ينعم فيها الجميع – بلا أدنى تفرقة أو تمييز لأي سبب من الأسباب - بكافة ما لهم من حقوق، ويؤدون ما عليهم من واجبات، يظللهم العدل والقسطاس المستقيم ، وتغشاهم الرحمة، ويتمتعون بنوعية حياة تليق بمكانة الإنسان وكرامته، فلا ظلم ولا قهر، ولا استبداد ولا طغيان، ولا تمييز ولا محسوبية، ولا تقاعس ولا خمول،
ولنراجع معا هذا الوصف البليغ والمبهر لحال شعب يعيش في كنف دولة تعرف مسؤليتها، وتراقب ربها، وتنهض بما عليها من أعباء، تكفل لأبنائها حقوقهم، وتؤمن لهم احتياجاتهم، وتفرض سلطة القانون الذي ينبغي أن يسري على الجميع بلا أدنى استثناءات،
عرفت ووعت وجسدت واقعا قول قائدها الأكبر، ومعلمها الأول، وقدوتها الطيبة، وأسوتها الحسنة، رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالهدى ودين الحق ليظهره الله على الدين كله ولو كره الكافرون، حين قال : " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " ( الحديث عن عائشة، وأخرجه مسلم، وصححه الألباني ) (3)،
إنها دولة جسدت واقعا تعاليم دينها، وقيم إسلامها، وأخلاق عقيدتها، فكانت النتيجة كما رأينا، صورة مشرقة لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الذي تظلله قيم الإسلام، ويعرف فيه كل إنسان دوره ومسؤليته،
إنها أوصاف نزعم أنها أصبحت اليوم غريبة في دنيا الناس غربة الأيتام على موائد اللئام، ونزعم أيضا أن كافة المجتمعات الإنسانية اليوم ترنو إليها وتتطلع إلى أن تصل إلى هذا المستوى من نوعية الحياة التي جسدها هذا الموقف، فمن من الناس لا يريد أن يأمن الغني في مجتمعه ودولته على ماله وثروته وممتلكاته، ومن من الناس لا يتطلع إلى أن يتمتع الفقراء بحقهم في العيش الكريم الذي تؤمنه لهم دولتهم التي يعيشون في كنفها، ومن ذا – من العقلاء - الذي لا يريد للظلم أن ينقشع، وللظالم أن يمنع من الظلم، وللمظلوم أن يجد من يقف إلى جواره ناصرا له، وحاميا من ويلات الظلم والجور والاستغلال والقهر،
فماذا قالت الرواية في وصف أهل مصر على لسان المسؤول الأول عنهم : حاكمهم وولي أمرهم، لنرى ونتأمل :
* فغنيهم موفور :
لأنه يعيش في مجتمع يحترم قيمة العمل والكسب، ويحمي ثمرة جهد الإنسان وعمله ما دام يمارس عملا شريفا أحله الله، ومادام يؤدي زكاة ماله التي فرضها الله عليه ، فيحرص على أداء ما عليه من حقوق الفقراء والضعفاء والمعوزين التي شرعها الله عز وجل، الأمر الذي ينعكس حتما على أحوال معيشة الفقراء، فيصبح الفقير مجبورا، تغطي كافة احتياجاته ومطالبه بواسطة زكاة المال التي يخرجها الأغنياء كحق في أموالهم للسائل والفقير والمحروم، ورحم الله الداعية الشهير " الشيخ كشك " الذي كان يقول : " والله لو أكرمنا كتاب الله ما أهاننا أحد، ولو طبقنا أحكامه لرفرفت راية الحبيب محمد على كل بلد، ولو اتبعنا هدي الله ما رأيت في الطريق سائلا، ولا في البيوت عاطلا، ولا في السجون قاتلا "، ونحن نقول لو أخرج كل مسلم يملك أموالا زكاة ماله كما فرضها الله عليه ما رأيت في المجتمع المسلم فقيرا يتكفف الناس، ولا متسولا يطلب من الناس ما يسد رمقه،
ويخطئ من يظن أن الإسلام يحارب الغنى والثراء، بل يحث الناس على العمل وعلى الكسب وعلى امتلاك المال واستثماره بما يعود بالنفع على صاحب المال وعلى المجتمع الذي يعيش فيه،
" إن الاسلام حرص علي مداومة صاحب المال لاستثمار أمواله ليعود النفع له أولا ثم المجتمع ثانيا، ومن حق ولي الأمر في الدولة التدخل لحمل المالك علي مداومة استثمار ماله لمنع الضرر، وحماية المصلحة العامة لأن الدولة تطبق مبادئ الشريعة في تحقيق اهدافها لخير المجتمع الإنساني، ولقد أقر الإسلام الملكية الخاصة، واحترامها، وحافظ عليها بشروط ثلاثة :
- الأول : أن تكون مكتسبة بالطرائق المشروعة،
- الثاني : أن يقوم الفرد بالحفاظ عليها بالاستثمار، وينميها بالطرائق المشروعة كذلك - بعيدا عن كل ما حرم الله من الطرق والوسائل كالربا مثلا - وذلك حفظاً للثروة، وتنفيذاً لمبدأ (التعبئة العامة) لجميع الجهود، وجميع الموارد في سبيل الصالح العام،
- الثالث : أن يخرج زكاة ماله كما شرع الله تعالى، قال تعالى : {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم }( المعارج : 24 )، وقال تعالى : {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ }( الذاريات : 19 )،
فالدولة في الإسلام لا تتعدى على ثروات الأفراد وتسلبهم إياها كما تفعل بعض الأنظمة البشرية فتؤمم أملاك الأفراد وثرواتهم، وإنما تحمي تلك الأملاك والثروات، مادمت توافرت لها الشروط التي ذكرناها آنفا،
بل إن الإسلام حرص على أن يترك الإنسان أبناءه وورثته أغنياء خير من أن يذرهم خلفه فقراء، فها هو الصحابي الجليل " سعد بن أبي وقاص " رضي الله عنه لما مرض في حجة الوداع، وخشي أن يكون وفاته هناك، فعاده الرسول عليه السلام وقال له ( أي سعد ) : يا رسول الله أريد أن أوصي بمالي، قال : لا، قال : فالنصف ؟ قال : لا، قال : فالثلث؟ قال : الثلث والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون أيدي الناس " (4)،
* وفقيرهم مجبور :
لماذا ؟ لأنه لا يجد نفسه وحيدا في مواجهة الفقر والحاجة، وإنما هو يلقى من المجتمع ومن الدولة ما يعينه على مواجهة فقره والتخلص منه، والقضاء عليه، فإن كان قادرا على الكسب والعمل فالمجتمع المسلم والدولة الإسلامية مسؤولة عن توفير فرص العمل والكسب، ومواجهة ظاهرة البطالة وعلاجها بالأساليب الناجعة، وإن لم لم يكن في حالة تسمح له بالعمل والكسب كأن يكون مريضا مقعدا، أو معوقا، أو ضعيفا، أو شيخا كبيرا لا يقوى على العمل، أو طفلا صغيرا يتيما، .....إلخ، هنا يتدخل المجتمع والدولة لرعاية وتلبية احتياجاته من بيت المال الذي يمول من أموال الزكاة، وتاريخ المسلمين ملئ بالمواقف العملية التي تؤكد مسؤولية المجتمع والدولة عن رعاية مواطنيها، (5)
فعلى مستوى الدولة والحاكم : ها هو أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يفرض لكل طفل يولد في الإسلام نصيبا من بيت مال المسلمين .. وكفل المحتاجين والمعوزين من فقراء المسلمين، بل كفل الفقراء من أهل الكتاب وقال قولته الشهيرة التي أصبحت مثلا وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها، قال : ما أنصفناهم إن أخذنا منهم الجزية في شبابهم، وتركناهم في شيخوختهم (6)،
وعلى مستوى المجتمع والأمة، وفقيرهم مجبور لأن المجتمع المسلم يستشعر مسؤوليته عن رعاية الفقراء والفئات المستضعفة من أبنائه ومواطنيه وتأمين اجتياجاتهم، تجسيدا لقوله تعالى في وصف الأبرار من عباده : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً }( الإنسان : 8 – 10 )، وعشرات الآيات الأخرى في كتاب الله التي تحض على إعانة الفقير، وإغاثة الملهوف، ورعاية الضعفاء، والمساكين والأرامل والأيتام، وتجسيدا للحديث الشريف : " ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به " ( الحديث عن أنس رضي الله عنه وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة )،
* وظالمهم مقهور :
لأن الدولة في الإسلام مسؤولة عن نشر العدل في ربوع البلاد، وأن تأخذ على يده وتطبق عليه حدود الله تعالى بما يردع كل من تسول له نفسه ظلم الناس، والاعتداء عليهم بأي صورة من صور الاعتداء والجور والظلم، وما دام الأمر كذلك فإن كل مظلوم سيكون منصورا بالضرورة فيؤخذ له حقه من الظالم، وفي الحديث : " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال رجل : يا رسول الله " صلى الله عليه وسلم " أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال : تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره " (7)،
لقد ربَّى الإسلام أبناءه على أنّهم أفراد في مجموعة، وأنّهم أجزاء من هذه الجماعة الكبيرة، فالمسلم بشعوره أنّه جزء من الجماعة يحبّ للأجزاء الأخرى مثل ما يحبّ لنفسه، وإنّ انتماء المسلم للجماعة يترتّب عليه حقوق وواجبات، ومن أعظمها واجب التناصر بين المسلمين، ففي الحديث القدسي الشريف : " قال ربكم : وعزتي وجلالي! لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم يفعل " ( الحديث ضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة )،
- وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنكم تقرؤونَ هذهِ الْآيَة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }( المائدة : 105 )، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ " ( رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أبي دَاوُد : " إِذا رَأَوْا الظَّالِم فَم يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ "، وَفِي أُخْرَى لَهُ : " مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ "، وَفِي أُخْرَى لَهُ : " مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ مِمَّن يعمله " ( الحديث صححه الألباني ) (8)،
* ومظلومهم منصور :
فالاسلام دين العدل، والمجتمع المسلم مجتمع العدالة والانصاف، قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }( النحل : 90 )، وفي الحديث : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة " ( الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، صححه الألباني، في صحيح الجامع الصغير وزيادته )،
وهكذا أوجب الإسلام على المسلم نصرة المظلوم، ففي الحديث : " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجلد جلدة واحدة، فامتلأ قبره عليه نارا، فلما ارتفع عنه وأفاق قال : علام جلدتموني؟ قالوا: إنك صليت صلاة واحدة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره " ( الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة )،
ونختم جولتنا مع هذا الموقف بتقرير حقيقتين :
- الأولى : أن هذا الموقف يجلي لنا جانبا من القيم الإسلامية التي تشكل في حقيقتها مقومات أساسية لكل تجمع إنساني يتطلع إلى التقدم والنهضة والاستقرار والرقي، تلك القيم تتمثل في :
* قيمة العمل والسعي والاكتساب، ومحاربة البطالة والكسل والخمول والتسول، وتهيئة الفرص الملائمة لأصحاب الأموال لاستثمارها وتنميتها فيما أحل الله تعالى، وحماية الدولة الإسلامية للملكية الخاصة، وثروات الأغنياء من أبنائها ما دامت من طرق حلال، وماداموا يخرجون منها الزكاة التي شرعها الإسلام كحق للفقراء والمحتاجين،
* قيمة حماية الفقراء والمعوزين ورعايتهم وتلبية احتياجاتهم، واعتبار ذلك من حقوقهم على المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، وهو ما يعرف بالمصطلحات الحديثة بالرعاية الاجتماعية،
* قيمة الشعور بالمسؤلية الاجتماعية للحاكم والمحكوم في المجتمع الإسلامي،
* قيمة الرقابة والمتابعة ومحاربة الفساد، ومحاسبة الولاة والموظفين،
* قيمة العدل والانصاف، وتأمين الحقوق لأصحابها، ومحاربة الظلم، والضرب على أيدي الظالمين،
* قيمة نصرة المظلومين والمقهورين والمستضعفين في المجتمع،
- أما الحقيقة الثانية : فهي الحرص على تحكيم كتاب الله تعالى في كل أمر من الأمور، وترسيخ قيمة العدل وتأمين الحقوق وحمايتها، وإنصاف المظلوم، فهذا هو الخليفة الرَّاشد عمر بن عبد العزيز الملقب بخامس الخلفاء الراشدين، يدخل على خليفة المسلمين وأمير المؤمنين " سليمان بن عبد الملك " وعنده أيوب ابنه - وعمر يومئذ وليُّ عهده، قد عُقِد له من بعده - فجاء إنسان يطلب ميراثًا من بعض نساء الخلفاء، فقال سليمان : ما إخال النِّساء يرثن في العقار شيئًا، فقال عمر بن عبد العزيز : سبحان الله، وأين كتاب الله؟ فقال : يا غلام، اذهب فأْتني بسجلِّ عبد الملك بن مروان الذي كتب في ذلك، فقال له عمر: لكأنَّك أرسلت إلى المصحف؟ قال أيوب ( ابن سليمان ) : والله ليوشكنَّ الرَّجل يتكلَّم بمثل هذا عند أمير المؤمنين، ثمَّ لا يشعر حتى تفارقه رأسه، فقال له عمر : إذا أفضى الأمر إليك وإلى مثلك، فما يدخل على هؤلاء أشدُّ مما خشيت أن يصيبهم من هذا، فقال سليمان : مه، ألأبي حفص تقول هذا؟ قال عمر: والله لئن كان جَهِل علينا - يا أمير المؤمنين - ما حَلُمنا عنه (9) .
وفي موقف آخر لعمر بن عبد العزيز أيضا، رواه ابن عساكر : إذ جاءه ( لعمر بن العزيز رحمه الله ) رجل متَّزر بِبُرْد قَطَري، متعصِّب بآخر، حتى أخذ بلجام بغلته، ما يُنَهْنِهه أحدٌ، فقال :
تدعون حرَّان مَظْلومًا ليأتيكم *** فقد أتاكم لعند الدَّار مظْلوم
فقال عمر : ممن أنت ؟ قال الرجل : من أهل حضرموت، قال : ما ظُلَامتك؟ قال : أرضي وأرض آبائي أخذها الوليد وسليمان، فأكلاها، فنزل عمر عن دابَّته يتكئ حتى جلس بالأرض، فقال : من يعلم ذلك ؟ قال : أهل البلد قاطبة، قال : يكفيني من ذلك شاهدا عدلٍ، اكتبوا له إلى بلاده، إن أقام شاهدي عدلٍ، اكتبوا على أرضه وأرض آبائه وأجداده، فادفعوها إليه، فحسب الوليد وسليمان ما أكلا من غلَّتها، فلمَّا ولَّى الرَّجل، قال : هلمّ َ، هل هلكت لك من راحلة ؟ أو أَخْلق لك من ثوب ؟ أو نفذ لك من زاد ؟ أو تخرَّق لك من حِذاء؟ فحَسَب ذلك، فبلغ اثنين وثلاثين دينارًا، أو ثلاثة وثلاثين دينارًا، فأتى بها من بيت المال، فكأنِّي أنظر إليها تُعدُّ في يده (10)،
بعض الدروس والفوائد من هذا الموقف :
- البركة والنماء والسعة في الحياة ثمرة الايمان واليقين والتوكل، قال تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }( النحل : 97 )، فالمجتمع المسلم تملؤه روح الثقة فى الله تعالى والتوكل عليه سبحانه،
- الإسلام وتاريخ المسلمين عرف أرقى نماذج " دولة الرعاية الاجتماعية " قبل أن يعرفها الغرب بأكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، فإن الفكر الاقتصادي الحديث توصل إلى مفهوم " دولة الرعاية الاجتماعية "، وحدث هذا بعد الحديث عن الدولة الصناعية الكبرى، وفي الحقيقة تهدف " دولة الرعاية " إلى تكوين صمام الأمان الضروري للحد من الآثار السلبية للعولمة على الفقراء في العالم، فيقع على عاتق الدولة تحقيق العدل، وتوفير الكفاية للفرد والمجتمع في مجال الحياة الاقتصادية والاجتماعية (11)،
- عظم مسئولية ولي الأمر إزاء الرعية والمواطنين، ومراقبته ومحاسبته للولاة،
- دور ولي الأمر في متابعة عماله وموظفيه، وأحوالهم وتصرفاتهم إزاء المواطنين، وأهمية مبدأ المتابعة وتفقد أحوال الرعية،
ومرة أخرى نذكر بالقاعدة الاجتماعية الذهبية التي نستقيها من هذا الموقف، القاعدة تقول : ما من مجتمع يسوده العدل، وتؤمن فيه الحقوق، ويعلو فيه شأن القانون الملزم للكافة دون أدنى استثناء، هنا نكون أمام مجتمع : غنيه موفور، وفقيره مجبور، وظالمه مقهور، ومظلومه منصور، أما إذا حدث العكس، وانتشر الظلم في أرجاء المجتمع، وعم الفساد، وسادت المحسوبية، وانتهكت فيه الحقوق، فنحن أما مجتمع غنيه متكبر مغرور، وفقيره مستضعف مكسور، وظالمه مساند منصور، ومظلومه مستضعف مقهور،
******
الهوامش :
======
(1) – هو : عمر بن عبد العزيز الأموي القرشي، يُكنَّى بأبي حفص، ثامن الخلفاء الأمويين، ويُلقب بخامس الخلفاء الراشدين، ويرجع نسبه من أمه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمه هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وبذلك يصبح الخليفة عمر بن الخطاب جد الخليفة عمر بن عبد العزيز ( موسوعة ويكيبيديا )، ولد ٦٨٢ م، المدينة المنورة، وتوفي في ٧٢٠ م، حلب، سوريا
(2) – خالد عبد العليم متولي : " البركة "، المصدر على شبكة الانترنت : khaledabdelalim.com/media/Documents/Khotba_AlBarakah.doc
(3) – الحديث عَن عائشةَ أم المؤمنين رَضِي الله عَنْهَا : أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ "» ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ : " إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا "، ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ )، وَفِي روايةٍ لمسلمٍ : قالتْ : كانتِ امرأةٌ مخزوميَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي............هَا ثمَّ ذكرَ الحديثَ بنحوِ مَا تقدَّمَ "،
(4) – الحديث في "صحيح سنن آبي داود " (رقم 2864)، وصحيح الترميذي (975)، وصحيح النسائي (3626) وصحيح ابن ماجة (2708)،
(5) - عبد القادر عودة ( ت: 1373هـ) : " الإسلام وأوضاعنا السياسية "، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1401 هـ - 1981 م،
(6) - مصطفى محمد الطحان : " عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين "، المصدر :
http://webcache.googleusercontent.com/search?q=cache:g6AfUFR_q9gJ:www.mustafatahhan.com/
(7) – الحديث صحيح، أخرجه البخاري في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه ......وغيرهم واللفظ للبخاري عن أنس رضي الله عنه
(8) - محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي : " مشكاة المصابيح "، تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الاسلامي، بيروت، 1985م، ط3، ج3، ص : 1433،
(9) - أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني : " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء "، دار الكتاب العربي – بيروت، ط4، 1405هـ، ج5، ص : 280،
(10) - أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر ( ت : 571هـ) : " تاريخ مدينة دمشق - تاريخ دمشق "، تحقيق : عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415 هـ / 1995 م، ج7، ص : 152،
(11) - محمد المبارك : " نظام الإسلام - الحكم والدولة "، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان 1974م، ص : 88،
************
أ.د/ أحمد بشير – جامعة حلوان، القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: