فوزي مسعود - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7402
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
توسع استعمال مصطلح "الإسلام التونسي" لدى الكثيرين، لدرجة ان تداوله جاوز أصحاب حقل إنتاجه وهم عموم التيار الرافض للإسلام، فوصل استعمال هذا المصطلح المخاتل كما سنرى، لجماعات تتنافى منطلقاتهم العقدية مع مدلوله، ومنهم من ينتمي للتيار الإسلامي، لجهل منهم على الأرجح بما يؤدي إليه هذا المصطلح.
بمعنى أن أدوات تشكيل الأذهان التي تروج هذا المصطلح أفلحت بدرجات في التمكين لمفاهيمها المحتواة ضمنيا فيه أو اللازمة له، وعليه فان تنامي انتشار هذا المفهوم هو ببعض المعاني تكريس وتطبيع مع الفهم الوضعي المحرف للإسلام، وهو ذلك الفهم الذي يرفض الوحي ويعتبر الإسلام تجربة بشرية تاريخية، وهي المدرسة التي تتخذ من الفلسفات الوضعية الفرنسية تحديدا والمادية التاريخية الماركسية كخلفية للفهم وتفسير التاريخ ومنها الإسلام، وتمثل كلية الآداب بمنوبة وقسم الحضارة بالتحديد منارة نشره خلال العقدين الفائتين حينما أطر عبد المجيد الشرفي العديد من أطروحات الدكتوراه تتمحور حول تلك الفكرة، وقد اشرف في سياق تسويقه لمفهوم الإسلام الوضعي على كتب تتناول تجارب الإسلام التاريخي كالإسلام الأسود وإسلام الفلاسفة وإسلام عصور الانحطاط وغيرها، مما يريد أن يقول من خلاله أن الإسلام هو مجرد تجربة بشرية، وأنا أرى أن القول بالإسلام التونسي هو ببعض المعاني داخل في هذا الجانب.
اعتبارا لذلك فانه يجب أن يقع التصدي لهذا المصطلح من خلال تعرية مفهومه وتبيان معانيه، بغرض الوصول لنقضه وهدم ما ينجر عنه، وهو ما سأحاول القيام به.
- إذا أخذنا مصطلح الإسلام التونسي، فان مدلوله الذي يحيل لتجربة بشرية في تطبيق الإسلام، وإذا نظرنا للمصطلح نسبة لمعنى مدى إقراره باتخاذ تلك التجربة كمرجع أم لا، فيمكن تميز احتمالين في هذا المجال: إما الدعوة لاتخاذ تجربة تدين التونسيين كمرجع لاستنباط مسائل التدين المستجدة وفهمها مع استبعاد ضمني للإسلام في أصوله وهي الكتاب والسنة ولازم ذلك رفض فكرة الوحي أساسا، وإما أن يكون الاحتمال الثاني وهو أن القائل بذلك المصطلح لا يقصد منه أن تدين التونسيين يمكن أن يتخذ مرجعا أصيلا وإنما الأصل هو الإسلام كدين مبثوث في مراجعه وهي الكتاب والسنة، يمكن أن نميز الرأيين من خلال القول أن الرأي الأول يقول بأصالة التجربة البشرية والثاني يقول بأصالة الوحي.
الإسلام التونسي من منظور أصالة التجربة البشرية
- سأبدأ متناولا احتمال أن القائل بهذا المصطلح وهو الإسلام التونسي هم أولئك الذين يرفضون الوحي ويدعون لاتخاذ تجارب بشرية ممثلة هنا في تجربة التونسي في تدينه، اتخاذها هي المرجع والفيصل في الحكم على الأمور، وسأعتمد في نقاشهم على القاعدة الأولى في تقييم الأفكار وهي البناء المنطقي، لأن الصحة المنطقية هي التي تعطي لنقاش المحتوى معنى وإذا ثبت بالعكس الفساد المنطقي فلا معنى لتناول المحتوى، وذلك اعتمادا على القواعد الأربع التي برهنت عليها في مقال: قواعد في معيار صحة الأفكار
- هؤلاء حينما يقولون باعتماد تجارب التونسيين في التدين بأخطائها وصوابها و ماراكموه في ذلك الجانب، فهم متسقون مع منطلقاتم الفكرية التي ترى الإسلام مجرد تجربة بشرية، فتجربة الإسلام الأولى تدين بشري وتدين التونسيين التاريخي تجربة بشرية أخرى.
- هناك جانبان في الرد على هؤلاء، أولا جانب الشفافية وثانيا جانب محتوى الطرح، فالشفافية العلمية كانت تفترض على أصحاب الإسلام التاريخي أن يبينوا خلفياتهم الفكرية ويوضوحها للناس الذين هم عموم التونسيين موضوع الخطاب، لان منطلقات هؤلاء الفكرية الغربية ليست بالوضوح الكافي لدى الناس المعنيين بمقولاتهم، وعليه فان هذا الإبهام ومحاولة الإيقاع بالناس تنقص من مصداقية طرحهم.
أما محتوى طرحهم، فإننا إذا افترضنا جدلا صحة قولهم من أن الأمر يتعلق بتجارب بشرية، فهو كلام إما مبني على تساوي احتمالية صوابية التجارب كلها وإما تفضيل تجارب على أخرى.
- إذا افترضنا أن تجارب التدين التاريخي ليست متساوية في احتمال الصوابية او لنقل الفاعلية الواقعية مادام الأمر في نظر هؤلاء تجربة منزلة واقعا، وان هناك عامل آخر هو المرجح للحكم والتقييم، فهذا العامل إما أن يكون خارجيا أي ليس من صاحب التدين وإما أن يكون ذاتيا أي أن الفرد هو الذي يحكم على صوابية وفاعلية تدينه.
- إذا كان الحكم على فاعلية التدين ذاتيا فان ذلك يقود لتساوي احتمالية الترجيح بين كل التجارب فهي كلها تقع تحت احتمال من جنس واحد أي كل إنسان له الحق في الحكم على تدينه كما يرى من دون وجود عامل خارجي يقيم بدله ذلك التدين، ولكن هذا الاحتمال هو عكس افتراضنا الذي انطلقنا منه وهو عدم تساوي الاحتمالات.
- بقي الاحتمال المقابل وهو وجود عامل خارجي هو الذي يرجح فاعلية تدين عن آخر، وهذا العامل الخارجي إما أن يكون ذا طبيعة بشرية وإما أن يكون ذا طبيعة غيبية حاسمة في فصل مسائل النزاع، أما الاحتمال الثاني فهو لا يجوز في نظر أصحاب الإسلام التاريخي مادام طرحهم مبنيا أساسا على رفض الوحي، فبقي احتمال أنهم يرجحون الأفضلية اعتمادا على رأي بشري يقيم تجارب التدين.
- وجود رأي بشري يقيم تجربة بشرية أخرى من نفس جنسه، إما أن يكون اعتمادا على تميز البشر القائم بالتقييم والتسليم له بالقدرة على الحكم على البشر وحيازته على عوامل الكمال المطلق والتنزه عن الخطأ، وإما أن يكون الأمر غير ذلك.
- إن كان القائم بالتقييم مجرد بشر تجري عليه كل عوامل الخطأ والصواب كسائر الناس، فانه لا يوجد تفسير منطقي يفرده بأحقية تقييم تجارب غيره واعتماد رأيه مقياسا اعتبارا لتساوي عوامل دواعي تنزيل الفعل، وان كان القائم بالتقييم ممن يحوز على صفات الكمال المطلق وبراءته من الزلل بحيث يتيح له الحكم على الأفعال بما ليس لغيره، فهذا الطرف ليس بشرا إذن ولكن هذا يناقض منطلق جماعة الإسلام التاريخي الرافض للأنبياء والوحي.
- نتيجة لذلك فقد تم البرهنة على خطا احتمال تفضيل تجربة تدين بشري عن غيرها، وعليه فقد بقي الإفتراض الآخر وهو أن كل التجارب البشرية كلها بنفس احتمال الصوابية المنطقية مادام ينظر إليها على اعتبار أنها أعمال بشرية.
- لما كانت كل التجارب لها نفس احتمال الصوابية والفاعلية، فلا يوجد بالتالي مبرر لاعتماد تجربة تدين التونسيين كمقياس دون اعتماد تجربة المسلمين الأوائل في فهم الدين، وبطل بالتالي المبرر المنطقي للدعوة لتدين تونسي على قول جماعة الإسلام التاريخي.
- قد يرد هؤلاء بالقول، بل إن هناك مرجح وهو أن التونسيين المنتجين لتدينهم التاريخي أحق بمعرفة واقعهم المحلي من تجربة المسلمين الأوائل ما يعطي الصوابية لتجربتهم دون تجربة الغير، وهذا يرد عليه بالتالي: هل أن تلك الأحقية في أصل وجود تجربة التدين التونسي أم في تواصلها التاريخي اللاحق، إن كان التدين التونسي مستقل في أصله عن تجارب الغير، فان ذلك يعني عدم وجود التدين التونسي أساسا ولكن هذا التدين موجود، فمعنى ذلك أن تجربة التدين التونسي لم تكن في أصلها مستقلة عن التدين الآخر، وان كان التدين التونسي جدير بمعرفة واقعه في مراحله الأخرى التي أعقبت مرحلة التأسيس ما يعطيه الترجيح لاعتماده وتفضيله عن غيره من التجارب الغير تونسية، فان الحديث ساعتها يطرح في مستوى الواقع التونسي منتج تجارب التدين، فهذا الواقع لا يطالب كله بإحلال التدين التاريخي أي لا يطالب كله باعتماد تجارب التدين التونسي كأصل للحكم بدل الإسلام الوحي، إذن هناك العديد من تجارب التدين التونسي، وليست كلها تطالب بتدين من ذلك الذي يطالب به جماعة الإسلام التاريخي، ولما كانت كل تجارب التدين داخل الواقع التونسي لها نفس الاحتمالية الصوابية كما بينا من قبل، فلا يوجد مبرر منطقي لاعتماد رأي دون آخر لتساويها ابتداء إذا نظرنا إليها من زاوية أنها كلها تجارب بشرية.
- بناء على كل ما وقع تناوله، فقد بطل الأصل المنطقي الداعي لاعتماد تجربة تدين بشري ما كمقياس للتونسيين، وبطل بالتالي القول بالإسلام التونسي على أصول جماعة الإسلام التاريخي.
الطرف الثاني في النقاش هم أولئك الذين يستعملون مصطلح الإسلام التونسي من دون أن يكونوا يقصدون منه رفض الإسلام كوحي، وهؤلاء سأناقشهم في الجزء الثاني
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: