فتحي الزغل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6252
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إنّ إجابتي عن الأسئلة التي تطرح علاقة الإسلام بنظريّة الدّيمقراطيّة بدلالاتها المعاصرة، يمكن أن تُثير المنطق إذا لم أُدرج الفكرة الإسلامية في ترتيبها التّاريخي الطّبيعي للبشرية قاطبة، و عمليّة الإدراج ضمن خانة الزّمن هذه، هي السّبب الذي دفعني إلى الإتيان بالفترات الزمنيّة و المناطق الجغرافية التي ظهر فيها فكر الدّيمقراطية أو الأفكار الأخرى التي نحت نحوه، بطريقة خطيّة منذ الإغريق إلى يومنا هذا. و لعلّي قد مَررت في الأجزاء السابقة على فترة تُعتبر طويلة دون أن أتناولها تحليلا، و هي فترة ما بعد الحضارة اليونانيّة إلى فترة ما قبل النّهضة الأوربيّة. و هي فترة ممتدّة، تترامى على أكثر من ألف و أربعمائة سنة تقريبا. و هو ما قصدّته فعلا، لنيّتي إفراد تمحيـــــصٍ و تحلــــــــــيلٍ خاصٍّ بهذه الفترة من حيث النّــصوص و التشريعات و التطبيقات، والتي بفهمها و عرضها تحت مجهر المنطق، يُمكن لنا الوقوفُ على حقيقة العلاقة بين فكرة الإسلام في الحكم، و فكرة الديمقراطية فيه.
و أوّل ما يسترعي انتباهي في هذه الحقبة هي أنّها بدورها تنقسم إلى مرحلتين مرحلة ما قبل ظهور الإسلام و المرحلة الإسلامية.
ففي عصر ما قبل ظهور الإسلام، لم أجد في قراءاتي من المراجع التي اعتمدتُها و التّي تناولَته دراسة أو إخبارا، ما يدلّ على فكرة تقترب من فكرة الديمقراطية أو تترجمها، أو تدلّ عليها. و لعـــــــــلّ ذلك راجع إلى قلّة الأثر المكتوب في الغرض والواصل إلينا من الحضارتين الفارسيّة و البيزنطيّة...هاتان الحضارتان اللّتان تُعتبران أهمّ الحضارات في عصرهما، من حيث الأثر و الصّيت. أو لبعد فكر هاتين الحضارتين أساسا عن الكلام في حكم الشعب. إذ أنّ الكلام في هكذا موضوع، يوجب التّجرّد من المجتمع، و التّجرّد من الحاكم. فإن كانت مواضيع المجتمع الأخرى يسهل الولوج إليها من قبل بعض المُفكّرين، فإنّ موضوع الحكم و الحاكم قد يصعب بل يستحيل التّطرق إليه. لأنّ فعلا كذلك هو كلام في حاكم نزّل نفسه و نزّله العديد من غيره بمنزلة الإله، و أحاط نفسه و أحاطه من عاصره بالتّنزيه من ولادته لموته.
كما أنّ في هذه المرحلة التّاريخية، لم تقع حركة ترجمة واقتباس للأفكار التي انتشرت أيام الحضارة الإغريقيّة و اليونانيّة نحو تلك الحضارات، كالتي شهدها عصر العباسيين مثلا في الدّولة الإسلامية. فكان أن تحالف الداخل و الخارج على غياب فكرة حكم الشعب في تلك المرحلة، غيابا أعتبره بمثابة الثقب الأسود في هذه الدّراسة.
لذا استطيع القولَ بأن إنتاج تلك المرحلة التاريخيّة لم يَرق إلى مستوى التأثير في سيرورة الفكرة الدّيمقراطية، مثل ما أثّر مثيله من الحضارة الإغريقية و اليونانية و العربية الإسلامية و حضارة عصر النّهضة في أوروبا.
فكيف هو الحال إذن في الفترة الثانية من هذه المرحلة وأقصد المرحلة التاريخية الإسلامية؟
... إنّ هذه المرحلة في نظري، أهمّ منطقة دراسةٍ لفكرة حكم الشّعب لنفسه. إذ يُعتبر طرحها لهذه الفكرة مُمايزًا لسابقه في العصر الإغريقي و اليوناني، و للاحقه في العصر النّهضوي و المُعاصر. و لعلّي و بعد دراسة أفكار كل عصرٍ على حِدة، أجزم بأنّ ترتيبها الزّمني كان يكون أقرب لمنطقنا اليوم، لو أنّ مرحلة الفكر الإسلامي هذه، قد ظهرت بعد فكر عصر النّهضة الأوروبيّة. و ذلك لأن الفكرة الإسلاميّة قد طرحت كلّ التوافقات الفكريّة التي بلورها أصحابها في ذلك العصر، باختلاف مشاربها الأصليّة، من قواعد عريضة لفكرة الحكم. إلاّ أنّها زادت عليها أُسّ آ خر تميّزت به، و هو اعتبار حكم الله الواضح نصّا و نقلاً، سقفا لحرّية الشعب لا يجوز له أن يتعدّاها. و هذا لبّ موضوع هذا المؤلَّف.
و تختصّ هذه المرحلة التّاريخية الإسلاميّة فيما تختصّ في نظري، بخاصّتين اثنتين... أولاهما عدم إمكانيّة دراستها ككلّ متكاملٍ تاريخيّا. إذ هي في الواقع ثلاث مراحل مستقلّة عن بعضها، يبعد آخرها عن جوهر فكرة حكم الشّعب الّتي أتى بها الإسلام عن أوّلها بُعدًا، أعتبره هوّة سحيقةً بين الشّرع و الكائن. أمّا ثانية هاتين الخاصّتين، فهي انعدام علاقة تطبيق واضحة للتّشريع الإسلامي في ما يخصّ فكرة حُكم الشّعب، بين مختلف المجتمعات المسلمة، سواء كانت عربيّة أو غير عربيّة. لأنّ من يُدينون بالإسلام من غير العرب يَعدُّون خمس مرّات أكثر من إخوانهم في الدّين من العرب. و هو ما سنُفرد فيه فصلا لوحده.
و هنا تأتي دراستي لفكرة حكم الشعب لنفسه كما اختصّ بها العصر الإسلامي، قائمة على أساس تحليلٍ خطيّ في الزّمن يواكب تحليل شموليٍّ في مدى تطابق الفكرة و الواقع.
فالمرحلة الإسلاميّة تبدأ تاريخيًّا من بعثة الرّسول محمد صلى الله عليه و سلّم إلى أيّامنا هذه. و يُمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل تطوّرت عبرها فكرة حكم الشعب و كيفيّته، تطوّرا سلبيًا منحدرا. باستثناء وميض نورٍ أتى هنا و هناك في بعض المجتمعات الإسلاميّة، كرّس فيها حاكمٌ من الحكّام، فكرة الحُكم الرّشيد، لكنّه مع ذلك، لم يكرّس أصل فكرة حكم الشّعب لنفسه. فبقيت بذلك تلك التّجارب و الأفكار و التّطبيقات، لا تتعدّى الشّخص نفسه. تنتهي بموته، أو بخلعه من قِبَلِ خليفته الذي أتى بعده، أو بقدوم خلفه إلى منصب الحاكم في مجتمعه. و عليه، فلا يمكن الأخذ بهذه الاجتهادات في نسيج الفكرة الأصلية، إلّا من حيث تطبيقها لأسّ من أسس الفكرة الإسلامية.
و بذلك سيكون تقسيمي لهذه المراحل التاريخيّة يعتمد على الخاصّتين المذكورتين سابقا و هما إنتاج فكرة حكم الشعب لنفسه و مدى تطبيق المجتمع المسلم لها.
فما هي هذه المراحل التاريخية؟ و كيف هو الرّابط بينها و بين فكرة حكم الشعب لنفسه، تشريعا و تطبيقا؟...
و هو ما سأحاول الإجابة عنه في الأسبوع القادم إن شاء الله.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: