(99) علاقة المصالح والمنافع بكراهية الإسلام عقيدة وتطبيقا
د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6759
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في النصف الثاني من القرن الماضي كتب الأستاذ "محمَّد قطب" في كتابه المعروف "جاهليَّة القرن العشرين" فصلاً خاصًّا بعنوان "لماذا يكرهون الإسلام؟"، شرَحَ فيه الأسباب الكامنة وراء كراهية معظم فئات المجتمع للإسلام.
يقول الأستاذ "محمد قطب": "الإسلام في هذا العالم الإسلامي غريب على الناس، كغُرْبته يوم بدَأ في جاهلية الجزيرة العربية، وهو - فوق ذلك - مَكْروه من كثيرين، هؤلاء الكثيرون فِئاتٌ مُخْتلفة على النَّحو التالي:
1- القادة والزعماء:
يكرهون الإسلام؛ لأنَّ الإسلام يجعل الولاء لله، بينما يريدون هم الوَلاء لأشخاصهم مِن دُون الله، وقد استغلَّ أعداء الإسلام هذا الدافع لدَيْهم، فجعلوا منهم وُكَلاء له في القيام بمهمَّة القضاء على الإسلام وتدمير المسلمين.
يقول المُفَكِّرون الإسلاميون: "هناك ظاهرة واضحة متكرِّرة، هي أنه كلما قام (قائد أو زعيم) لِيُقيم من نفسه طاغوتًا يُعَبِّد الناس لشخصه من دون الله، احتاج كي يُعْبد - أي: يُطاع ويُتَّبَع - إلى أن يُسَخِّر كل القُوى والطاقات لحماية نفسه أولاً، ولتأليه ذاته ثانيًا، واحتاج إلى حواشٍ، وذيول، وأجهزة، وأبواق تُسبِّح بحمده، وتُرَتِّل ذِكْرَه، وتنفخ في صورته الهزيلة؛ لتتضخَّم، وتشغل مكان "الألوهية" العظيمة، وألاَّ تكف لحظة واحدة عن النَّفخ في تلك الصورة الهزيلة، وإطلاق التراتيل والترانيم حولها، وحشد الجموع بشتى الوسائل لتسبِّح بحمدها، وإقامة طقوس العبادة حولها، وفي هذا الجهد الناصب تُنْفَقُ طاقاتٌ، وأموال، وأرواحٌ أحيانًا، وأعراض... ولهذا فَهُم يكرهون الإسلام؛ لأنه يحرمهم من ذلك كله".
2- المثقَّفون يكرهون الإسلام:
المثقفون هم نِتاج سياسة تعليمية وضَعَها الغَرْب لبلاد الإسلام، أفرَزَت أجيالاً من المسلمين لا يعرفون شيئًا عن حقيقة الإسلام، ويعرفون بدلاً منها شبهاتٍ تحوم في نفوسهم حول هذا الدِّين.
قرأ المُثَقَّفون كتب الغرب، ولم يفرِّقوا بين ما ينفع وما يضر، ولا بين العلم الذي هو ضرورة، وبين المفاهيم، والمذاهب الفكرية، والسياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية المُنْحرفة عن منهج الله، كلُّ ما تعلَّموه من قراءاتهم في كتب الغَرْب أنَّ الدِّينَ عائقٌ للانطلاق، وأنه تأخُّر وانحطاط وتحجُّر ورجعيَّة، وأن السبيلَ الوحيد للتحضُّر والارتقاء والتقدُّم هو الانسلاخ من الدِّين، وإبعاده عن مجال الحياة العامَّة، وإلغاء سيطرته على أي مظهر من مظاهر الحياة السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو حتى الأخلاقية، واستمداد هذه المفاهيم من الغرب المتحضِّر.
يقول المفكر الكبير الدكتور "جلال أحمد أمين" وهو يَساريٌّ (جديد)، متهكِّمًا وساخرًا من الشيخ الشعراوي: "... ذلك أنَّ الحكومة سعيدة تمامًا بحالة الدَّروشة التي تَسُود المجتمع، إنها لا تتصوَّر تلميذًا أفضل من التلميذ الذي يُصدِّق ما يقوله كتاب المُطالعة عن الدِّين، ولا تتصوَّر مشاهدًا للتليفزيون أفضلَ من الذي يقوله الشيخ الشعراوي عن الشَّيطان، فهذا التلميذ وهذا المشاهد يمثِّلان أعبطَ محكوم يمكن تصوره... إن هذا التلميذ، وهذا المشاهد للتليفزيون ليس لديهما أيُّ اهتمام بصندوق النقد الدولي، أو ديون مصر الخارجية، أو بتوطين اليهود السُّوفيات إسرائيل، فهما مشغولان بتعريف كلمة "رؤية" ومعنى كلمة "مَلْعون" وهو موضوع حديث الشيخ الشعراوي في أوَّل يوم من أيام رمضان، بل إنَّ الحكومة تعرف بحقٍّ أنَّ هذا النوع من الناس هم أكثر صبرًا على رفع الأسعار وتحريكها من أيِّ نوع آخر، ويا ليت الشيخ الشَّعراوي يخصِّص أحاديثَ من أحاديثه للتَّفرقة بين معنى رفع الأسعار وتحريكها"؛ جلال أمين، "مصر في مفترق الطُّرق"، 1990، ص 87.
صنع أعداء الإسلام من هؤلاء المثقَّفين قيادات فكرية تؤدِّي لهم من الخدمات ما لا يَمْلك هؤلاء الأعداء أن يُؤَدُّوه ظاهريًّا، قامت هذه القيادات بتلبيس الحقِّ بالباطل كالدَّسِّ واللَّبْس في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله، وفي الحديث النبوي، وفي نصوص القرآن، وكذلك في التفسير القرآني؛ بحيث يفقد الباحث عن الحقيقة الطريق الصحيح.
يمثِّل هذه القياداتِ: تلاميذُ المستشرقين، وجيش جرَّار من العملاء في صورة أساتذة، وفلاسفة، ودكاترة، وباحثين، وكُتَّاب وشُعَراء وفنَّانين أحيانًا، وصحفيِّين، يَحْمِلون أسماءً إسلامية.
يقوم هذا الجيش بمهمة خَلْخَلة العقيدة في النُّفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث، وعلم، وأدب، وفنٍّ، وصحافة، وتوهين قواعد هذه العقيدة من الأساس، والتهوين من شأن العقيدة والشريعة على السَّواء، وتأويلها وتحميلها ما لا تُطِيق، والدَّق المتصل على رجعيتها، والدعوة للتفلُّت منها، وإبعادها عن مجالات الحياة، وابتداع تصوُّرات ومُثُل وقواعدَ للشُّعور والسلوك تُناقِض وتحطم أسُسَ العقيدة ذاتها، كما تقوم بتزيين تلك التصوُّرات المبتدعة بقدر تشويه أمور العقيدة، كما تقوم بالدَّعوة إلى إطلاق الشهوات، وسَحْق القاعدة الخلقية التي تقوم عليها هذه العقيدة، إضافة إلى تشويه التاريخ وتشويه النصوص.
يقول "حسين أحمد أمين" وهو شقيق الدكتور "جلال أمين" ساخرًا من الماضي والأيَّام المَجيدة التي عاشها الصَّحابة والتابعون: "إن الأُمَّة التي تُصِرُّ على التمسُّك بأساطيرَ لا أساس لها من الواقع - من الصعب أو من المستحيل عليها أن تتقدَّم... وليس ثمَّة مَخْرج لنا من هذا التحجُّر الذي نعانيه، سوى بالكفِّ عن الحنين إلى الماضي، إلى ماضٍ هو - إلى حدٍّ كبير - مِن نَسْج خيالنا نحن، وخيال مؤرِّخينا، وإلى الأيام المجيدة التي عاشها الصحابة والتابعون؛ وعن التحسُّر على أنفسنا، والسير هائمين وقد الْتَوَت أعناقنا من فَرْط تلَفُّتِنا إلى الوراء، بدلاً من التطلُّع دومًا إلى مستقبل أفضل، ببذل المزيد فالمزيد من الجهد في الإنتاج"؛ حسين أحمد أمين، "دليل المسلم الحزين حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية"، مكتبة مدبولي، 1987، الطبعة الثانية، ص276.
يكرهون الإسلام، كلُّ هؤلاء جميعًا من أهم عوامل ضياع شباب الأمة؛ لأنَّ التجارة التي يقومون بها ويربحون عن طريقها هي تجارة لا تقيم وزنًا للأخلاق القائمة على الدين، وتعمل على إطلاق الحرية للأولاد والبنات، والرِّجال والنساء، بلا ضابط، والإسلام بنظافته وتطَهُّره، وأخلاقه المرتفعة، التي يربِّي أبناءه عليها - لن يُتيح لهم الوجود والتكاثُر والرِّبح وَفْقَ هذا الأسلوب؛ ولذلك يكرهون الإسلام.
4- ما يُسمَّى برجال الدِّين:
يشير كُتَّاب إسلاميُّون إلى فئة أخرى من الناس من المفروض أن تكون مُهِمَّتها أن تسدَّ الفجوة بين الدين والمجتمع، لكنَّها في واقع الأمر تزيد من هذه الفجوة، وتعمل على اتِّساعها، هذه الفئة هي فئة ما يُسَمَّون بـ "رجال الدِّين"، الدِّين عند أصحاب هذه الفئة حِرْفة وصناعة، وليس عقيدة حارَّة دافعة، أصحابُها يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؛ مما يُفْقِد الناس الثِّقة في الدِّين بعدما فقدوا الثقة بهم، وهم كما يصفهم الكُتَّاب الإسلاميُّون: "يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويَدْعون إلى البرِّ ويُهْمِلونه، وهذه آفة تصيب النفوس بالشكِّ لا في الدُّعاة وحدَهم، ولكن في الدعوات ذاتها، تُبَلْبِل قلوب الناس وأفكارهم؛ لأنَّهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحًا، فتتملَّكهم الحيرة بين القول والفعل، وتَخْبو في أرواحهم الشُّعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النُّور الذي يشعُّه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدِّين بعدما فقدوا الثقة بـ (رجاله)".
يقول "ابن القيِّم" في هؤلاء القوم: "كلُّ مَن آثر الدُّنيا من أهل العلم واستحبَّها، فلا بد أن يقول على الله غير الحَقِّ في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه؛ لأنَّ أحكام الربِّ - سبحانه - كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيَّما أهل الرِّئاسة، والذين يتَّبعون الشهوات، فإنَّهم لا تَتِمُّ لهم أغراضهم إلاَّ بمخالفة الحقِّ ودفعه كثيرًا، فإذا كان العالِم والحاكم مُحِبَّيْن للرِّئاسة، مُتَّبِعَيْن للشَّهوات، لم يتم لهم ذلك إلاَّ بدفْع ما يُضادُّه من الحق، ولا سيَّما إذا قامت له شبهة، فتتَّفق الشبهة والشهوة، ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق، وإن كان الحقُّ ظاهرًا لا خفاء به، ولا شبهة فيه أقدمَ على مخالفته، وقال: لي مَخْرجٌ بالتوبة"؛ "الفوائد" لابن القيِّم.
5-المرأة المسلمة المتحرِّرة بصفة خاصَّة تَكْرَه الإسلام:
إنَّ المرأة المسلمة المتحرِّرة نتاج تخطيط مرسوم، ارتكَز على غَرْس العداوة في نفسها للإسلام بكلِّ السُّبل الممكنة، وعلى قاعدة قِوامها: "لا بُدَّ من إفساد الأم، ولا بُدَّ من إخراج العقيدة من قلبها إذا أريد قتل العقيدة على المستوى الأشمل"، وعلى قاعدة أخرى صاغها العالِمُ اليهودي "مورو بيرجر" قوامها: "أن المرأة المسلمة المتعلِّمة هي أبعد أفراد المجتمع عن تعاليم الدِّين، وأقدر أفراده على جَرِّ المجتمع كله بعيدًا عن الدِّين"، ثم قاعدة ثالثة قوامها: "أن أيَّ تدمير للعقيدة لم يكن ليُثمرَ ثمرته إذا بقيت المرأة بالذَّات مُسْلِمة، جاهلة أو غير جاهلة"؛ ولهذا كان تصميم أعداء الإسلام على إنتاج جيلٍ من النِّساء لا يعرف الإسلام، وكان السبيل للوصول إلى هذه النتيجة هو التعليم.
لم يكن التعليم المقصود للمرأة هو تعليمها لِتَكون مسلمة، ولكنَّه التعليم المدمِّر للعقيدة، الذي يقوم على غير أسُسٍ إسلامية، تكون محصِّلته في النهاية أن تتحرَّر المرأة من الإسلام.
ومن المعروف أن الإسلام الذي جعل العلم فريضةً على كلِّ مُسْلِم ومسلمة - لم يكن لِيَقِف في سبيل تعليم المرأة، لو أنَّه هو المُحَكَّم في الأرض، ولكنه بطبيعة الحال لم يكن ليسمح بتعليم المرأة - ولا الرجل - تعليمًا يُنَفِّرهما من دين الله، ومن سُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
اعتمدتْ سياسة التعليم المُوَجَّهة من الغَرْب، سواء في المدارس الحكومية أم مدارس التنصير المحلية والأجنبية، ثم الجامعات اليوم - على تخريج جيل من المسلمين والمسلمات لا تَبْعد مشاعرهم عن الإسلام فحَسْبُ، بل ينفرون من الدِّين نفورًا، ويكرهونه كرهًا.
إن الأم هي التي تُنَشِّئ التَّنشِئة الأولى للطفل، وطالما أنها مسلمة، فإنها ستَبْذر في نفوس أطفالها بُذور العقيدة في السنوات الأولى من حياتهم، حتى ولو كانت جاهلة، ومهما كان التخطيط لإفساد المرأة، فستظل هذه البَذْرة التلقائية تَرُدُّهم عن الفساد الكامل، وتعيدُهم إلى الصَّواب ولو بعد حين، لكن المرأة المسلمة حين تتحرَّر، فلن تقوم بعْدُ بِبَذْر بذور العقيدة في نفوس أبنائها، ما دامت هي لا تؤمن بهذه العقيدة، وليس لها في حياتها حساب، بل ما دامت نافرةً من هذه العقيدة، كارهةً لهذا الدين.
أكثر من قرنين من الزمان وأعداء الإسلام في جهد ناصب لصرف المسلمين عن الإسلام، اعتمدوا فيه بصفة مِحْوَريَّة على المرأة المسلمة، واعتقدوا أنه بِصَرْفها عن الإسلام قد لا يحتاجون إلى رصد الجهود لمحاربة المسلمين، والدُّعاة، والمؤمنين؛ لأنَّ المرأة التي قاموا بتعليمها و(تحريرها) لن تلد له من الأصل أبناءً مؤمنين.
وقد كانت محصِّلة كل ذلك جيلاً من الشباب - الأبناءوالبنات - فَسدَ في المدارس والجامعات، وانجرَف في تيَّار التفلُّت الأخلاقي، صارت حياتهم علاقات مُخْتلطة، وحياة مختلطة في الرحلات والمعسكرات، وفي المصانع، والمتاجر، والدَّواوين، والطُّرقات، انغمسوا في علاقات وحُبٍّ كاذب قد يُفْضي إلى علاقة محرَّمة، أو زواج عرفي في أرقى حالاته، أمَّا حياتهم المعتادة فتدور حول أغنية مائعة، أو قصة مثيرة، أو راقصة تحرِّك غرائزهم، أو لحظة جنس يمارسونها خُفْية أو علانية في غيبة من دين الله، الذي لن يُتيحَ لهم بنظافته وتطهُّرِه وترفُّعه هذه الأوحالَ التي يغوصون فيها، انجرف الشباب وراء غرائزهم حتى أغرقَتْهم الشَّهوات، وأعمَتْهم عن إدراك ما فعَلَتْه هذه الشهوات في أُمَم قد خلَتْ، وأمم ماثلة أمامهم، وحينما غرقوا لم يُفيقوا، بل كانوا يَكْرهون مَن يوقِظُهم من مُتْعَتِهم، ويطلب منهم الارتفاع إلى الأعلى.
6- جماهير عريضة من الناس لا تَكْره الإسلام كعقيدةٍ، ومع ذلك لا تحبُّ تطبيقه في واقع الحياة:
هذه الجماهير تريد الإسلام عقيدة مستترة في القلب أو - على أكثر تقدير - عقيدة يصلِّي لها الإنسان ويصوم، أمَّا ما وراء ذلك فهو بالنِّسبة لهم تعَبُ قلب ليس له لزوم، إنَّهم يريدون البَحْبحة بغير قيود، يريدون أن يتسلَّوا بالسينما - ولو كانت فاجرة - وبرقصات التليفزيون، وبالأغاني الفاضحة، ويرونها مجرَّد تسلية، يريدون أن يكذبوا، ويغتابوا، ويتجسَّسوا بحرِّية، لا يقول لهم قائل: هذا حرام وهذا حلال، ويريد رجالٌ منهم أن يستمتعوا بالفتنة التي تَعْرِضها المرأة في الطرقات، ويريد نساء منهم أن يَسْتمتعْن بالقدرة على إغراء أولئك الرجال، وأن يتبرَّجْن في الملبس والزِّينة بقيود أو بلا قيود، ويريد أولئك وهؤلاء ألاَّ يشعروا بأنهم مُخْطئون في ذلك كلِّه ما داموا حسَنِي النِّية.
ينتهي الأستاذ "محمد قطب" من تشخيصه لموقف الفئات المختلفة من الإسلام إلى ما يلي:
أوَّلاً: أن هذه الفئات المختلفة قد التقَتْ مصالحها، ومنافعها، وأهواؤُها على كراهية الإسلام، وتساوَتْ في هذه الكراهية الفئاتُ المستكبِرَةُ والفئات المستضْعَفة، فكلُّهم له مصالح ومنافع، وشهوات يحرص عليها، ولا يريد أن يحرمه منها هذا الدِّين.
ثانيًا: أن الناس كما يشعرون في قرارة أنفسهم بمقدار ما انحرفوا فيه عن الحقِّ، وحكَموا بالهوى، واستسلموا للشَّهوات، يعرفون أيضًا مقدار ما تَحْرِمهم العقيدة الصَّحيحة - حين تحكم في الأرض - من مصالِحَ ومنافع وشهوات اختلسوها اختلاسًا في غيبة هذه العقيدة، وبسبب هذه الخشية وهذا الخوف على المصالح والمنافع والشَّهوات، يقف الناس من الإسلام موقِفَ القتال والعناد، يستوي في ذلك الأقوياء والضُّعفاء، فلكلٍّ منهما مصالِحُ ومَنافع وشهوات يحرص عليها، ويكره أن تَحْرِمها منه هذه العقيدة حينما تَحْكم بالحقِّ، فتنتهي المصالِحُ الفاسدة والمنافع المنحرفة، ويقف الحقُّ في طريق الشهوات.
ثالثًا: أنَّ ضَعْف أثَرِ الدِّين في حياة الناس وواقِعِهم لا يَعْني ضعف الدِّين، ولا يعني ضعف صِلَتِه بالمجتمع، أو أن الواقع مستقلٌّ عن العقيدة، إنما يعود إلى أسباب أخرى وروابط أخرى لا صِلَة لها بالدِّين، فهذا التصوُّر غير حقيقي، وهو من آثار المفاهيم الغربية لعلاقة الدِّين بالواقع.
رابعًا: حين يضعف أثر الدِّين في حياة الناس الواقعية، فمعنى ذلك أنَّ العقيدة قد فسَدَت في النُّفوس، ومعناه كذلك أنَّ الحياة كُلَّها لا تسير سَيْرَها الطبيعي، وأنها واقعة لا مَحالة في لون من ألوان الانْحراف، سوف تَظْهر آثاره الحتميَّة بعد حين.
خامسًا: حين يضعف أثر الدِّين في حياة الناس الواقعية، فمعنى ذلك أنَّ الناس لا يعبدون الله حقَّ عبادته، بمعنى أنهم لا يُفْرِدونه بالعبادة، ويشركون معه آلهة أخرى، هي التي يُحكِّمونها في حياتهم الواقعية، بدلاً من أن يُحكِّموا الله ومنهج الله في حياتهم، فأول فساد في العقيدة هو تعدُّد الآلهة التي يرجع الناس إليها، وحين يكون هذا التعدُّد، يضعفُ أثر العقيدة في عالَمِ الواقع؛ لِتَوزُّع إشعاعاتها وانكسارها، بدلاً من تجمُّعها ووحدة اتِّجاهها، هذه السِّمة تتبعها حتمًا نتائجها، وإن كانت بطيئة في ظهورها، فلا يحسُّها الناس في بَلادَةِ وَعْيهم إلاَّ بعد حين.
سادسًا: أوَّل نتائج هذا التعدُّد، هو توزُّع خُطا الكائن البشري على الأرض: خطوة مشدودة إلى الله، وخطوة مشدودة إلى (الواقع) المنحرف، الذي شَرد عن منهج الله؛ وتضارُب القِيَم في نفس الإنسان، فهو ينظر إلى قيمةٍ ما على أنها عالية حسب المنهج الربَّاني، وينظر إلى قيمة أخرى على أنها هابطة حسب الواقع المنحرف عن منهج الله، وينظر إلى قيمة ثالثة على أنها قيمة محرَّمة في المنهج الربَّاني لكنها (مطلوبة) أو (ضروريَّة) في واقع الحياة.
سابعًا: يمارس هذا التوزُّع ثقله على مَشاعر الناس وضمائرهم، وإن لم يَشْعروا به إلاَّ بعد أجيال، فينطلق (الواقع) بعيدًا عن إشعاع العقيدة؛ أيْ: تنطلق (الآلهة) الجديدة بعيدًا عن منهج الله، فتفسد الأرض، ثم تزداد فسادًا على فساد، وينتهي الأمر إلى سيطرة الآلهة الجديدة على الحياة.
هذه هي الأسباب التي جعلَت الناس يكرهون الإسلام، إنَّها المنافع والمصالح والشهوات، ومع ضعف الدِّين وفساد العقيدة غفل الناس عن حقيقة مُهمة أكَّد عليها علماء الشريعة، مُؤدَّاها: "أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - خلَقَ الخلق غير عالمِين بوجوه مصالحهم، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية، وأن المصالح التي تقوم بها أحوال العباد لا يعرفها حقَّ معرفتها إلاَّ خالِقُها وواضعها، ولا يعرف مصالح العباد إلاَّ الذي وضعها وخلقها، وليس للعبد بها علمٌ إلاَّ في بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيًا في مصلحة نفسه بطريق لا يصل به إلى هذه المصلحة عاجلاً أو آجلاً، وقد يصل إلى هذه المصلحة، ولكنها قد تكون ناقصة وغير كاملة، أو يكون فيها مفسدة تزيد على المصلحة التي يرجوها، وكم من مُدَبِّرٍ أمرًا لا يتمُّ له على كماله أصلاً، ولا يجني منه ثمرة أصلاً! ولهذا بعث الله النبيِّين مُبشِّرين ومنذرين، فإذا كان كذلك، فالرُّجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوعٌ إلى وجه حصول المصلحة، بخلاف لو كان الرُّجوع إلى ما خالف الشرع"؛ "الموافقات" للشاطبي، بتصرُّف ج 1، 243.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: