د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5025
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إذا اختلف المقدار والتقدير فالعلة في التدبير، حكمة سياسية عربية / إسلامية رائعة، أين منها ديمقراطية العراق الشوهاء التي أسسها الأمريكيون ومعهم حلفائهم الإيرانيون، فلابد أن تكون هذه ملامحها بصفاتها التي أسفرت عن نفسها.
كنت قد قلت في وقت سابق، أن ليست هناك عملية سياسية في العراق، فأطراف ما يسمى بالعملية السياسية يهاجمون بعضهم ليس بالقبضات، بل بالأدوات الجارحة، ويوجهون ضرباتهم تحت الحزام وهو ممنوع في الرياضة قبل السياسة، وهو بمجمله يعبر عن صراع المتنافسين على الكعكة العراقية، كل يدفع بالاتجاه الذي يؤدي للسيطرة على هذا البلد العصي على الغزاة والمحتلون والمتآمرون اضرابهم ومن لف لفهم.
أول ضحية للديمقراطية المزعومة كان أحد قادة من تحركوا في عراق ما قبل الاحتلال وما بعده، كانت البداية دموية وذلك عندما اغتيل بطريقة بشعة محمد باقر الحكيم في النجف. وقد أميط اللثام عنها حيث قرأنا مؤخراً (قبل أيام فحسب) أن الاجهزة الإيرانية هي من اغتالته لأنها توجست فيه ميلاً للاستقلال والشخصية العراقية، ورؤية عراقية ربما لا تتطابق تماماً مع قوى الاحتلال. وهذا مؤشر خطير للغاية في تصفية شخصية بارزة قادت المعارضة العراقية زمناً طويلاً، ولكن ذلك لم يشفع له في تكوين رأي خاص.
وعلى مدى أكثر من تسعة سنوات التالية، طبعت كافة الفعاليات التي جرت في العراق بطابع الاحتلال، وسيادة إرادة قوى الاحتلال التي قدمت خسائر مهمة في الارواح والمعدات والنفقات المالية، على أيدي المقاومة وليس من المعقول أن تقدم ما حصلت عليه هدية لشخصيات مهما كان أسمها، ففي نهاية المطاف هي شخصيات تتعامل مع محتلين وإرادتهم التي لها أهدافها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، ونجزم تماماً أن شيئاً في العراق لم يقدم للشعب إلا بموافقة قوى الاحتلال وتماثلها مع أهدافهم، والأمثلة أكثر من أن تحصى، في مقدمتها الأمن والتعليم وخدمات الماء والكهرباء والهاتف والصحة وسواها.
السيد طارق الهاشمي كان ضحية أخرى من الديمقراطية الامريكية / الإيرانية الدموية، وعلى الأرجح فأنه مثل نقطة عدم توازن، فطلب منه أن يمتثل ولما أبى ذلك، سيق إلى المحاكم بتهمة الارهاب، وهي تهمة تصلح اليوم أن توجه حتى للأطفال الرضع، وماذا ينقصنا: لدينا شرطة هي نسخة ميليشياوية، ولدينا محاكم تسمع كلام الحكومة، ولدينا أجهزة تنفذ ما نطلب منها. هكذا ببساطة شديدة تفجرت قضية الهاشمي وما نشهده هو تداعيات ارتدادية لها.
والسيد الهاشمي يهدد ملوحاً وملمحاً بأن لديه من المعطيات والأدلة ما تشير إلى أن شخصيات نافذة في الحكومة تقوم باغتيالات وتصفيات، ولديها سجون وأجهزة سرية. ويعد بالمزيد من كشف الاسرار، ولكن للأنصاف الرجل يسيطر حتى الآن على أعصابه ولا يسيئ للعبة، ولم يصرح بعد بكل ما يعرفه وهو حتماً الشيئ الكثير.
ثم قرأت قبل أيام، تصريحاً لنائب الرئيس الامريكي بايدن، حين استدعاه الرئيس أوباما وعهد إليه بالملف العراقي، والمشكلة الناشبة بين أطراف الحكم. التصريح ينطوي على معاني كثيرة إذ قال: إزاحة نوري المالكي خط أحمر بالنسبة للولايات المتحدة. واليوم فقط قرأت في خطاب للسيد الطالباني موجه إلى أطراف المعارضة، يقر فيه ضمناً أن إزاحة المالكي غير مقبول إيرانياً ايضاً. وإيصال الخطوط بين النقاط بسيط ولا يحتاج لذكاء.
والسيد الطالباني ينوه في رسالته، أنه لن يقبل بوسمه بأنه حليف لإيران، وهدد علناً وبعبارات صريحة: إذا لم يكف من يكتب ويقول ذلك، فإنه (الطالباني) سيكتب ويفضح وثائقياً عن علاقات الأطراف كافة، وينشر الغسيل على الملأ.
هو صراع بين القوى التي تحتكر العمل السياسي بعد الاحتلال، صراع ميدانه حالياً البرلمان، أو مجلس الشعب، (قد ينتقل لمستويات أخرى)وهو مؤشر واضح على فشل العملية السياسية، وهو إخفاق يؤشر أيضاً فشل الاحتلال في خلق صورة عراقية مشرقة كما كان يبشر بها، بل انحدار متزايد صوب المجهول.
ودعوة السيد نوري المالكي الى انتخابات مبكرة بهدف انهاء الازمة السياسية المستمرة في البلاد منذ اشهر، بحسب ما افاد مكتبه الاعلامي، يمثل الهجوم المعاكس الذي شنه معارضوه بهدف سحب الثقة من حكومته، وفي هذا الهجوم المعاكس سيوظف السيد المالكي موقعه في الدولة من أجل الاطاحة بخصومه ووضعهم في موقف غير قادر على تكرار محاولاتهم بسحب الثقة من حكومته.
والخطاب يقرأ من عنوانه، فقد ذكر البيان الذي نشر على موقع رئاسة الوزراء انه "حين يرفض الطرف الاخر الجلوس الى مائدة المفاوضات ويصر على سياسة اثارة الازمات فان السيد رئيس الوزراء وجد نفسه مضطرا للدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، وماذا يعني ذلك سوى أنه عازم على أن يتغدى بخصومه قبل أن يتعشوا به، فالبرلمان برأيه باتت مؤسسة بحاجة الى حركة اصلاحية سريعة وقوية، وأن السيد النجيفي رئيس البرلمان شخصية لا تصلح لقيادة مثل هذه المؤسسة. في مقابل ذلك، شددت رئاسة مجلس النواب في بيان لها، على ضرورة احترام الدستور من خلال وجوب حضور الجميع في مجلس النواب للمساءلة او الاستجواب عند طلب المجلس ذلك، متهمة المالكي برفضه حضور جلسة استجواب محتملة. وكان النجيفي قد اعلن في مؤتمر صحافي في وقت سابق ان طلبا باستجواب نوري المالكي سيقدم خلال يومين او ثلاثة ايام الى البرلمان، وأن تصويتاً محتملاً سيليه على سحب الثقة منه.
والسيد المالكي، وهو المدعوم من طهران وواشنطن والذي يحكم البلاد منذ 2006، يريد أيضاً القول أنه قوي في الداخل بوصفه يتمسك بقوة بأدوات القوة والنفوذ في العراق، بالإضافة للدعم من القوى الدولية النافذة في العراق الولايات المتحدة وإيران، والسيد المالكي باشر بتأسيس مواقع نفوذه، وهذا بالتحديد هو احد فصول الازمة السياسية التي بدأت عشية الانسحاب الاميركي قبل ستة اشهر، وهي مساعي انتهت بهيمنة المالكي على الدولة وبات خصومه الأقربون والأبعدون يتهمونه بالدكتاتورية، وهو موقف بات يشل مؤسسات الدولة ويهدد الامن والاقتصاد.
وحيث تنص الفقرة الاولى من المادة 64 من الدستور العراقي "يحل مجلس النواب بالاغلبية المطلقة لعدد اعضائه (325) بناء على طلب من ثلث اعضائه او طلب من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية، ولا يجوز حل المجلس في اثناء مدة استجواب رئيس مجلس الوزراء"، فيما تنص الفقرة الثانية على ان "رئيس الجمهورية يدعو عند حل مجلس النواب الى انتخابات عامة في البلاد خلال مدة اقصاها ستون يوما من تاريخ الحل، ويعد مجلس الوزراء في هذه الحالة مستقيلا، ويواصل تصريف الامور اليومية".
ولكن هذه النصوص لا تعني ان الامر خال من اللعب وراء الكواليس يذكر ان رئيس الجمهورية جلال طالباني سبق وان ابدى تحفظات على خطوة سحب الثقة من المالكي .وفي موازاة الدعوة الى تقديم موعد الانتخابات التي يفترض ان تجري في عام 2014، طالب بيان مكتب المالكي للفرقاء السياسيين بالعودة " الى الحوار القائم على اساس الدستور وإجراء الاصلاحات في جميع مؤسسات الدولة"، أي التسليم بسلطاته وتقديم الطاعة وإلا ...!
بعد تثبيت هذه المعطيات يصح لنا القول أن الموقف السياسي العراقي مصاب بعطب ومفاتيح الحل لا تكمن بيد أبناءه أو المتعاملين به، مفاتيح الحل إنما تكمن خارج البلاد بيد قوى قد تتفق حيناً وقد تتناقض حيناً آخر، ولكنهم في جميع الاحوال متفقون على أن لا تؤول مقاليد الحسم لأيدي عراقية، بمعنى آخر أن المثل السائد : اشتدي يا أزمة تنفرجي، لا يصلح للأوضاع العراقية، ففي ظل أوضاعنا، نسير من سيئ إلى أسوء، واحتلال العراق لم يؤدي طبعاً، وطبعاً مرة أخرى إلى حل أي مشكلة مهما كانت تافهة، وكأن هذا هو المطلوب، بل هذا هو المطلوب بالضبط. العبقرية وإن شئت قل الخباثة هي في تفصيل بدلة لا تلبس لا في الصيف ولا في الشتاء، ولا تنطبق في مقاساتها على جهة عراقية، وهنا لابد من الاعتراف أنها شطارة في التخريب، بحيث لا يأمن طرف طرفاً آخر، فخ تم تخطيطه بإحكام في دوائر عريقة في التخطيط الخبيث.
بالأمس قرأت مقالاً للسيد عادل عبد المهدي، يكتب عن العملية السياسية وإصابتها بأمراض يصعب علاجها حتى على يد أمهر النطاسين. أريد أن أعرف من يسمي مهازل كهذه عملية سياسية ؟
الشعب العراقي خبر هذه الألعاب، وعدوه بالديمقراطية ولكن كما يقول المثل العراقي الجميل: لا اللي راح أجاني ولا رد الخبر لي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقال جزء من مقابلة تلفازية مع إحدى الفضائيات العربية بتاريخ 27/ حزيران / 2012
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: