د. ضرغام عبد الله الدباغ
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9401
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في 22 تموز 1987 أطلق مجهول النار على رسام الكاريكاتور العربي الفلسطيني ناجي العلي بهدف قتله. وقد نجح القاتل في ذلك. ولكن من نافلة الكلام القول، أن ناجي العلي لم يكن بذاته هو الهدف، بل كان فنه وريشته، ونحن بحضورنا هنا وعرضنا لأعماله التي لا تنسى، نثبت أن تلك الرصاصات لم تصب الهدف.
لقد قتل ناجي العلي باستخدام سلاح ناري ولاذ القاتل بالفرار. بينما كان ناجي العلي يرسم علانية، مستخدماَ فكره وريشة بسيطة، ولكن ريشته تلك كانت تفضح القتلة وأساليب القتل والتدمير، إن الجناة وجدوا أن هذه العبقرية لا يمكن مقابلتها إلا بالرصاص وهذه الريشة لا يمكن مبارزتها إلا بالسلاح، لذلك قرروا قتله، وهنا أصبح الصراع غير متكافئ: ريشة مقابل أسلحة فتاكة، كما شعبه الأعزل في المخيمات مقابل أحدث الأسلحة من الطائرات والدبابات.
لقد أعلن القتلة أن ليس بوسعهم الرد على الفن بالفن، وعلى الرأي بالرأي، والحجة بالحجة.
ثم اكتشفنا لاحقاً أن أسم ناجي العلي كان قد وضع على قائمة الإرهاب. ولذلك قتل ناجي ألعلي. وسوف نواصل نحن محبي الفن والحوار والتفاعل الإنساني، حمل القلم والريشة، أما فن ناجي العلي فسيبقى معلقاَ كإفادة شاهد عيان.
ناجي العلي لم يمت، بل تحول إلى دين ثقيل في ذمة الذين اغتالوه وعلى محبي الحرية والكلمة والفن, وأكتسب أسمه ميزة خاصة، فهو من الرسامين النادرين في التاريخ الذين تعرضوا للاغتيال بسبب رسومهم. نعم لقد قتل مفكرون وطورد محررون، فقد أعدم جوردانو برونو Giordano Brono ، وكاد أن يلاقي غاليلو غاليلي نفس المصير. وطورد مارتن لوثر، ثم أعدم يوليوس فوجيك Julius Fucik، وأغتيل مارتن لوثر كينج، أما على الصعيد الفلسطيني، فقد أستشهد قبله الروائي غسان كنفاني والشاعر كمال ناصر والناقد وائل زعيتر والأديب محمود الهمشري وآخرون غيرهم...
ولكن أن يطال الاغتيال رساماَ فهذه سابقة لا مثيل لها، أفتتحها ناجي العلي ورسم آخر لوحة له بدمائه.
كان ناجي العلي، وهنا تبرز عبقريته فنان كاريكاتور، ذلك الفن الذي تلتحم فيه قوة الخطوط مع الفكرة العميقة التي تهز المشاهد بقوة، أنه الفن الذي لا يعتمد على سحر الألوان والضلال، بل إنه فن إعطاء الأحداث والشخصيات، بما في ذلك المؤلم منها، طابع السخرية . والفنان ربما يريد بذلك منح القوة والقدرة على احتمال ما لا يمكن احتماله عبر السخرية والابتسامة، وفي الوقت نفسه، ينطوي هذا الفن على إمكانية توجيه النقد إلى الشخصيات والأحداث ( سياسية على الأغلب) عبر فن الرسم.
وتعبر انطلاقة هذا الفن في عصر النهضة Renaissance التعبير عن القيمة الفنية والإنسانية التحررية لهذا الضرب من الفنون، حيث ابتدأ بتوجيه النقد إلى الكنيسة وأمراء الإقطاع، وأزدهر في القرن السادس عشر والسابع عشر، في عصر التنوير والليبرالية ثم أنتشر الكاريكاتور بصفة فعالة مع ازدهار عصر الصحافة حيث أحتل الكاريكاتور مكاناَ بارزا في ممارسة تأثيراَ واسعاَ على الجماهير في القرن التاسع عشر.
ناجي العلي أقتحم هذا العالم الرحب، عالم الكاريكاتور، وهو المهندس الميكانيكي وأبدع فيه. فبالإضافة إلى الرؤية الشاملة العميقة والتصميم الذي امتازت به أعماله، وإلى جانب قوة العمل التكنيكي وارتفاع مستوى وعي الموضوع Motivation، أنطوت على رؤية بانورامية عريضة. وبموجب هذا التقيم العالي، أعتبر ناجي العلي مبدعاً ليس في وطنه العربي أو الفلسطيني فحسب، بل على الصعيد العالمي. وأني لأعتقد أن ذكرى ناجي العلي وأعماله ستبقى حية زمناَ طويلاَ، وهو وإن سقط، لكن الضوء الذي أطلق سراحه سيبقى مشعاَ لن يقوى الرصاص على إخماده.
هكذا عمل ناجي العلي ممسكاَ بالريشة يحاول وضع الابتسامة على أفواه المعذبين، وأن يفتح نوافذاَ للضوء والريح. وكان مدركاَ أنه يزعج الطغاة، ولكنه كان يقبل الخطورة والمجازفة من أجل الحرية، ولم يكن ليقبل الأمان مع الخضوع. ولكن الذين اغتالوه ما يزالون حتى اليوم يخشون ضلال ريشته. فقد قال الأديب الفرنسي البير كامو : " أن الخير هو حلم مشروع، مؤجل بلا انقطاع وملاحق بجهد مضن، أنه حد لا يمكن الوصول إليه قط وامتلاكه مستحيل. والشر وحده يستطيع أن يمضي حتى حدوده " .
لقد قذف ناجي العلي بريشته وسط بستان وطنه وأمته، فأنبتت آلاف الريشات، فقد حاولوا عبثاَ أن يمنعوا فنانين عرباَ من إنتاج فلم سينمائي، عنوانه يتألف من كلمتين فقط :
ناجي العلي .
يرقد ناجي العلي في مقبرة بلندن حيث اغتيل، ينتظر أن يعود يوماَ إلى وطنه في قرية الشجرة شمال فلسطين.
فمن يدري، لعل موت ناجي العلي الجسدي خطوة على الطريق ؟
ألم يقل بول أيلوار في أحد شهداء المقاومة الفرنسية :