د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6371
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يقول الباحثون الإسلاميون :
" من الخطأ تصور انحصار المعارك والحروب بيننا وبين أعدائنا في ساحات القتال ومواطن النزال وحدها ...................
وأعداء الإسلام - وهم يخوضون حربهم ضد هذا الدين وأصحابه - لا يدعون فجا يمكن أن ينالوا به من الإسلام وأهله إلا وسلكوه، ولا تتهيأ لهم فرصة سانحة إلا وظفوها ورعوها حق رعايتها، لتكون لهم سندا وركنا يؤوون إليه ويعتمدون عليه في حربهم الكبرى التي يريدون بها استئصال شأفة الحق . قال تعالى مخبرا عنهم تتبعهم الصعب والذلول وارتكاب المستحيل لأجل ذلك: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}.
ومن بين هذه الأساليب المتبعة - والتي لا تكاد تنفك عن سبيل من سبل سعيهم المتنوع والمتعدد - أسلوب يمكن أن نسميه بـ "حرب المصطلحات".
تعنى حرب المصطلحات :
" أن يعمد أعداء الله إلى أمر من أمور الإسلام ذات الحقائق المحددة والمسميات المبينة والأسماء المنضبطة، فيضعون لها اسما مزيفا منفرا، يقلب صورة حقيقتها في الأذهان، ويصيرها مطبوعة بطابع تشمئز منه النفوس، وتنفر لدى سماعه القلوب، أو أن يقصدوا شيئا من القبائح التي نهى الشارع عنها ومقَتَها وبين حكمها ونَفر وحذر منها، وأظهر مضارها ومفاسدها؛ فيخترعون لها مصطلحا جذابا متألقا، يزينونها به ويرغبون فيها بواسطته، لتدنو منه النفوس خطوة خطوة، وتستأنس به الأفئدة وتألفه، وتميل نحوه القلوب وتقل درجة النفرة بينها وبين تلك القبائح شيئا فشيئا، حتى تتلاشى، فيسهل على النفس بعدها اقتحامها والعب منها دون شعور بالحرج، بل تستطيبها مع الأيام وتطمئن لها لطول الإلف وتوثق الصلة.
حرب المصطلحات أسلوب قديم
وهذا الأسلوب بشقيه - تحسين القبيح، وتقبيح الحسن - اعتمادا على المصطلحات المخترعة؛ يعد من الأساليب الخطيرة التي رافقت أعداء الله تعالى عبر مسيرتهم الطويلة في صراعهم مع الحق، فلم يكد ينفك عنه زمن من الأزمنة، أو تهمله طائفة من الطوائف المشاقة للحق.
خطورة حرب المصطلحات
وهو نهج إن لم يتنبه له المسلمون ويعوا خطورته ويدركوا عواقبه؛ فإنه سيؤدي حتما إلى قلب كثير من الحقائق الشرعية في أذهانهم ومن ثَم في واقعهم، وسينقلب من ورائه الحق باطلا والباطل حقا، والمنكر معروفا والمعروف منكرا، والمصلح مفسدا والمفسد مصلحا، وسيقود إلى فتح أبواب عريضة من الشر المستطير، وكلما استمرت الأيام ازداد شرها وظهر أثرها وتضاعف تأثيرها، وعسر إغلاقها وعلاجها، إلا بجهد متواصل وعمل دؤوب مضاعف، لا سيما مع تكفل وسائل الإعلام المتنوعة ذات الصيت العالي؛ بالقيام بهذه المهمة والتي يقوم كثير منها أو معظمها على حرب الله ورسوله......................
أمثلة لحرب المصطلحات
من أمثلة حرب المصطلحات أن الربا أصبح؛ فوائد وعوائد، والزنا؛ غدا حرية شخصية، والتهتك والخلاعة والاختلاط؛ أصبحت تقدما وحضارة ومواكبة للعصر، والأغاني الماجنة والمسلسلات الفاضحة والمسرحيات الدنيئة المتهتكة القاتلة للغيرة والمحرضة على الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ كل هذا من الفن والقائمون عليه فنانون ونجوم، والملابس الكاسية العارية؛ إنما هي أزياء وموضات، والخمور بأنواعها وأشكالها؛ هي مشروبات روحية أو كحولية.
ولقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم إذ قال: (ليشرب أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) [رواه أحمد وأبو داود].
ومن هذه الأمثلة أيضا أن انقلب تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة أحكام الله؛ انقلب رجعية، وترويج الأفكار الإلحادية والطعن على الله ورسوله وأوليائه؛ من حرية التعبير، والتفلت من التكاليف الشرعية وهدم أصولها وفروعها وتفصيلها وخياطتها وتقديمها حسب تعاريج الجسم العصري؛ أصبح من التنوير والعقلانية والواقعية والتفتح، والأخذ بالنصوص الشرعية والتمسك بها والدعوة إليها والذب عنها؛ صار جمودا وتحجيرا و "أصولية" و "فكرا" سلفيا، وتكلُّم الرويبضة والجهلة في أمور العامة وتشقيقها وتمطيطها وتمييعها والإدلاء بما يشاءون فيها؛ صار تفكيرا، وأهله غدوا مفكرين ومحللين ومتنورين، وإفراغ الألفاظ من معانيها ومسخها وتفسيرها تفسيرا باطنيا مغرضا هداما؛ لُقِّب بالحداثة، وحرب الإسلام علانية وتتبع أهله المستمسكين به والتنكيل بهم وعقد الاتفاقات لتقويضهم ومطاردتهم وبذل الأموال الطائلة بسخاء لاقتفاء آثارهم؛ أصبح حربا للإرهاب والتطرف وحماية للأوطان من خطرهم وصونا لها وللشعوب من شرهم، وبيع الأراضي والتفريط في المقدسات والانبطاح التام أمام الأعداء واللهث الدائم لتلبية رغباتهم والتنافس في تقديم متطلباتهم والاستسلام المخزي لهم؛ كل ذلك صار سلاما... بل "سلام الشجعان"، والسعي للاعتراف بأحقية المحتل اليهودي بأرض فلسطين واستحقاقه إقامة دولته عليها، مقابل نيل حفنة من التراب تحت أعينهم ومراقبتهم؛ يسمى سلاما عادلا شاملا دائما، والمدافع عن حرماته وأرضه وعرضه والمقدم لنفسه وماله حماية للمقدسات؛ أصبح عدوا للسلام وخارجا عن "الشرعية" الدولية، وتهيئة الظروف لاستقدام عشرات الآلاف من قوات النصارى التي جلبت على أراضي المسلمين بخيلها ورجلها ومكنت لنفسها برا وبحرا وجوا وامتصت خيراتهم وثرواتهم من تحت الأرض ومن فوقها ودكها للشعوب المسلمة و "تجريبها" اليومي لأسلحتها المتطورة عليهم؛ كل ذلك لا يعدو أن يكون "استعانة" بالقوات "الصديقة" لطرد عدو عات متمرد، وتآلف الدول الكافرة وتكتلها وتكاتفها لأجل قهر الشعوب وإذلالها وإرغامها على الانصياع للركب العالمي والخضوع لإرادات معينة ومخصوصة؛ كل ذلك يقع باسم "الشرعية الدولية"، ومنع الخروج عن قوانين "المجتمع الدولي".
ومنها أيضا الجهاد فلما رأى أعداء الإسلام مكانة " الجهاد " في قلوب المؤمنين، وراجعوا التاريخ وتمعنوا فيه؛ فألفوا الأمة تحيا بإحياء هذه الفضيلة، وتضعف بالتخلي عنها والزهد فيها، وتكونت لديهم قناعة تامة أنهم لن يستطيعوا القضاء على هذه الأمة ولن يدكوا مرامهم منها، إلا حيث فصلوا بينها وبين هذه العبادة، واستيقنوا أن ذلك لن يكون لهم إلا عندما يغرسون في قلوب المؤمنين؛ بأن الجهاد أمر وراء ما تتصورون، وأن حقيقته خلاف ما تعتقدون.
غير أن هذه المعاني التي يريد الأعداء إيصالها وإقناع الناس بها؛ لا يمكن تقبلها بسهولة، والناس يرون كثيرا من الشعوب الإسلامية تقاتل من أجل نيل حقوقها، وكثيرا من الجماعات الإسلامية ترفع راية الجهاد هنا وهناك، فلما وجدوا أنفسهم أمام هذا المأزق، وخشوا أن ينفلت الزمام، وأن تخطوا الأمة عبر ممارستها لعبادة الجهاد خطوات لاستعادة سالف مجدها؛ سلطوا وسائل إعلامهم، وبثوا مروجيهم في الأقطار، وراحوا يصفون تلك الأعمال الجهادية بالإرهاب والعنف والتطرف، مستغلين في ذلك بعض التجاوزات التي يقع فيها الجهلة أو المغرضون من أتباعهم الذين تربوا على أعينهم - دعما لسياسة التشويه
حتى نشأت في أذهان كثير من المسلمين؛ قناعات، مضمونها أن الجهاد رديف التطرف والإرهاب والعنف، وأن المجاهدين؛ هم المتطرفون والإرهابيون، وأن كل من حمل السلاح مجاهدا في سبيل الله مدافعا عن الحرمات وذابا عن الأعراض؛ يعد إرهابيا متطرفا.
وأصبحت هذه النعوت تلاحق المجاهدين حيثما كانوا، ولو كانت قضيتهم التي يقومون عليها من أعدل القضايا وأبينها لكل عاقل منصف - كما هو الحال في الشيشان وفلسطين وكشمير وغيرها -
ولو ارتقوا درجة وأرادوا أن يصفوا قضية من القضايا بـ "وصف حسن" يسايرون فيه ركب الناس، فإنهم يسمونها بـ "المقاومة"، والتي لا تتجاوز دلالتها معنى المدافعة، بل فوق هذا يضعون لها قيدا احترازيا خشية أن يصبح الأمر في أذهان الناس محصورا في هذا الأسلوب، فيسمونها "خيار المقاومة"، والذي يقصد به مقابلته بـ "خيار السلام" - كما هو مشهور في قضية فلسطين وفي مواضع مخصوصة ومحددة منها وهكذا انقلب الجهاد - ولو كان دفاعيا - إلى تطرف وعنف وما شابه ذلك من مصطلحات القائمة المعروفة.
وحتى ندرك مكانة كلمة "الجهاد" في قلوب الناس، وأنها جذابة محرضة مهيجة لهم؛ لنتأمل قليلا كيف يستغلها كثير من الطغاة المارقين كلما أرادوا أن يستميلوا الشعوب نحوهم، ويستثيروا عواطفهم ويلهبوا مشاعرهم، فيزعمون رفع لوائها، ويدندنون حولها، كما فعل طاغية العراق البعثي في حرب الخليج الثانية استثارة لقلوب الشعوب المخدوعة.
انسياق المسلمين وقادتهم لهذا الأسلوب
إن مما يزيد الأمر خطورة، ويبين أن هذا الأسلوب قد آتى أكله أو يكاد؛ أن ينساق بعض المسلمين... بل بعض قيادييهم؛ وراء أعدائهم في الترويج لكثير من المصطلحات والأسماء المستحدثة والمنتقاة من قبل الأعداء بدقة بالغة، ويتلقفوها من غير روية ولا تأن، بل ربما يضيفون عليها كثيرا مما يحسنها ويرغب فيها ويؤكد صحة شرعيتها، فصار كثير منها مألوفا لدى الناس، ركنت إليه نفوسهم، وسكنت عقولهم، واطمأنت قلوبهم، فلا عجب أن تجد نتيجة ذلك أن ينكروا إنكارها، ويحتجوا على محاولة استبدال غيرها بها.
ولا جرم أنهم باستعجالهم في تلقي تلك المصطلحات وأسلمتها؛ قد جنوا على أنفسهم وعلى أمتهم جناية عظيمة من حيث لا يدرون، وبذلك قدموا لأعدائهم خدمة سخية طالما سعوا لأن يجدوا لها مَنفذا ومُنفِّذا.
ضرورة يقظة المسلمين عند تلقى المصطلحات الجديدة
فعلى المسلم أن يكون يقظا منتبها عند التقاطه لأي مصطلح جديد، وأن يحرص على الالتزام بالأسماء الشرعية، ففيها الكفاية والغنية عما دونها، وأن يستقبل ما تبثه وسائل الإعلام بحذر، فهي غالبا ما تقدم السم فيما نحسب أنه عسل، فيلعقه بعضهم مغترين بألوانه وأشكاله، فلا يستيقظون إلا حيث تتهاوى قواهم، وتذهب حرماتهم، ويمسخ كثير من شعائر دينهم، فيضيفون مرضا جديدا مزمنا في جسد أمتهم الذي أنهكته الجراح وآلمته القروح، مما يستدعي زيادة تكليف وعناء في علاجه، وقد كان يُغني عنه سد الباب الذي يتسبب فيه وإغلاق المسالك المؤدية إليه."( انتهى بتصرف )
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: