د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8844
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
منذ السادس والعشرين جانفي 2011، تاريخ نشر مقال السيد الباجي قائد السبسي الوزير الأول السابق على صفحات الجرائد الوطنية، المعروف في الأوساط السياسية والإعلامية بــ "بيان الباجي قائد السبسي" وردود الفعل لم تتوقف لحظة. لقد شدّ المقال انتباه الرأي العام، فانقسم بين مؤيد ورافض وساخر ولا مبالي. اهتمت إحدى القنوات تونسية الخاصة كعادتها، فخصصت سهرة الليلة الفاصلة بين 29 و 30 جانفي لحصة حوارية، حضرها السيد الوزير الأول السابق ليجيب عن أسئلة ثلّة من الصحافيين ويبيّن وجهة نظره ويشرح (نصف آرائه ودوافع كتابة بيانه) من خلال الإجابة على أسئلة الصحافيين؛ وبقي (النصف الآخر) يلهب شفتيه في انتظار سؤال يستفزه، ليفصح عن مكنون (أعتقد أنه يؤرقه كما سأبيّن ذلك لاحقا) من خلال هذه الأسطر.
لا اختلاف حول التّشخيص الذي قدمه السيد الوزير الأول للوضع العام للبلاد، هي حقائق ساقها من موقع ممارسته للسلطة بعد الثورة، إلا أن العديد من متتبعي الشأن التونسي سبقوه معبّرين عن آرائهم ونبّهوا في كتاباتهم إلى انحراف المسار الثوري في تونس. لا أدعي إن قلت مذّكرا القارئ (الذي لا يقرأ إلا إذا ضخم الإعلام مسألة ما أو مقالا أو شخصا...)، أنّي كنت من الأوائل الذين نشروا في الصحافة التونسية، مقالات متلاحقة، مشيرا إلى وجود انحرافات في مسار ثورة الكرامة، وصفتها "بالانحرافات الإيجابية"(2). من تلك السلبيات الإيجابية، انحراف المجلس التأسيسي عن غايته الرئيسية فكتبت متسائلا "هل يكون الملاحظ للشأن السياسي التونسي متسرعا ومتجنيا في حكمه على المجلس الوطني التأسيسي، المنتخب في الرابع والعشرين من أكتوبر إحدى عشر وألفين، إذا قال بأن هذا الأخير قد انحرف عن هدفه الرئيسي؟... "(3). ثم أضفت في نفس المقال قائلا: " استشعر المواطن تكتيكات سياسوية مبكرة، تحاول بواسطتها الأحزاب القفز على المرحلة الانتقالية ودمجها « افتراضيا » في مخيلة النّاخب وإعداده نفسانيا لمَ بعد المجلس التأسيسي". لقد تحققت الرؤية وتحول الافتراضي إلى واقع معيش، حين أفرز المجلس التأسيسي ائتلافا حاكما، تمخض عن تعيين رئيس للجمهورية وحكومة مؤقتين وصفا بالمنتخبين في ظل انسحاب من أسمو أنفسهم بأحزاب المعارضة، فوقع في الـــ لا شرعية التي لم يفلت منها إلا رئيس المجلس الذي جاء انتخابه متطابقا مع أصول اللعبة السياسية...".
كم وددت لو كنت مشاركا في ذلك الحوار لأوجه لــ (سي الباجي) بعض الأسئلة الجوهرية في طليعتها: هل يعتبر وعده في أول تصريح أدلى به في أول ندوة صحفية ساعة توليه رئاسة الحكومة، بتسليم الأمانة إلى أصحابها (أي السلطة) بمجرد انتخاب المجلس التأسيسي للبلاد، خطأ إسترا- تكتيكي(*)؛ في ظرف سياسي اتّسم بالضبابية والغموض، أصاب السلطة التّنفيذية في مقتل؟
ألا يحزّ في نفس سي الباجي تخليه طوعا عن دور القائد الوطني (إن لم أقل الزّعيم) في ساحة سياسية تعاني فيها غالبية قوى اليمين واليسار من التّشرذم والنّرجسية تحركها ثقة مَرَضِيَةٍ "بفوز زائف"، ساحق ومؤكد في انتخابات لا زالت في طور الإعداد؟ اسمح لنفسي أن أجيب عن هذين السؤالين المحوريين، من خلال قراءة موضوعية، مُتَصًوَّرَةِ لِمَ قد يدور بخلد سي الباجي من سيناريوهات لحكم الفترة الانتقالية، التي لا شرعية فيها إلا للمجلس الوطني التأسيسي المنتخب ما لم يتجاوز صلاحياته، إلى حين نهاية مدّته النّيابية، بنهاية صياغة الدستور والإعلان الرسمي على القطع مع الجمهورية الأولى والإعلان عن قيام الجمهورية التونسية الثانية.
رغم تقدّم الأستاذ الباجي قائد السبسي في السّن (أمدّ الله في أنفاسه) ورغم خبرته السياسية، فقد تسرع كثيرا في التّصريح على الملء بتسليم السلطة التّنفيذية بمجرد انتخاب المجلس التأسيسي. ولم يخطر بباله أن استقالة الحكومة المؤقتة التي يترأسها، ستحدث فراغا (تنفيذيا) يصعب ملؤه؟ لقد عبدّ ذلك الإعلان المبكّر الطريق أمام أغلبية ائتلافية انبثقت لاحقا عن المجلس التأسيسي، تقاسمت فيما بينها الرئاسات الثلاثة (من غير وجه شرعي) لم تنجو منه إلا رئاسة المجلس. لقد شرعن التّصريح (السابق لأوانه prématuré) لسي الباجي انحراف المجلس التأسيسي عن مهمته الرئيسة، ودفعه، دفعا إلى سدّ الفراغ التّنفيذي على حساب الفراغ الدستوري.
أما عن الدوافع الكامنة وراء ذلك التصريح/الإعلان فهي (برأيي) أولا، شعور مفرط بالوطنية، غمر سي الباجي في وضع استثنائي، فطغت عليه الفرحة بنجاح الثورة، الشيء الذي صوّر له تجذّر المسار الديمقراطي في تونس، في حين أنّه لم ينطلق بعد. ساعة وعد سي الباجي المجتمع التونسي بمختلف طبقاته الاجتماعية وألوانه السياسية وشرائحه الفكرية باستقالة حكومته، وقع في المحظور، الخلط بين الذّاتي والموضوعي.
ثانيا تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.. لقد استشعرت من بين سطور بيان السيد الوزير الأول السابق ولمست من خلال حواره المتلفز، قدرا كبيرا من المرارة وخيبة الأمل مردّهما عدم فهم و/أو تجاهل، الآخرين للرسالة الضمنية التي حملتها طيّات الوعد بالاستقالة، فاستغلوا الخطأ الإسترا- تكتيكي ليُحْكِمُوا قبضتهم على السلطات الثلاثة في الآن نفسه، متخذين من المجلس التأسيسي مطية لتقاسمها بالتّراضي بينهم. تلك هي الغاية التي كانت في نفس يعقوب التي أفسدت حاجة أخرى في نفس يعقوب آخر، وما أكثر (اليعاقيب في تونس اليوم)(**) البادي منهم والخافي. يتحرك جميع هؤلاء على خشبة مسرح السياسة، من أمام الستار ومن ورائه، يمارسون وصاية "ناعمة" على الشعب وتوصيات "غليظة" على أتباعهم، فيما يشبه الديمقراطية. الكل متأهب للتّفرد بالسلطة، الكل متحفز، يتحيّن الظرف الملائم لذلك(***).
الدافع أو العامل الثالث الذي جعل سي الباجي يكتب بيانه، الإحباط الذي أصابه من فشل قيادات الحداثيين في إدارة الانتخابات التأسيسية، فما باله إذا تعلق الأمر بإدارة دفّة الحكم؟ سقطت أحلام اليمين واليسار والقوميين والمستقلين في الظفر بالسلطة التّنفيذية ورئاسة الجمهورية باعتبارها "استحقاق مشروع" لا وجود له إلا في خيال البعض وأسقطت معها أملكم في البقاء على رأس الحكومة (نزولا عند رغبة الجماهير).
أخيرا وليس آخرا، بعد أن وقع سي الباجي في شرك مثاليته السياسية، زجّ بنفسه في سجن الوفاء بالوعد وهو يعلم أنّ " ألّي اعطى كلمتو اعطى رقبتو" و "منين تخرج الكلمة، تخرج الرّوح" كما قال أجدادنا. لقد استغل الائتلاف قناعة سي الباجي، بأن لا يلتف أحد على الحكومة ولا على رئاسة الجمهورية إلى حين إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية بعد انقضاء الفترة الانتقالية/التأسيسية (هذا إذا سلّمنا بعدم وجود اتفاقات و/أو وعود سياسية خفية).
لقد لاحظنا الامتعاض الشديد لسي الباجي ممّا آلت إليه الأمور نتيجة (بعد إذنه) حماسه وتسرعه، فجاءت على نقيض تصوراته، تصورات توقعت (شخصيا) أنها لن تخرج عن أحد السيناريوهين التاليين:
1/ التزام الأحزاب المنتخبة في المجلس التأسيسي بمهمة إعداد الدستور، تاركين الحكومة القائمة برئاسة سي الباجي، مواصلة تسيير الشأن العام مع إدخال بعض تحويرات وزارية، جزئية، إرضاء لذات الأحزاب الفائزة في الانتخابات من ناحية وقيامها من ناحية أخرى بــ (تربص يؤهلها للحياة السياسية والحكم) S.I.V.P.P (+)، هذا إذا رغب السيد "فؤاد المبزع" في البقاء على رأس الدولة.
2/ أن يطلب المجلس التأسيسي من سي الباجي تولي رئاسة الجمهورية (بشكل مؤقت) بعد أن يعتذر السيد "المبزع" لأسباب صحية، ليتّم تشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة مستقلة، توزّع فيه الحقائب بالمحاصصة على الطيف الحزبي الممثل في المجلس التأسيسي وتطعيمها ببعض الوجوه الوطنية المستقلة وبعض من شباب الثورة (et la boucle est bouclée).
لقد تمكنّت "الترويكا" من إجهاض كل تكهنات والتّحاليل السياسية في الداخل والخارج وساعدها في ذلك انزلاق الأحزاب الخاسرة في معارضة لا معنى لها ولا مبرر، في غياب شرعية برلمانية ودستورية ودولة قوية، قادرة على حماية الديمقراطية الناشئة.
بعد خروج سي الباجي إراديا من الحكم، تجلّت له خطورة الوضع السياسي العام للبلاد، فجاء تحركه (المفاجئ) بنشر بيان أثار ضجة عارمة في الأوساط السياسية والحزبية. لم يكن البيان سوى قراءة موضوعية، متأنية كشف فيه (بالتلميح) للرأي العام التونسي عن خطأه الإستراتيجي من ناحية، شارحا الخطأ التكتيكي للقوى السياسية المنهزمة/المعارضة على ملعب الديمقراطية في زمن ما بعد الثورة من ناحية أخرى.
لقد أفصح بيان سي الباجي عن حاجة الخاسرين لشخصية كاريزماتية، تعيد تنظيم صفوف اليمين الليبرالي التونسي في جبهة وطنية، تؤسس لواقعية سياسية أكثر براغماتية. فلا أفضل من شخصية سي الباجي، نجيب المدرسة البورقيبية، ذات الخبرة الطويلة في العمل السياسي الميداني، تكون قادرة على تجميع الشياه الشاردة عن حضيرة أولائك الذين استخفوا بوجدانهم الجماعي و"استغبوهم" وخذلوهم وخيّبوا آمالهم، في مضاربات سياسية أفقدتهم أصوات النّاخبين.
الخاسرون يبحثون عمّن ينسيهم ألم الصفعة الانتخابية، لعلهم وجدوا ضالتهم، إنه "سي الباجي" الليبرالي والحداثي حتى النّخاع ليجعلوا منه " شعار emblème" وحدتهم، وقائد حملة انتخابية (قد تأتي وقد لا تأتي في آجال غير محدّدة) في مواجهة جبهة إسلامية سياسية، دقيقة التّنظيم، شديدة الانضباط، عالية الواعي السياسي، بعيدة النّظر، عالمة بطبيعة المجتمع، متمترسة في لاوعي جماعي، أُعِيدَتْ صياغته منذ سنين عديدة، ضمن لخبطة فكرية طغى فيها الديني على السياسي.
تونس في ظل ضعف الدولة، بلد برأسيين، بمرشدين أحدهما لليبراليين والآخر للإسلاميين، أمر في حدّ ذاته جيّد، ما لم ينقل الصراع الفكري إلى صراعات مادية لن تبقي ولن تذر. الهمّ والغمّ والحزن لا تزيحها عن نفوس التونسيين الخصومات الإيديولوجية للمترفين فكريا. المجتمع في أمس الحاجة إلى من يؤمن لقمة عيشه، في حاجة إلى تشغيل وصحة وتعليم وحياة تتوفر فيها أبسط شروط الكرامة. إذا توفرت للتونسي ضروريات الحياة الكريمة، فإنه ينتقل التونسي آليا إلى مرحلة الإبداع الشامل كما يقول المثل الشعبي " كيف تشبع الكرش، تقول للراس غنّي". كل الأحزاب السياسية مطالبة بوضع تصورات عملية لتخليص البلاد والعباد من أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتخرجنا من النّفق المظلم، الذي ما قامت الثورة إلا من أجل هدمه وإعادة الأمل لنفوس يائسة حتى أخمص رجلها.
لعلي استشعرت من إصرار سي الباجي على الشّروع الفوري في إعداد الانتخابات القادمة وحرصه الشديد على تفعيل دور اللجنة المستقلة للانتخابات، تخوفه ممّا يمكن تسميته بالرّدة الديمقراطية ووضع مستقبل تونس بين أيادي ثلّة تدعى "أهل الحل والعقد"، ينصبون أنفسهم، أوصياء على شعب حطم منظومة الدولة الوصية. إنّ استقراء المستقبل السياسي لتونس في ضوء بعض المؤشرات الملموسة مثل تراخي السلطة القائمة في التّعامل مع أحداث (بتقديري مفتعلة)، ليس ألا بحثا عن مواطن ضعف المجتمع للنّفاذ منها لزعزعة الحريات؛ ومنها قياس ردّة فعل العامة والخاصة، قبل المغامرة في الانتقال من الديمقراطية إلى الشورى" أما الآن وكأني بالتاريخ يعيد نفسه مع تغيّر اللاعبين السياسيين، فالتقارب الفكري والإيديولوجي بين السلطة الحاكمة وبعض التيارات السياسية التي منحتها الثورة فرصة الخروج من تقيتها وأصبحت تبحث عن موضع قدم في الساحة السياسية، اختارت أن تكون رأس حربة، تشاكس بها السلطة خصوما مفترضين. إذا ما انتشر الخوف في نفوس النّخبة (بعد سقوطه) وسكتت النّخبة، سيفتح الباب أمام الرّاغبين في إقامة دولة دينية. ستكون الانطلاقة من التّخلي (الشرعي) عن الديمقراطية وتعويضها بمبدأ الشورى."(4)
تونس اليوم في حاجة لكل أبنائها دون تمييز، لتخطي أزمة هيكلية، مزمنة، طال مداها وهي مهمة وطنية لا يتسنى تحقيقها إلا بالتّخلي عن الإيديولوجيات العقيمة وتجنب المصلحية الضيّقة والقطع النهائي مع منهجية ردّ الاعتبار والتّعويض عمّا فات، خاصة وأنّ الجميع قد فاتهم شيء ما في حياتهم.
الحداثة واجب واختيار لا رجعة فيه (مع المراجعة) ، إحياء الدين أمر أكيد في مجتمع متعطش لاكتشاف أصوله من جديد، غير أنّ حاجة تونس لكل طاقاتها أوكد.
---------
1) يعاقيب، جمع يعقوب "لسان العرب"
2) صالح المازقي في لقاء صحفي مع جريدة الصحافة، "ثمّة انحرافات في المسار بعدما وضعت الثورة أوزارها..." 6/07/2011
3) صالح المازقي "الانحراف المبيّت" جريدة الصحافة، مطارحات، ص: 11، الأحد: 15/01/2012
*) مصطلح أَدْغَمَ فيه المؤلف كلمتا إستراتيجي وتكتيكي.
**) واقع يشخصه المثل التونسي "كل واحد شيطانه في جيبه"
***) انظر المصدر السابق لكاتب المقال.
+) S.I.V.P : Stage d’initiation à la vie professionnelle
S.I.V.P.P : Stage d’initiation à la vie POLITIQUE et au POUVOIR
4) حوار "في عربة قطار" مقال للكاتب، جريدة الصحافة 8/01/2012
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: